الإنتقام.. لفاطمة !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وآله حديثٌ يستغربُهُ كثيرٌ من الناس، قال فيه صلى الله عليه وآله:
لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَهْلِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَعِتْرَتِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ عِتْرَتِهِ ! (الأمالي للصدوق ص335).
ولئن اتَّصَفَ الكُمَّلُ من المؤمنين بذلك، فإنّا لا نَلحظُ أنَّ جميع أهل الإيمان قد صاروا على هذه الشاكلة، فهل يُنفى الإيمان عنهم ؟!
لقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله حديثٌ آخر يُبيِّنُ صِفَةً تكشفُ وجهاً آخر لهذا الخبر، حيثُ يصيرُ المؤمن فيه مُحبَّاً له صلى الله عليه وآله أكثر من نفسه، ولعترة النبي (ص) أكثر من عترته.. ذاك حيث يُخاطب صلى الله عليه وآله قوماً فيقول لهم:
أَ رَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَطَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْكُمْ فَنَالَ مِنْهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ، كَانَ العَفْوُ عَنْهُ أَفْضَلَ ؟ أَمِ السَّطْوَةُ عَلَيْهِ وَالِانْتِقَامُ مِنْهُ ؟
قَالُوا: بَلِ العَفْوُ، يَا رَسُولَ الله.
إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله قد حثَّ الناس على العفو، وفضَّلَهُ على الإنتقام، فصارَ العفوُ لمن يقدرُ عليه أفضل وأكملَ من الانتقام، لكنَّ هذه القاعدة لا تسري إذا ما كانت الأذية واقعةً على النبيِّ صلى الله عليه وآله نفسه، فإنَّ العفو لا يظلُّ راجحاً، بل يكون الإنتقام أفضل.
قال النبي (ص) لهم:
أَ فَرَأَيْتُم لَوْ أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَنِي عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِسُوءٍ، وَتَنَاوَلَنِي بَيْدَهُ كَانَ الِانْتِقَامُ مِنْهُ وَالسَّطْوَةُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ أَمِ العَفْوُ عَنْهُ ؟
قَالُوا: بَلِ الِانْتِقَامُ مِنْهُ أَفْضَلُ.
قَالَ: فَأَنَا إِذَنْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (الأمالي للطوسي ص416).
يؤسِّسُ هذا الحديثُ لقاعدةٍ تفيد أن العفو عمّن يتناول النبيَّ صلى الله عليه وآله بسوء قولاً أو فعلاً هو أمرٌ مرجوح، وأنَّ الانتقام منه هو الراجح، وأنَّ مَن يتنازل عن حقه ويعفو عنه ولا يتنازل عن حقَّ النبي ولا يعفو عنه هو محبٌّ للنبي (ص) أكثر من حبِّه لنفسه.
وكذا مَن عفا عن ظلمٍ أصابَه أو أصاب عترته، ولم يعفُ عن ظُلمٍ أصابَ العترة الطاهرة، فإنَّهُ أكثرُ حباً لهم من عترته..
وهكذا يتسامى العبدُ في مراتب الإيمان بحسب معرفته بالنبي (ص) وآله الأطهار.
وإذا كان للنبي (ص) ولعترته الطاهرة خصوصية عند الله تعالى، تجعل العفوَ عن ظالميهم قبيحاً، لم يكن دُعاءُ النبيِّ على هؤلاء بدعاً من القول، وقد أكثر من دعائه على ظالمي ابنته الزَّهراء عليها السلام، فقال تارة:
اللهمَّ العَنْ مَنْ ظَلَمَهَا، وَعَاقِبْ مَنْ غَصَبَهَا، وَذَلِّلْ مَنْ أَذَلَّهَا، وَخَلِّدْ فِي نَارِكَ مَنْ ضَرَبَ جَنْبَهَا حَتَّى القَتْ وَلَدَهَا ! (الأمالي للصدوق ص114).
فخَرَجَ هؤلاء من رحمة الله تعالى بلَعنِ النبيِّ (ص) لهم، ثم استحقوا أليم عقابه لسوء فِعالهم.
لقد قدَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وآله الشكوى لربِّه على ظالمي بضعته، وقد قال لها قبل وقوع الظُّلم:
مَنْ ظَلَمَكِ فَقَدْ ظَلَمَنِي، لِأَنَّكِ مِنِّي وَأَنَا مِنْكِ، وَأَنْتِ بَضْعَةٌ مِنِّي، وَرُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، ثُمَّ قَالَ (ص): إِلَى الله أَشْكُو ظَالِمِيكِ مِنْ أُمَّتِي (كشف الغمة ج1 ص498).
ثم يصيرُ النبيُّ خصيماً لهؤلاء يوم القيامة، فقد روي عنه (ص) أنه قال لها عليها السلام:
والّذي بعثني بالحقّ، لأقومنّ بخصومة أعدائك، وليندمنّ قومٌ ابتزّوا حقّك، وقطعوا مودّتك، وكذبوا عليّ (طرف من الأنباء والمناقب ص193).
فإن قال قائلٌ:
إنَّ هذا يتنافى مع عظمة النبي (ص)، وقد وصفه تعالى بأرفع الأوصاف فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ﴾ (القلم4)، فهَل ينسجمُ الإنتقام مع الخُلُقِ العظيم؟
إنَّ عظمة النبي (ص) لا تتناسب مع خصومته لهؤلاء، ودعائه عليهم، فما ينسبه له الشيعة هو كذبٌ وافتراءٌ عليه صلى الله عليه وآله، يحاولون به تبرير عداوتهم لأعداء الزهراء عليها السلام.
قلنا:
لقَد غابَ عن القائل أنَّ الإنتقام بالحقّ لأهل الحقّ حَقٌّ راجح، قَد وَقَع مِن إله محمدٍ صلى الله عليه وآله، فكيف لا يقع منه صلوات ربي وسلامه عليه؟! فلماذا يُنهى الشيعة عنه ؟!
لقد وَصَفَ الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بأنَّهُ ﴿عَزيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ (آل عمران4).
وقد انتقمَ مِن أقوامٍ كذَّبوا بآياته في هذه الدُّنيا، فهؤلاء قوم فرعون قد قال عنهم: ﴿فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي اليَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلينَ﴾ (الأعراف136).
بل كان الإنتقامُ الإلهيُّ سَيّالاً شمَلَ المجرمين الذين كذبوا برسله، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنينَ﴾ (الروم47).
لقد أبكت مُصيبةُ الزَّهراء سيِّدَ الكائنات ليلة وفاته بكاءً عجيباً، حتى هملت عيناه مثل المطر !
لقد ضمَّ الزهراءَ إليه، وقبَّلَ رأسها وقال: فِدَاكِ أَبُوكِ يَا فَاطِمَةُ !
فَعَلَا صَوْتُهَا بِالبُكَاءِ، ثُمَّ ضَمَّهَا إِلَيْهِ وَقَالَ:
أَمَا وَالله لَيَنْتَقِمَنَّ الله رَبِّي، وَلَيَغْضَبَنَّ لِغَضَبِكِ، فَالوَيْلُ ثُمَّ الوَيْلُ ثُمَّ الوَيْلُ لِلظَّالِمِينَ.
فإذا لم يُسامح المؤمن ظالمي آل محمد، ورأى أنَّهم يستحقون الإنتقام، فلأنَّ النبيَّ صلى الله عليه رأى ذلك..
والمنتقِمُ حقاً هو الله تعالى: (أَمَا وَالله لَيَنْتَقِمَنَّ الله رَبِّي)، فليس للمخالف أن يؤاخذ الشيعة على رغبتهم بالإنتقام من ظالمي الزَّهراء، لأنهم تبعوا النبي (ص) في ذلك.
لقد أبكَت مصيبتها النبي (ص) بكاءً عجيباً لا يمكن تصوُّره، حتى قال فيه أميرُ المؤمنين عليه السلام:
فَوَ الله لَقَدْ حَسِبْتُ بَضْعَةً مِنِّي قَدْ ذَهَبَتْ لِبُكَائِهِ، حَتَّى هَمَلَتْ عَيْنَاهُ مِثْلَ المَطَرِ، حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ وَمُلَاءَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَلْتَزِمُ فَاطِمَةَ لَا يُفَارِقُهَا (طرف من الأنباء والمناقب ص191).
لا بدَّ أن يتناسبَ العقابُ مع الجُرم، فليس جُرمُ فرعونَ عندما لحقَ موسى عليه السلام وقومه فانتقم الله منهم وأغرقهم كجُرمِ من آذى محمداً صلى الله عليه وآله في بضعته.
إنَّ الإنتقام الحقَّ سيأتي يوم تأتي السماء بدخانٍ مبين، ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ (الدُّخان16).
هناك، في ذلك اليوم العجيب، يبطشُ الله تعالى بمَن استحقوا الإنتقام، وأوَّلهم من بين كلِّ البشر ظالمي الزهراء عليها السلام.
إنَّ البطشَ هو: التناول عند الصولة. والأخذ الشديد في كل شيء (العين ج6 ص240).
فالبطش بنفسه هو الأخذ الشديد، لكنَّ الله تعالى يصفُ بطشه الشديد بأنّه شديد ! فيقول تعالى: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَديدٌ﴾ (البروج12).
فهو بَطشٌ ليس كأيِّ بطش، بَطشٌ شَديدٌ لا يُمكن الإحاطة بحدوده، لكنّ هذا البطش على مراتب، فمنه البطش الشديد، وأما أعظمه فهو ﴿البَطْشَةَ الكُبْرى﴾.
فما هو مصيرُ مَن استحقَّ بطش الله الشديد، بل بطشة الله الكبرى، وكان قد ارتكب أعظم جريمةٍ في تاريخ البشرية وحاضرها ومستقبلها ؟!
كيف بمن أسَّسَ أساس الظُّلم والجور على آل محمد ؟!
كيف بِمَن أبكى النبي (ص) قبل وفاته، ثم أبكى آل محمد أجمعين وشيعتهم إلى يوم الدين ؟!
لقد استحقَّ هؤلاء إنتقاماً رهيباً في الدنيا، وآخر في الآخرة:
أما انتقام الدّنيا، فعند خروج الإمام المهدي عليه السلام، واستخراج جثتيهما، حيث: يَأْمُرُ بِهِمَا فَيُقْتَصُّ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِمَظَالِمِ مَنْ حَضَرَ، ثُمَّ يَصْلِبُهُمَا عَلَى الشَّجَرَةِ، وَيَأْمُرُ نَاراً تَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ فَتُحْرِقُهُمَا والشَّجَرَةَ، ثُمَّ يَأْمُرُ رِيحاً فَتَنْسِفُهُمَا فِي الْيَمِّ نَسْفاً».
ثمَّ يُردّان كي يقتصَّ وينتقم منهما النبي (ص) والعترة الطاهرة والمؤمنون الكمّل: حَتَّى إِنَّهُمَا لَيُقْتَلَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ قَتْلَةٍ، وَيُرَدَّانِ إِلَى مَا شَاءَ الله (مختصر البصائر ص450).
أما يوم القيامة، فإنَّ أول من يدخل النار: إِبْلِيسُ وَرَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ وَرَجُلٌ عَنْ يَسَارِهِ.
وإنَّ أشدَّ الناس عذاباً ذلك اليوم: اثْنَانِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَحَدُهُمَا شَرُّهُمَا، فِي تَابُوتٍ مِنْ قَوَارِيرَ تَحْتَ الْفَلَقِ فِي بِحَارٍ مِنْ نَارٍ (ثواب الأعمال ص215).
لهذا يؤمن الشيعة بالإنتقام.. إنتقامٌ إلهيٌّ لا دافع له، فكانوا بهذا ممَّن أحبَّ النبيَّ وآله حقاً وصِدقاً.
أمّا مَن يزعم أنَّه يُحِبُّ النبي (ص) وهو لا يتبرأ ممَّن آذاه في حياته وبعد وفاته، بل يوالي ويحبّ من اعتدى على بضعته، فإنَّه كَذوبٌ في دعواه..
إنَّ ميزانَ محبَّة النبي (ص) اتِّباعه، والبراءة من أعدائه وأعداء عترته، وتفضيل الإنتقام منهم على العفو عنهم..
تلكَ إرادة السَّماء، لا يحيدُ عنها المؤمنُ دهره.. ثبَّتنا الله عليها، وحشرنا مع الزَّهراء وأبيها وبعلها وبنيها، وعَجَّلَ في فَرَج الآخذ بثأرها، إنّه سميعٌ مجيب.
والحمد لله رب العالمين.
الثلاثاء 23 جمادى الاولى 1443 هـ
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat