زوار الحسين.. يوم العَطَش الأكبر !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
قلوب الشيعة تتلهَّف إلى كربلاء، ويتقاطَرُ المؤمنون إليها في أربعين الحسين عليه السلام، أليست زيارة الأربعين من علامات المؤمن ؟!
ينظُرُ المؤمنُ الغائبُ عن كربلاء اليوم إلى الحشود بشوقٍ وحَنين، ويرقب ما يظهر من آثار الزيارة وبركاتها، وقد علمَ شيئاً من عظمتها، حين صار ملائكة الرحمان في السماء أكثر دعاءً للزوار ممن يدعو لهم في الأرض!
فعن الصادق عليه السلام: مَنْ يَدْعُو لِزُوَّارِهِ فِي السَّمَاءِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْعُو لَهُمْ فِي الْأَرْضِ (كامل الزيارات ص117).
لكنَّ لدعاء سادةِ أهل الأرضِ أثراً يفوق دعاء أهل السَّماء، فعن الصادق عليه السلام:
إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ (ص) تَحْضُرُ لِزُوَّارِ قَبْرِ ابْنِهَا الْحُسَيْنِ (ع) فَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ (كامل الزيارات ص118).
يحضُرُ الزوار لزيارة الحسين عليه السلام، فتردُّ الزهراء (ع) تحيَّتَهم بخيرٍ منها، حين تستغفر لهم، أفلا يعودُ الزائرُ بالفلاح والنجاح وقد استغفرت له الزهراءُ ربَّها في أيام وَلَدِها الشهيد ؟!
ثمّ يترحَّمُ عليه آل محمد عليهم السلام، كما يقول الصادق عليه السلام عن الزائر: أَمَّا مَا لَهُ عِنْدَنَا فَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ (كامل الزيارات ص325).
إنَّ نظرةً من آل محمد تَجبُرُ القلبَ الكسير، وتُحيي الروح الميتة، وتبعثُ الحياة في النفوس، وتورث منازل القُرب من ربِّ العِباد، فكيف بالترحُّم كلَّ صباح ومساء ؟! وأيُّ ترحُّم..
فهذا الصادق عليه السلام يخاطب ربه تعالى فيقول: فَارْحَمْ تِلْكَ الْوُجُوهَ الَّتِي غَيَّرَتْهَا الشَّمْسُ، وَارْحَمْ تِلْكَ الْخُدُودَ الَّتِي تَتَقَلَّبُ عَلَى حَضْرَةِ أَبِي عَبْدِ الله الحُسَيْنِ (ع).
ثم يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَوْدِعُكَ تِلْكَ الْأَبْدَانَ، وَتِلْكَ الْأَنْفُسَ حَتَّى تُوَفِّيَهُمْ عَلَى الحَوْضِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ (كامل الزيارات ص117).
ههنا معانٍ أو جهات أربعة تستحق التأمُّل:
الأوَّل: الوديعة
وعادةً ما تكون شيئاً ثميناً اعتادَ النَّاس حفظه عند من يثقون بهم.. والوديعة هنا هي (أبدان) و(أنفُسُ) زوّار الحسين عليه السلام !
ولئن كانت الأنفُسُ قد آمنت بالله تعالى وبالنبي صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة، فاستحقَّت أن تكون وديعةً الإمام عند الله، فإنَّ الأبدان قد أشخصت لزيارتهم عليهم السلام، وقد دعا الصادق عليه السلام للزوار الذين: أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَشْخَصُوا أَبْدَانَهُمْ، رَغْبَةً فِي بِرِّنَا، وَرَجَاءً لِمَا عِنْدَكَ فِي صِلَتِنَا !
فاستحقَّت أبدانُهم كأرواحهم عظيمَ المنزلة عند الله، وهم الذين قال فيهم المعصوم أنهم أعلم الناس بالله تعالى، وأقوم الناس بحقِّ آل محمد عليهم السلام، وأنَّهُم مصابيح في ظلمات الجور، فالوديعةُ ثمينَةٌ جداً، لأنَّها تُمَثِّلُ صفوة الإنسانية وعُصارَتها، فلا تصلُ البشريَّةُ لهدفها المنشود لولا هؤلاء العارفين بالله تعالى وبحق أوليائه في سمائه وأرضه.
الثاني: المُستَودِع
صاحبُ الوديعة هنا هو الإمام المعصومُ، يقول الصادق عليه السلام: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَوْدِعُكَ)، وكلَّما عَظُمَ أمرُ المودِع كلَّما عظُمَت الوديعة، فأصحابُ الشأن الرفيع يودعون ما كان ثميناً حقّاً في مواطن الحفظ والأمن.
وطالما كَشَفَ اهتمامُ العُظَماء بأمرٍ عن أهميَّته، فليس اهتمامهم بصغائر الأمور كاهتمامهم بعظيمها.
فما يكون حالُ الوديعةِ لو كان المودِعُ واحدَ دهره ؟! ليس له مثيلٌ في الأرض ولا في السماء ؟!
فالإمام: وَاحِدُ دَهْرِهِ لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ، وَلَا يُعَادِلُهُ عَالِمٌ، وَلَا يُوجَدُ مِنْهُ بَدَلٌ، وَلَا لَهُ مِثْلٌ وَلَا نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ ! (الكافي ج1 ص201)
فما مقدارُ عَظَمَةِ الوديعة لو كان مُودِعُها هو هذا الشخص العظيم الذي تتصاغَرُ العُظماء أمامه ؟!
الثالث: المُستودَع
إنَّ العظيمَ يختارُ الودائع الثمينة، ويبحثُ لها عن محلٍّ أمين، تُحفَظُ فيه إلى أجلٍ مكتوب، وآل مُحمدٍ أعظَمُ الخلق على الإطلاق يستودعون الإله الخالق العظيم العليم، وقد استودعوه زوّار الحسين عليه السلام فقال صادقهم عليه السلام: وَإِنَّا نَسْتَوْدِعُهُمُ الَّذِي لَا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ (كامل الزيارات ص87).
زوار الحسين وديعةٌ مضمونةٌ عند الله تعالى، الإله الخالق العظيم، أودَعَها أعظم مخلوقٍ وأرفعه درجة وأعلاه مكانة، فما أبدَعَها من صورةٍ تُظهِرُ عظمَةَ زوّار الحسين عليه السلام ! تحارُ لها العقول، أليست أمراً يرتبط بآل محمد حيرة الكمَّل ؟!
الرابع: أمدُ الوديعة وغايَتُها
ما إن تشخص أبدان الزوار إلى كربلاء، حتى يصيروا أمانةً ووديعةً عند الله تعالى، حتى يأتي يومٌ تُسترَدُّ فيه الوديعة.. وأمَدُ هذه الوديعة هو يوم القيامة حيثُ تُستوفى على الحوض: حَتَّى تُوَفِّيَهُمْ عَلَى الحَوْضِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ !
مَن الذي يستوفي هذه الوديعة يوم الحساب ؟! إنَّهُ الساقي على الحوض، عليٌّ عليه السلام، وهو الذي يخصُّ زوّار الحسين عليه السلام بأن يكونوا أوَّلَ مَن يردُ الحوض وأول من يروى منه !
فعن الصادق عليه السلام في زائر الحسين عليه السلام:
أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (ع) قَائِمٌ عَلَى الْحَوْضِ:
1. يُصَافِحُهُ.
2. وَيُرَوِّيهِ مِنَ المَاءِ.
3. وَمَا يَسْبِقُهُ أَحَدٌ إِلَى وُرُودِهِ الْحَوْضَ حَتَّى يَرْوَى.
4. ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ الْجَنَّةِ (كامل الزيارات ص123).
عجيبةٌ هذه المفارقات..
يُقتلُ الحسين عطشاناً، بعدما قال له القوم: وَنَحْنُ غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى تَذُوقَ المَوْتَ عَطَشاً ! (الأمالي للصدوق ص159).
فيصيرُ العطشُ عذابَ الهُونِ يوم القيامة: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ﴾!
ويصيرُ زوّار الحسين ومحبّوه أوَّل من يُروى يومَ القيامة على يد أبيه أمير المؤمنين عليه السلام! حين يستوفيهم يوم العطش الأكبر.
عجيبةٌ هذه المعادلة، وقد قال النبي (ص) للحسين عليه السلام: وَإِنَّ لَكَ فِي الجَنَّةِ دَرَجَاتٍ لَا تَنَالهَا الا بِالشَّهَادَةِ (الأمالي للصدوق ص152).
لقد نالَ بالشهادة درجاتٍ عظيمة، ثم نالَ زوّارُه قصبَ السبق في ورود حوض القيامة!
اللهم أوردنا حوضهم يوم العطش الأكبر، وارزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم، وثبِّتنا على ولايتهم كما أحييت قلوبنا بحبِّهم، واجعلنا ممن قال فيهم وليّك: الحَمْدُ لله الذِي جَعَلَ فِي النَّاسِ مَنْ يَفِدُ اليْنَا وَيَمْدَحُنَا وَيَرْثِي لَنَا.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat