السجودُ بين الأصالة والتغيير ( 4 )
د . احسان الغريفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . احسان الغريفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إنَّ مِن تماميَّة الدِّين وكمال النعمة إتباع أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فلولاهم لما بقي أثرٌ من آثار رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولأجل حماية الدِّين من التحريف والتغيير كانت وصية رسول اللهبلزوم القرآن وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، لأنهما الوسيلة الوحيدة لنجاة الإنسان من التيه والضلال، وقد وردت الروايات الصحيحة التي تصرّح بذلك؛ قال إمام السنّة الثعلبي: روى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعتُ رسول الله يقول: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله جلّ جلاله من السماء وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).
لذا التزم الشيعة بمنهج القرآن الكريم وأهل البيت(عليهم السلام)، فكان لهم الفوز بالمحافظة على العقائد الإسلامية الصحيحة، والعبادات الأصيلة الخالية من التغيير، ومنها السجود، فتبعاً لسنة النبي التي نقلتها مصادرنا، ولسيرة آل بيتهوللنصوص الواردة عنهمأفتى علماءُ الإمامية بوجوب وضع الجبهة في حالة السجود على الأرض أو ما أنبتت بشـرط أن لا يكون النبات مما يؤكل أو يلبس؛ وقد سأل هشام بن الحكم الإمام أبا عبد الله قائلاً:
"أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لا يجوز؟ قال:
السجود لا يجوز إلاّ على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أُكل أو لُبِس، فقال له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟
قال: لأن السجود خضوع لله عزّ وجل، فلا ينبغي أن يكون على ما يُؤكل أو يُلبس، لأن أبناءَ الدنيا عبيدُ ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عزّ وجل فلا ينبغي أن يضعَ جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزَّ وجل"(2).
وقال رئيسُ المحدثين أبو جعفر الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه: قال أبي رحمه الله في رسالته إليَّ: أُسجُدْ على الأرض أو على ما أنبتت الأرض ولا تسجدْ على الحصر المدنية لأن سيورها من جلد، ولا تسجد على شعر ولا صوف ولا جلد ولا إبريسم ولا زجاج ولا حديد ولا صفر ولا شبه ولا رصاص ولا نحاس ولا ريش ولا رماد، وإن كانت الأرض حارة تخاف على جبهتك الاحتراق أو كانت ليلة مظلمة خفت عقربا أو شوكة تؤذيك فلا بأس أن تسجدَ على كمك إذا كان من قطن أو كتان، وإن كان بجبهتك دمل فاحفر حفرة فإذا سجدت جعلت الدمل فيها، وان كانت بجبهتك علة لا تقدر على السجود من اجلها فاسجد على قرنك الأيمن من جبهتك، فإن لم تقدر عليه فاسجد على قرنك الأيسر من جبهتك، فإن لم تقدر عليه فاسجد على ظهر كفك، فإن لم تقدر عليه فاسجد على ذقنك لقول الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا[الإسراء/107-109]، ولا بأس بالقيام ووضع الكفين والركبتين والإبهامين على غير الأرض، وترغم بأنفك، ويجزيك في وضع الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين مقدار درهم، ويكون سجودك كما يتخوى البعير الضامر عند بروكه، تكون شبه المعلق لا يكون شيء من جسدك على شيء منه(3).
فالسجود على التراب هو الأفضل، لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزَّ وجل، وهو سنّة الرسول(صلى الله عليه وآله) وسنّة أهل بيته(عليهم السلام)، وكذلك كانت سيرة علماء الصحابة والتابعين، كما أوضحنا ذلك في الحلقات السابقة، فالسجود على التربة ليس بدعة كما زعم أتباعُ النهج الأموي في العصر الحاضر، بل حتَّى أنَّ مِنْ بني أمية مَن كان يسجد على التراب، فقد رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِتُرَابٍ فَيُوضَع عَلَى الْخُمْرَة فَيَسْجُد عَلَيْهِ، [قال ابن حجر] وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلهُ عَلَى جِهَة الْمُبَالَغَة فِي التَّوَاضُع وَالْخُشُوع(4).
فسجودنا على التربة كذلك لأجل الْمُبَالَغَة فِي التَّوَاضُع وَالْخُشُوع لله تعالى، كما تقدَّم في قول الإمام أبي عبد الله(عليه السلام): "السجودُ على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزَّ وجل".
فإن قيل لِمَ لا تضعون التراب على السجادة دون التربة الحسينية؟ قلنا لسنا أوَّل من سجد على التربة بل سجد عليها الصحابة والتابعون، كما روي عَنْ مَسْرُوق أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ لَبِنَةً لِيَسْجُدَ عَلَيْهَا إِذَا رَكِبَ السَّفِينَة،[قال ابن حجر] وَالْقَوْل بِالْجَوَازِ هُوَ الْمُعْتَمَد(5).
فابن حجر يجيز السجود على التربة بغض النظر عن البقعة التي أخذت منها.
فإن قيل: إنَّ أغلب المسلمين لم يسجدوا على التربة؟
قلنا: سجودهم لا يعدّ حجة خصوصاً بعد ما ظهر من النصوص والبراهين التي أُثْبِتَ فيها أن السجودَ على الأرض مباشرة هو السجود الصحيح، إضافة إلى أنَّ هناك أموراً كثيرة غُيِّرَت في الصلاة عما كانت عليه في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومنها السجود على الأرض أو ما أنبتت الأرض، فتَفَرُّدُ بعض السلف بسيرة معينة أو اجتهادات خاطئة لا يعدّ حجة وإن وافقه الكثير من الناس، كاجتهاد عائشة، وعثمان بترك صلاة القصر في السفر، وقد روى ذلك البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ فَقُلْتُ: لِعُرْوَةَ مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟!
قَالَ: تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ(6).
وكما صلَّى معاوية بن أبي سفيان صلاة الجمعة في وقت الضحى بالنخيلة!
ومن العجيب أن معاوية بن أبي سفيان صلى بجيشه عند مسيرهم إلى صفين صلاة الجمعة في يوم الأربعاء،(7). ولم يعترض عليه أحد من الجنود!
كما أن معاوية وحكام بني أميّة قدَّموا الخطبة على صلاة العيدين خلاف للمتعارف في زمن الرسولمن أن الخطبة تكون بعد الصلاة، ولم يعترض أغلب المسلمين على كلّ تلك المخالفات الصريحة لسنَّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وراح الكثير من أتباع بني أمية يقلِّد هذه الاجتهادات الخاطئة وهم يحسبون أنَّهم يعملون بسنَّة رسول الله(صلى الله عليه وآله).
وختاماً: قد ثبت من خلال دراسة مصادر أهل السنَّة أنَّ السجود على الأرض وما أنبتت هو السجود الأصيل الذي كان عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبعض علماء الصحابة والتابعين.
المصادر:
(1) تفسير الكشف والبيان للإمام الثعلبي (ت. 427هـ): 3/ 163[سورة آل عمران،الآيات:130- 138].
(2) من لا يحضره الفقيه للصدوق: 1/177، [باب علة النهي عن السجود على المأكول والملبوس دون الأرض وما أنبتت من سواهما].
(3) نفس المصدر السابق: 1 / 174 – 175 ،[باب ما يسجد عليه وما لا يسجد عليه].
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر:1/644[كتاب الصلاة/إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد].
(5) نفس المصدر السابق::1/642[كتاب الصلاة/الصلاة في السطوح والمنبر والخشب].
(6) صحيح البخاري: 205[كتاب تقصير الصلاة/باب يقصر إذا خرج من موضعه-ح. 1090].
(7) مروج الذهب للمسعودي: 1 / 362[من أخلاق معاوية وعاداته].
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat