تبارك صباح
حين أعلنت الأرض نبأ وفاة محمد (ص) نبأ انقطاع الوحي عن الأرض، نبأ افتقاد المنقذ والمحرر للإنسانية برمّتها.
ويبلغ النبأ بضعته الطاهرة الزهراء (عليها السلام) فتهبّ مذهولة من شدّة الصدمة العنيفة التي فوجئت بها، تضجُّ بالبكاء وهي تردّد: "وا أبتاه، إلى جبريل أنعاه، وا أبتاه، جنّة الفردوس مأواه وا أبتاه، أجاب رباً دعاه... ".
وراحت تردّد هذه الكلمات بحرقة وألم شديدين، وعاشت فاطمة (عليها السلام) المأساة بكل أبعادها، فقد رحل عنها دفء المودة والحنان، رحل عنها الحبيب محمد (ص)، وها هو مسجىً بين يدي المسلمين، وسوف يحمل - بعد مدة - إلى مثواه الأخير حيث يغيب شخصه الكريم عن عينيها، يغيب إلى الأبد، وسيكون اللقاء في دار الخلود والنّعيم.
رسمت فاطمة (عليها السلام) هذه الحقائق أمام ناظرها وتصوّرته في ذهنها، فاندفعت تشفي غليلها، ولكن بحسرات وآهات انعكست لوعة وبكاءً ودموعاً غزيرة، فهي ترى أنّ الدُنيا كئيبة فاقدة للنُّور مظلمة جوانبها، تعيش حالةً من الاضطراب والرّجفان.
وحين تتصوّر فاطمة (عليها السلام) الحياة هذا التّصور بعد أبيها، إنّما تتصور حقيقة لا خيالاً أو مبالغة؛ لأنّ أباها كان لهذا الكوكب الأرضيّ ومن فيه وما فيه سراجاً وهّاجاً أضاء لها السبيل وخلّصها من التيه والشرور، وعلّمها دروب السعادة والسلام.
فحقيق بفاطمة وحقّ لها أن تقول فيه ما تقول.
ويتولى وصيُّة (عليٌّ) غسله وتجهيزه، وجاء - بعدئذ - وقت الصلاة عليه حيث يدخل عليٌّ، وجماعة من أهل البيت (عليهم السلام) حيث يتلو عليٌّ قوله تعالى: "إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيُّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً" ويردد من حضر الآية نفسها، ثم يأمر علي بقية المسلمين بالدُّخول على الرسول جماعةً بعد جماعة يرددون الآية نفسها، وكانت تلاوة هذه الآية على الرّسول هي بمثابة الصّلاة عليه.
ثم تولّى عليٌّ وبعض أهل البيت (عليهم السلام) مواراته في قبره الشّريف وبعد دفنه ازدادت أتراح فاطمة، وأخذ الأسى مأخذه من نفسها، فراحت تنشد الأبيات المحزنة لتتعزّى بها:
قل للمغيّب تحت أطباق الثرى
إن كنت تسمع صرختي وندائيا
صُبت عليّ مصائبٌ لو أنّها
صُبّت على الأيام صرن لياليا
قد كنتُ ذات حمىً بظلّ محمدٍ
لا أختشي ضيماً، وكان جماليا
فاليوم أخشع للذّليل وأتّقي
ضيمي، وأدفع ظالمي بردائيا
فإذا بكت قُمرية في ليلها
شجناً على غصن بكيت صباحيا
فلأجعلنّ الحزن بعدك مؤنسي
ولأجعلنّ الدّمع فيك وشاحيا
ماذا على من شمّ تربة أحمدٍ
أن لا يشمّ مدى الزّمان غواليا
نعم، هكذا عاشت فاطمة مأساتها، فهي قد تجلببت بجلباب من الحزن، وجعلت منه سلوةً لها ومؤنساً ما دام شخص محمد قد غُيّب في جدثه، وقد تحقّق ما أعلنته فاطمة، وتغنّت به، حيث روي عنها: أنّها ما وُجدت مبتسمةً بعد أبيها - على الإطلاق - حتّى زارها الموت حيث التحقت بعميدها محمد، ليكفكف دموعها، ويضمّد جراحها.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat