لم يكن رئيس الوزراء نوري المالكي ( غشيما ) كما يسمّي العراقيون الشخص الذي لا يعرف شيئا مما يجري ، عندما قال ان اللذين جمعوا لاسقاطه لايستطيعون مجاراة المعادلة السياسية التي تحتاج لبقاءه على سدة الحكومة ، على الاقل في هذا الوقت . وقد قرن تصريحاته تلك في اقرب ساحات قوة خصومه ، حينما اجتمع باعضاء حكومته وترأّسهم في الموصل ، وعلامات الثقة كانت بادية على الرجل الذي وجّه كلامه وفعله لخصومه ، في نفس الفترة التي كان فيها هؤلاء الخصوم على اشد مايقوون فعله باعلانهم انهم جمعوا التواقيع النيابية القادرة على سحب الثقة منه .
فالبرزاني ذهب الى اقصى ما يستطيع ، ومثله فعل علاوي ، وقال زعيم الصدريين كلمته التي بدت انها آخر ما يمكن ان يصدر عنه في رفض استمرار المالكي على رأس الحكومة العراقية .
فما الذي بدا ، وماذا تغير ، لنرى ان المالكي مازال موجودا ، وخصومه في حيرة من امر ما جمعوا عليه ؟
الجواب واضح يعود بنا الى ما اشار اليهم به رئيس الوزراء نفسه من انهم ( غشيمين ) اي اضعف واقل فهما بما يدور حولهم من معادلات سياسية ، داخلية ، واقليمية ، ودولية . هذا هو الدرس الاول .
الدرس الثاني : وبغض النظر عما صارت وستصير اليه الامور ، وما يمكن ان يفضي اليه الخصام السياسي الدائر ، فان العنف الذي ضرب المدن العراقية في الاربعاء الدامي بنسخته الرابعة او الخامسة او السادسة او حتى العاشرة ، دليل صار واضحا في اكثر من مناسبة ، ان اي مضاربة سياسية بوجهيها الرابح والخاسر ، تنعكس دما وموتا جماعيا ، بأيد خفية ، تحصد العشرات والمئات من ارواح واجساد البسطاء من العراقيين ، طلبة وكادحين ، اطفالا ونساء وشيوخا .
فالدم الذي يراق على ارصفة بغداد ، والحلّة التي بلا ارصفة ، والاجساد الممزقة في صلاح الدين وكربلاء وبعقوبة وقضاء بلد ، هي نتاج عرضي لبورصة سياسية متواترة ، الخاسر منها مازال يمتلك اسهما لفصل اخر من المنازلة ، والرابح تزداد اسهمه صعودا صوب ما لايمكن توقعه من مفاجآت .
اما الدرس الثالث : فهو الذهاب الى فرضية نجاح سحب الثقة من رئيس الوزراء نوري المالكي ، ونتائجها على المستويات السياسية والامنية والاقتصادية .
فالعراقيون جرّبوا وعرفوا وخبروا ، ان الاطراف السياسية تحتاج الى اشهر عدة في احسن الحالات حتى تتمّكن من الاتفاق على اختيار وزير لمنصب سيادي ، هذا اذا امكن لها الاتفاق ، بحكم سياسة المحاصصة التي باتت كل المساحيق التجميلية عاجزة على اظهارها بصورة حكومة للشراكة الوطنية .
فما هو الزمن المتوقع لاختيار رئيس وزراء جديد ؟ حتى وان تم الاتفاق على انه من التحالف الوطني ، وهي الكتلة الاكبر في البرلمان التي يحق لها وحدها دستوريا تقديم مرشحها لهذا المنصب ؟ لا شك ان الوقت سيمتدّ الى اكثر ما يحتاجه اختيار وزير لاسباب كثيرة .
سياسيا ، وامنيا ، فان اللعب خلف الكواليس سيصبح فيلما بالابيض والاسود قد لا يجد الكثير من المتابعين لفصوله واحداثه ، وستتحول المبارزات والمضاربات الى حساب مكشوف لعورات اغلب السياسيين ، وهذه المرة ستصيب الكبار منهم قبل الصغار الذين لن يتوانوا عن الدخول في لعبة الارض المحروقة والذهاب الى نظرية ( عليّ وعلى اعدائي ) . ما ينعكس مباشرة وفي اول مظاهره على امن المواطن العراقي بمشاهد بشعة غير محسوبة العواقب ، تتحول في اول شرارة لها الى صراع لاطراف واجندات ، مخفية ومفضوحة ، في محاولات لترتيب حالة جديدة تتناسب مع هذا الطرف او ذاك على حساب المواطن الذي بات رخيصا بما يكفي للقول ، انه احيانا بلا ثمن .
اما الحديث عن تأثر الاقتصاد العراقي بالاوضاع السياسية والامنية المتوقعة ، فانه حديث مترف ، لان هذا الاقتصاد لم تتبلور وجهته بعد ، بعد مرور اكثر من تسعة اعوام على سقوط نظام صدام ، رغم المحاولات المستميتة التي تقوم بها الحكومة الحالية لجذب المستثمرين ، فالشركات الكبيرة والمهمة ما زالت تتخوف الدخول الى السوق العراقية لافتقاره الى ضمانات تكفل امكانية نجاح فرص استثمارية كبيرة فيه .
فكيف يمكن الخروج اذاً من حالة القطيعة التي وصلت اليها الزعامات السياسية الممثلة للاطياف العرقية والاثنية في العراق ، بما يحفظ ما تبّقى من الدم العراقي وماتحقق من منجزات ديمقراطية ، ومحاولات لانعاش الاقتصاد حتى وان كانت في مراحلها الاولى ؟
قد تكون الاجابة هنا غير مقنعة لبعض الاطراف التي تسعى لعملية جراحية للوضع السياسي العراقي ربما تقوده الى غرفة العناية المرّكزة ولا احد يمكن له ان يتنبّأ عواقبها ، لكنها ( اي تلك الاجابة ) هي الاقرب الى ما بنيت على اساسه العملية السياسية برمتها ، بالعودة الى اتفق على انه دستور للبلاد يحفظ الحد الادنى من الحقوق والواجبات الديمقراطية ، والقبول بنتائج العملية الديمقراطية حتى وان كانت موجعة لهذا الطرف او ذاك ، درأ لما تقدم من مخاطر وحفاظا على الانجازات ، وان نسعى دستوريا وحسب نظام متفق عليه الى عدم التجديد لولاية ثالثة لرئيس الوزراء ، طالما ان الرجل قد قطع شوطا طويلا في ولايته الثانية ، ولم يتبقى منها سوى اقل من نصفها الزمني . والانتقال الى حال جديدة تحددها صناديق الاقتراع واصوات الناخبين .
وهنا نكون قد اقتربنا من توجسات المنتقدين لسياسة رئيس الوزراء نوري المالكي ، وفي نفس الوقت نعطي الرجل استحقاقه حينما استحوذ على اصوات الناخبين ، وفاز بولاية ثانية لرئاسة الحكومة ، وفي الاتجاه الاخر وهو الاكثر اهمية ، تجنيب البلاد ، مخاطر الدخول في حزمة من العواقب مفتوحة الاطراف امنيا وسياسيا واقتصاديا .
مرة اخرى نقول : ان هذا المخرج من الازمة الخانقة التي يعيشها العراق قد يعتبره البعض مناورة سياسية لاضعاف الحشد الذي جمع لسحب الثقة من رئيس الحكومة .
ومرة اخرى ، فان ما دعانا الى هذا ، هو غياب البرنامج العملي البديل الذي يحفظ للعراقيين ماتبّقى لهم من حاضر ومستقبل .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat