صفحة الكاتب : زهير كاظم عبود

العدالة الانتقاليَّة التي غابت عنا
زهير كاظم عبود

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في ظل الأنظمة التي تستولي على السلطة بأساليب الانقلاب العسكري، أو التزوير وسلوك الطرق غير الشرعية، غالباً ما يكون نتاج تلك العمليات حكومات عسكرية أو دكتاتورية أو فاشلة، وفي ظل تلك السلطات يتم ارتكاب جرائم بحق الأفراد وبحق الجماعات، وهذه الجرائم منها ما يأخذ الشكل المباشر أو غير المباشر، كما أنه غالباً ما ترتكب تلك السلطات جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحروب وانتهاكات للقوانين ولحقوق الإنسان ضد مواطنيها أو ضد شريحة معينة منهم، غير أن أية جهة قانونية أو تشريعية أو قضائية في البلد لا تستطيع محاسبة أو محاكمة تلك السلطات التي تنعكس نتائج سلوكها من خلال الأفعال التي يجسدها الأشخاص المسؤولون المتهمون بارتكاب تلك الجرائم، وغالباً ما تلجأ تلك السلطات إلى تطويع النصوص القانونية وجعلها في خدمتها وحماية سلطتها، سواء بالإلغاء أو الإضافة أو التعديل أو إيقاف العمل بتلك النصوص، تحت مزاعم عدة منها التحجج بالوضع الاستثنائي والضرورة الملجئة والظروف القاهرة وفترة الحروب وغيرها من تلك الحجج، كما أنها تفسر الدستور وفقاً لرغبتها وما ينسجم منه مع مسار سلطتها وما يضمن استمرار بقائها، وحين يتم اسقاط تلك السلطات، تقوم مهمة العدالة في الفترة الانتقالية، إذ تتجه الأمور إلى تغيير في بنية وسياسة الدولة وفي طريقة محاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم والانتهاكات وفقاً للقانون، وفي التزام الجميع بنصوص الدستور، حينها يستوجب أن تتم المحاسبة ضمن تلك الفترة لعناصر السلطة البائدة.  

وإذ يعني مفهوم العدالة الانتقالية تلك المناهج التي تبحث في كيفية معالجة مخلفات الدكتاتورية والأنظمة الاستبدادية وغير الشرعية، وبالتالي فإنها مفتاح التحقيقات عن الجرائم المرتكبة بحق الأفراد وفقاً للمعايير القانونية، وتطبيقاً للمعايير الديمقراطية التي تصير منهجاً للعمل بديلاً عن سلوك تلك الأنظمة، وتسعى تلك المناهج إلى كشف الحقائق ومحاسبة المذنبين وتعويض المتضررين وتقصي الحقائق لتوثيقها وتسجيلها للتاريخ، بالإضافة إلى اعتماد معايير التسامح والمصالحة وإعادة ما تهدم من البناء السياسي والاجتماعي وأية رؤى أخرى تدخل في صلب حقوق الإنسان. 

وإذ تتشعب مهام العدالة الانتقالية وفقاً للدراسات والأفكار في سبل معالجة محاكمة المجرمين وإنزال العقاب القانوني بحقهم، فإنها أيضاً ترسم وفقاً للبحوث والدراسات ما يتعلق بمعنى المصالحة والمصارحة والتسامح من أجل إعادة بناء المجتمع في ظل السلام المدني والممارسة الديمقراطية واعتماد الشرعية في أسلوب وإدارة الحكم، وبالتالي فإنها تعد بمثابة التأهيل بعد فترة الانحسار التي كان يعيشها المجتمع في ظل تلك الأنظمة. 

كما يعني مصطلح العدالة الاجتماعية جميع الإجراءات التي تقوم بها السلطات الشرعية القائمة على أنقاض السلطات الغاشمة والدكتاتورية المتهمة بارتكاب الجرائم بحق المواطنين وانتهاكات حقوق الإنسان والخروقات الواضحة للقانون الدولي.

ووفقاً لما تطرحه الدراسات من أفكار تأسيس المجتمع الآمن وتعزيز أسس العدالة والقانون وترسيخ مبادئ المصالحة الوطنية والسلام في تلك البلدان، من أجل البدء بتأسيس خطوات لازمة وضرورية لمسيرة اجتماعية. 

ولذا تسعى العدالة الانتقالية إلى أن تكون إجراءات عملية بعيدة عن الشعارات، وتصب في خدمة تأسيس مجتمع تحكمه القوانين والعدالة ويسوده الأمن والسلام، وألا يتكرر ما جرى من جرائم وويلات وانتهاكات، مع تثبيت مبدأ معاقبة الجناة، وتأسيس مرتكزات المصالحة الوطنية، ولهذا فإن عملها يتشعب بين توثيق ومحاسبة من ارتكب الفعل الإجرامي وفقاً للقوانين، وبين ايجاد المشاريع التي تعيد الحياة في المجتمع إلى طبيعتها بأقل خسارة ممكنة. 

وفي عملية التحول إلى الديمقراطية لا بد من ترسيخ أسسها، ومن مقومات ترسيخ تلك الأسس ما يتم طرحه في برنامج العدالة في الفترة الانتقالية التي تستوجب من ضمن منهجها، التحقيق القانوني في عمليات الإعدام خارج نطاق القانون، وكذلك حالات الإعدام التعسفي والتصفيات دون تحقيق أو محاكمة والتمسك بالدستور والقوانين التي ترسم وتساند السياسة العامة وفقاً لمفهوم العدالة الاجتماعية.
وتقوم مهمة العدالة الانتقالية استناداً إلى القوانين العقابية منها والإجرائية، لذا فإنها منظمة ولا تقوم على العواطف والانفعال في الفعل ورد الفعل، مع الاستعانة بالخبرة والمختصين في استجلاء الحقائق التي تتطلب تقريراً مفصلاً من جهة الاختصاص، كما ينبغي توفير الضمانات اللازمة لعنصر التحقيق في الحماية والاستقلالية، كما يستوجب توفر خبرة ودراية ليس فقط في عملية التحقيق، وإنما في حيثيات التاريخ ومجريات الأحداث، بالإضافة إلى إمكانية طلب المساعدة من الجهات القانونية الدولية لتقديم المساعدة في مجال القانون الدولي والوقائع المماثلة، سواء منها ما كان دولياً أو على شكل استشارة في القضايا التي لم يماثلها سابقاً. 

ويتطلب الأمر بالإضافة إلى كل هذا سرعة في الإنجاز، ومواكبة العمل وفقاً لكفاءة متميزة، وإكمال العمل في القضايا التحقيقية وتقديم المتهمين للعدالة لمحاكمتهم بالسرعة الممكنة بغية اختزال الزمن والوصول إلى الأحكام العادلة لغرض فرز من لا يتم توفر الأدلة ضدهم أو من لا تكفي الأدلة ضدهم للإحالة لترتيب إخلاء سبيلهم وإعادة دمجهم بالمجتمع. 

ومما أشار له جميع العاملين ضمن مشروع العدالة الانتقالية توفر الخبرة لدى القائم بالتحقيق، وهذه الخبرة لا توفرها المحاصصات الطائفية ولا السياسية، ولا التزاحم على المناصب والمزايا التي قد توفرها تلك المهمات، وإنما تكون الاستقلالية والنزاهة والسمو الأخلاقي والخبرة العملية والثقافية هي الفيصل في تلك المهمات، والتي تنتج أثرها المرجو ضمن تلك الفترة الحرجة والمهمة في عملية بناء المجتمع. 

وأهم ما تتطلبه مرحلة العدالة الانتقالية من موجبات العمل القضائي توفر النزاهة والسمو الأخلاقي والحيادية، مع تمسكه بالاستقلالية تمسكاً تاماً وعدم التأثر بأية طلبات أو رغبات أو توجهات تقتضيها الجهات السياسية أو الجهات الحكومية أو الحزبية. 

وبالنظر لإفراغ محتوى القانون في ظل النظام البائد، فستكون هناك مهمة لا تقل أهمية عن مرحلة التحقيق، وهي مهمة تشخيص التشويه الحاصل للقانون وطرحه جانباً، وتشذيب النصوص القانونية بما ينسجم مع مبادئ العدالة والدستور٬ ومهمة توثيق الذاكرة الوطنية، وعلى هذا الأساس يكون لإصلاح النظام القانوني دور مهم في تنقية النصوص والقوانين بما يخدم المرحلة ويضمن تطبيق حقوق الإنسان، وإلغاء النصوص التي تعرقل العملية وتعيق تحقيق العدالة، وبالتالي فإن تدقيق الجوانب القانونية في إجراءات التحقيق والتمسك بالنصوص التي تفيد وتسهل تلك العملية مسألة تتقيد بها سلطة التحقيق في مرحلة العدالة الانتقالية، مع التمسك بمعيار حقوق الإنسان وتوفير الضمانات للمتهمين، بالرغم من الضغوط وحالات الاستغراب من لدن بعض الجهات التي قد لا يسرها تفعيل واعتماد مثل هذه الإجراءات، باعتبار أن المتهمين لم يوفروا مثل تلك الفرص للضحايا، غير أن تحقيق العدالة في هذه الفترة يعد تأسيساً لرصف الأسس التي ستقوم عليها دولة القانون، وبالتالي تصبح حقوق الإنسان نصوصاً دستورية ملزمة يعتاد عليها المواطن، ويتعمد الإشارة إليها والتمسك بها مستقبلاً. 

ومن أهم مقتضيات العدالة الانتقالية حماية المجتمع من الانفلات والرغبة في الثأر، والتي تعتمد على ضعف الحالة الأمنية، وانتشار الجريمة بين الجماعات المنظمة واتخاذها وسيلة لتحصيل المغانم، والاستخفاف بالقوانين، وانتشار السلاح خارج نطاق الدولة٬ هذه الحماية التي ينبغي أن تكون صارمة بحق الجميع وتشيع روح الطمأنينة والعدالة والاستقرار وتهدئ الأحوال، وإصدار قوانين تعالج الوضع الحالي لترصين أسس العدل وحماية المجتمع، وتكون هذه القوانين نابعة من مصلحة وحاجة الناس، وإرساء الأسس العامة للديمقراطية التي ما زالت بعيدة في السلوك والممارسة اليومية في المجتمع العراقي. 

ومن المفيد جداً أن تكون سلطة التحقيق ملمة بالقانون الدولي وبمعاهدات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى معرفتها بالتجارب الإنسانية في هذا المجال، وأن تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط الضحايا المعثور على رفاتهم في المقابر الجماعية، أو الأسماء المدرجة ضمن قوائم الضحايا الذين تم تنفيذ حكم الاعدام بحقهم دون محاكمة أو تحقيق، بل إلى العديد من الضحايا الذين لم ترد أسماء لهم ولم يتم العثور على رفاتهم، ولا يزالون مفقودين حتى اليوم. 

وهذه الحالات تصلح للتدقيق والتمعن والتحري، ولغرض استكشاف حقيقة اختفاء هؤلاء وعدم العثور على رفاتهم أو أماكن دفنهم أو قرارات اعدامهم، يتعين الاستعانة بتقارير حقوق الإنسان وشهادات الأهل والحلقات القريبة من دوائر الأمن أو المخابرات أو الجهات المعنية بالقبض على الضحايا، وأن تبذل الجهود من أجل الوصول إلى تلك الحقائق، وأن توفر كل الضمانات في سرية الشهادة والمحافظة على كتم الأسماء وتجنب ما يلحق من الضرر، بالإضافة إلى المكافآت المادية التي تمنحها تلك السلطات من أجل التوصل إلى تلك الحقائق.
ويسهم المركز الدولي للعدالة الانتقالية مساهمة فعالة في أداء الدور الإنساني والقانوني في هذا المجال، ولهذا فإن المركز يساعد الدول (المجتمع المدني والحكومات) التي تسعى إلى محاسبة المسؤولين بها عن ارتكاب أفعال وحشية على نطاق واسع أو انتهاكات لحقوق 

الإنسان. 

ويزاول المركز نشاطه في المجتمعات التي كانت ترزح تحت حكم قمعي أو كفاح مسلح، وكذلك في الدول الديمقراطية التي تعاني من مظالم تاريخية أو انتهاكات منهجية لم يبت فيها بعد.

ويقدم معلومات قياسية وتحليلات قانونية ووثائق ودراسات ستراتيجية إلى المؤسسات التي تسعى إلى إقرار العدل والحقيقة، وللهيئات المعنية سواء كانت حكومية أو غير حكومية.

ويساعد في إعداد ستراتيجيات للعدالة الانتقالية تضم خمسة عناصر رئيسة هي: الملاحقة القضائية لمقترفي الجرائم، وتسجيل الانتهاكات عن طريق وسائل غير قضائية مثل لجان البحث عن الحقائق، وإصلاح المؤسسات المخلة بالأصول السليمة، وتقديم التعويض للضحايا، وعقد المصالحات. 

ويلتزم المركز بإعداد الطاقات المحلية وتعزيز الجهود الناهضة في ميدان العدالة الانتقالية، ويعمل بالتعاون الوثيق مع المنظمات والخبراء المعنيين في شتى أنحاء العالم.

وبالرغم من مرور فترة ليست بالقصيرة على انهاء حقبة الدكتاتورية والشروع ببناء أسس دولة القانون٬ إلا أننا لم نزل لا نعير الاهتمام والانتباه المطلوب للعدالة الانتقالية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زهير كاظم عبود
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/01/18



كتابة تعليق لموضوع : العدالة الانتقاليَّة التي غابت عنا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net