صفحة الكاتب : الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي

على ضفاف الانتظار (16)
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بين السيدة نرجس وأُم موسى عليه السلام

يُخطئُ من يعتقدُ أنّ طريقَ التكاملِ في هذه الحياة خاصٌ بالرجالِ دون الإناث، ولا نحتاجُ إلى استدلالٍ على هذه الدعوى، فإنَّ الوقوعَ أدلُّ دليلٍ على الإمكان، والتاريخُ حفظَ لنا سِيَر نماذج من النساء اللاتي بلغن ما يبلغه الرجال وأكثر، من قبيل ما رويَ عن ابن عباس قال: "خط رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) أربع خطط، ثم قال: «خيرُ نساءِ الجنة: مريمُ بنت عمران، وخديجةُ بنت خويلد، وفاطمةُ بنت محمد، وآسيةُ بنت مزاحم امرأةُ فرعون»
ومن النساءِ اللائي وصلْن إلى مراتبَ عاليةٍ من الكمال، هما السيدةُ نرجس أُم الإمام المهدي (عليه السلام)، والسيدةُ أُمُّ النبي موسى (عليه السلام)
ويبدو من النصوصِ أنَّ هناك عدّةَ أوجهٍ للتشابُه بينهما، وما جرى عليهما، ومن تلك الوجوه:
الوجه الأول: إنَّ كلًّا منهما كانتْ أُمًّا لمولودٍ يكونُ هو المُخلّصَ لقومه من الظلمِ والجور:
فالنبيُ موسى (عليه السلام) هو من أنقذ اليهودَ من بطش الفراعنة، والإمامُ المهدي (عليه السلام) هو الذي سيملأ الأرضَ قسطًا وعدلًا بعدما تُملاً ظلمًا وجورًا.
الوجه الثاني: إن كلًا منهما ولدت ابنها في ظرفٍ سياسيٍ صعبٍ جدًا:
حيث كانَ طغاةُ العصرِ يتربّصون ولادته، لِـمَـا وصل إلى أسماعهم بأنَّ المولودَ الذي سيحاربُ الظلمةَ ويقضُّ مضاعهم هو من سيولدُ في عصرهم.
وفي ذلك جاءَ عن الإمامِ الصادق (عليه السلام): «أَمَّا مَوْلِدُ مُوسَى (عليه السلام)، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَـمَّا وَقَفَ عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ، أَمَرَ بِإِحْضَارِ الْكَهَنَةِ، فَدَلُّوهُ عَلَى نَسَبِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَقِّ بُطُونِ الْحَوَامِلِ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى قَتَلَ فِي طَلَبِهِ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَوْلُودٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَى قَتْلِ مُوسَى (عليه السلام) بِحِفْظِ اللهِ (تَبَارَكَ وَتَعَالَى) إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْعَبَّاسِ، لَـمَّا وَقَفُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَمُلْكِ الْأُمَرَاءِ وَالْجَبَابِرَةِ مِنْهُمْ عَلَى يَدِ الْقَائِمِ مِنَّا، نَاصَبُونَا الْعَدَاوَةَ، وَوَضَعُوا سُيُوفَهُمْ فِي قَتْلِ آلِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله) وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ طَمَعًا مِنْهُمْ فِي الْوُصُولِ إِلَى قَتْلِ الْقَائِمِ، وَيَأْبَى اللهُ (عزّ وجل) أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَ الظَّلَمَةِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ‏ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ...»
الوجه الثالث: إخفاء الحمل:
ولأجلِ هذا الظرفِ السياسي الصعب، فإنَّ الحكمةَ الإلهية شاءتْ أنْ يُخفى الحملُ عن عيون الناظرين والمُتربصين الدوائر بولي الله تعالى، فخفيَ حملهما، وحفظهما الله (تعالى) من أنْ يقعا في أيدي الطغاة، إلى أنْ أتمّا الحملَ وولدتا المولود المنقذ قومَه من الطغاة، والروايةُ السابقةُ تُشيرُ إلى هذا المعنى.
وفي روايةِ السيدةِ الحكيمة: أنَ الإمامَ الحسن العسكري (عليه السلام) قال لها: «... بِيتِيَ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا، فَإِنَّهُ سَيُولَدُ اللَّيْلَةَ المَوْلُودُ الْكَرِيمُ عَلَى اللهِ )عز وجل)، الَّذِي يُحْيِي اللهُ (عز وجل) بِهِ الْأَرْضَ‏ بَعْدَ مَوْتِها»، فَقُلْتُ: مِمَّنْ يَا سَيِّدِي؟ وَلَسْتُ أَرَى بِنَرْجِسَ شَيْئاً مِنْ أَثَرِ الْحَبَلِ، فَقَالَ: «مِنْ نَرْجِسَ، لَا مِنْ غَيْرِهَا»، قَالَتْ: فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا فَقَلَبْتُهَا ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَلَمْ أَرَ بِهَا أَثَرَ حَبَلٍ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ (عليه السلام) فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَعَلْتُ، فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ لِي: «إِذَا كَانَ وَقْتُ الْفَجْرِ يَظْهَرُ لَكِ بِهَا الْحَبَلُ، لِأَنَّ مَثَلَهَا مَثَلُ أُمِّ مُوسَى (عليه السلام) لَمْ يَظْهَرْ بِهَا الْحَبَلُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ إِلَى وَقْتِ وِلَادَتِهَا، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَشُقُّ بُطُونَ الْحُبَالَي فِي طَلَبِ مُوسَى (عليه السلام)، وَهَذَا نَظِيرُ مُوسَى (عليه السلام)»
الوجه الرابع: إبعاد الولد عنها:
إنَّ كلًا منهما اُبتُليتا بإبعادِ ولدها عنها مؤقتًا بأمرٍ من الله (تعالى)، وإنَّ هذا الإبعادَ كان لأجل حفظ المولود من الهلاك.
قال (تعالى) في شأن أُم النبي موسى عليه السلام: ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ 7 فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ 8 وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَـى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 9 وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 10 وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 11 وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ 12 فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (القصص: 7-13).
ونفس المعنى ورد في حق الإمام المهدي ¨، ففي رواية السيدة حكيمة  أنها قالت: فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «يَا عَمَّةُ، تَنَاوَلِيهِ وَهَاتِيهِ»، فَتَنَاوَلْتُهُ وَأَتَيْتُ بِهِ نَحْوَهُ، فَلَمَّا مَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ وَهُوَ عَلَى يَدَيَّ، سَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ، فَتَنَاوَلَهُ الْحَسَنُ (عليه السلام) مِنِّي، [وَالطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ]، وَنَاوَلَهُ لِسَانَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «امْضِي بِهِ إِلَى أُمِّهِ لِتُرْضِعَهُ وَرُدِّيهِ إِلَيَّ»، قَالَتْ: فَتَنَاوَلْتُهُ أُمَّهُ فَأَرْضَعَتْهُ، فَرَدَدْتُهُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَالطَّيْرُ تُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ، فَصَاحَ بِطَيْرٍ مِنْهَا فَقَالَ لَهُ: «احْمِلْهُ، وَاحْفَظْهُ، وَرُدَّهُ إِلَيْنَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً»، فَتَنَاوَلَهُ الطَّيْرُ وَطَارَ بِهِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَاتَّبَعَهُ سَائِرُ الطَّيْرِ، فَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ الَّذِي أَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى مُوسَى»، فَبَكَتْ نَرْجِسُ، فَقَالَ لَهَا: «اسْكُتِي، فَإِنَّ الرَّضَاعَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ ثَدْيِكِ، وَسَيُعَادُ إِلَيْكِ كَمَا رُدَّ مُوسَى إِلَى أُمِّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ : ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ [القَصص: 13]».
قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا الطَّيْرُ؟ قَالَ: «هَذَا رُوحُ الْقُدُسِ المُوَكَّلُ بِالْأَئِمَّةِ ݜ يُوَفِّقُهُمْ، وَيُسَدِّدُهُمْ، وَيُرَبِّيهِمْ بِالْعِلْمِ( )»( ).
الوجه الخامس: التسليم:
إن كلاً من السيدتين (عليهما السلام) فارقتا مولودهما في بدايات ولادته، ولا شك أن هذا الأمر صعب جداً على الأُم، والذي عبّرت عنه الآية الكريمة في شأن أُم موسى (عليه السلام): ﴿وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
وفي رواية السيدة حكيمة المتقدمة: (فَبَكَتْ نَرْجِسُ، فَقَالَ لَهَا: «اسْكُتِي فَإِنَّ الرَّضَاعَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ ثَدْيِكِ، وَسَيُعَادُ إِلَيْكِ كَمَا رُدَّ مُوسَى إِلَى أُمِّهِ...).
ولم ينقل لنا التاريخ اعتراض إحدى السيدتين على هذا الأمر، وما بدر منهما (من أنَّ فؤاد أمِّ موسى أصبح فارغًا، ومن بكاء السيدة نرجس) ما هو إلّا حالةٌ طبيعيةٌ فطريةٌ في الأُم، إذ في قلبها كيلٌ عظيمٌ من الحُبّ لولدها.
الوجه السادس: التأييد الإلهي:
فكلٌّ منهما مرّتْ بامتحانٍ صعب، لا نتوقع أنْ تتمكن الأُمُّ من اجتيازه من دون التوفيق الإلهي، ولذا لطف الله (تعالى) بهما وأيدهما بالصبر والإيمان، وهو ما صرحت به الآيات السابقة في أُم موسى (عليه السلام): ﴿إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/12/29



كتابة تعليق لموضوع : على ضفاف الانتظار (16)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net