التقلبات في المواقف السياسية التي نراها عند البعض من السياسيين العراقيين باتت اليوم ظاهرة لا يمكن التغاضي عنها ويستوجوب الوقوف عندها وفضحها دون مواربة ، لانها قد خرجت من اطار اللعبة الديمقراطية التي تتطلب في جانب منها اللعب على اوتار المواقف في مواجهة عقدة تستعصي على الحل ، وتتطلب مراوغة او ليونة في بعض الاحيان ، الى اطار المساومات الرخيصة التي لا تليق بصغار السياسيين في اي بلد من بلدان العالم .
وحينما نشير هنا الى التقلبات السياسية فاننا نعني بها المواقف التي يظهر فيها بعض السياسيين مدافعين حتى الاستماتة عن مشروع ما ، يبدو انهم مقتنعون به ، ثم ما يلبثوا بين ليلة وضحاها يهاجمون ذات المشروع ، وبذات الاستماتة التي كانوا حتى وقت قريب يتصدرون صفوف المدافعين عنه .
وقد يبدو الامر ملتبسا على الفهم ، خاصة بالنسبة لأولئك اللذين يعتقدون ان سواد من يتصدر المشهد العراقي هم من طبقة السياسيين اللذين يتحلون بالحنكة والدراية بالامور ماعرف منها وما بطن . وهم – اي المتصدرون – انما يتحاشون الوصول الى تلك العقدة التي يتم الخشية منها لان بعدها الطوفان ، لذلك تراهم يغيرون مواقفهم هنا ويستبدلونها باخرى هناك ، حفاظا على مايمكن الحفاظ عليه .
ولو بحثنا في بعض الاجوبة التي قد تزيل الالتباس في امر هؤلاء البعض ، نجد جوابا قد يطرح من باب الشفقة عليهم والرأفة في الحال الذي اوصلوا انفسهم فيه ، والذي يبرر مواقفهم المتقلبة ، على اساس ان لكل مجتهد نصيب ، وهو جواب يستند على مبدأ حسن النية والرغبة في معالجة ما فسد أو يكاد يفسد من امر .
ولمثل هؤلاء اللذين يلتبس عليهم الامر ، نقول ان البعض ممن نتحدث عنهم هنا ، لم يكونوا سياسيين في يوم ما ، ولم يعرفوا الى وقت قريب ، معنى من معاني السياسة ماكان منها اسلاميا او ليبراليا او حتى اشتراكيا او رأسماليا ، بل انهم لم يتعرفوا بعد على معنى من معاني الديمقراطية حديثة العهد . وكل ما خبروه من معاني ، ينحصر في انهم عاشوا او عاصروا وربما حتى سمعوا بان هنالك نظاما سياسيا دكتاتوريا كان قد حكم العراق منذ عام 1968 – 2003 . وهم يسعون لعدم تكرار تلك الحقبة بتداعياتها ورموزها ، ليس ايمانا منهم بضرورة المحافظة على مكتسبات الشعب ، وانما ركوبا منهم لموجة ما بعد التغيير .
وقد يصح مبدأ ان لكل مجتهد نصيب في الحد الادنى من الرغبة الحقيقية في المحافظة على ديمومة تلك المكتسبات ، لكنه لا يصح ولن يصح ابدا ، حينما تتبدى المواقف بتقلباتها عن مصالح شخصية بحتة ، تتقاطع احيانا مع المصالح الحزبية والفئوية ، وتتمادى في غيّها ، لتصل الى التقاطع مع المصالح الوطنية للبلاد.
ان هناك فئة ممن وجدوا لهم موطيء قدم ضمن ما يعرف بطبقة السياسيين العراقيين ، باتوا اليوم سماسرة مواقف ، لا يخضعون لشروط العرض والطلب ، فهم يشترون اليوم ويبيعون غدا ، واليوم معك وغدا ضدك ، من اجل ان تكتنز جيوبهم بسحت المال السياسي ، بعد ان صنعوا لانفسهم هالات خدّاعة ، وفرتها لهم دعامات اعلامية هشّة ، لم تضع هي الاخرى في حساباتها تداعيات السوق السياسة المكشوفة .
وهؤلاء اللذين نتحدث عنهم هنا ( البيّاعون ) ، قد سقطوا ( دون دراية منهم ) في هشاشة وفخ الظهور المتواصل على شاشات التلفزيون والمنابر الاعلامية الاخرى التي كشفت الكثير من سوآتهم ، التي لم تنفع معها ربطات العنق المستوردة وفساتين الحشمة المنمّقة . وبات ذلك الظهور ( المتكرر ) مدعاة لسخرية عموم الناس بدل ان يكون مدعاة لاعجابهم وتقديرهم . فقد صار عليهم في غفلة الشهرة الاعلامية التي نسجوها لانفسهم ، ان يكشفوا عن قيمة ما باعوا واشتروا من مواقف ، اكثر من الكشف عن مواقفهم نفسها وتفسير دوافعها .
ان الظرر الذي يحدثه هؤلاء البيّاعون يكون كبيرا ومؤلما ، وهو يتعدى بتأثيره على اصحاب النيّات الطيّبة والمواقف الحقيقية عندما يصعب عليهم تمييز الخبيث من الطيب من انصار ومؤيدي هذه المواقف ، ليصل الى ظرر عام يضرب صورة حاضر ومستقبل البلاد ، حينما تكون الصورة مشوّشة بمثل هؤلاء ، خاصة اذا ما ادركنا ان مسيرة تثبيت المواقف في النفوس الضعيفة ، يتطلب جهدا لا يقل عن جهد اتخاذ المواقف نفسها .
ومع هذا فان الظرر يمكن ان يتحول الى عملية عكسية حينما ينكشف هؤلاء وتأخذهم العزة بالاثم ، فيمارسوا سمسرة المواقف على الهواء وامام الاشهاد ، بعد ان صاروا مدمني قمار سياسي ، يحدوهم هم واحد هو الخروج بصفقة رابحة حتى وان كانت على حساب كرامتهم المهدورة اصلا .
نعم يمكن ان يكون ظرر هؤلاء عكسيا ويتحول الى فائدة وطنية حينما يتعرف الشعب على حقيقتهم ويلفظهم الى غير رجعة لتبقى مسيرة هذه البلاد نقية ، خالية من الادران ..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat