صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

موائد النور.. لزوار الحسين !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
من عجائب يوم القيامة، موائدُ تنتظرُ زوّار الحسين عليه السلام!
لقد اعتاد النَّاسُ في الدُّنيا على موائد الطَّعام، وما عرفوا أنَّ للنور موائده! حتى كشفَ الصادق عليه السلام شيئاً من ذلك حين قال: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَوَائِدِ النُّورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَكُنْ مِنْ زُوَّارِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) (كامل الزيارات ص135).
 
إن المؤمن يؤمن بذلك، وإن لم يعلم حقيقة موائد النور هذه:
 
فهل هي موائدُ للطعام ينبعث منها النّور ؟!
أم هي مجالسُ نورٍ يجلسُ فيها المؤمن يوم الجزاء إكراماً وإعزازاً من الله تعالى له ؟!
أم شيء لم يخطر على قلب بشر ؟!
 
رغم ذلك يعلم المؤمن أنَّ هذه الموائد ليست إلا شيئاً يسيراً من ثواب زيارة الحسين عليه السلام، فإنَّ من زاره وصلَّى عنده لِوَجه الله تعالى: لَقِيَ الله يَوْمَ يَلْقَاهُ وَعَلَيْهِ مِنَ النُّورِ مَا يُغْشَى لَهُ كُلُّ شَيْ‏ءٍ يَرَاهُ ! (كامل الزيارات ص123).
 
ههنا تبرُزُ معادلةٌ خاصةٌ غريبةٌ يوم القيامة:
 
1. الكفار ﴿تَغْشى‏ وُجُوهَهُمُ النَّار﴾.
2. وزائرُ الحسين (يُغْشَى لَهُ كُلُّ شَيْ‏ءٍ يَرَاهُ).
 
فالنّارُ تُغطِّي وجوهَ الكفّار، والنور الذي على زوار الحسين يغطي كلَّ شيء يراه ويطغى عليه ! حتى نارَ جهنَّم !
 
ألا تقول النّارُ للمؤمن: (جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَإِنَّ نُورَكَ قَدْ أَطْفَأ لَهَبِي‏) ؟!
ومَن أولى بذلك من زوّار الحسين، وهم أوّلُ الناس وروداً على الحوض، يصحبهم مَلَكٌ من قِبَلِ أمير المؤمنين عليه السلام، ينهى النّار أن يصيبهم من لفحها شيء!
 
فما السرُّ في ذلك؟!
 
لماذا صار لزوار الحسين عليه السلام هذه المنزلة العظيمة، والمكانة الجليلة، في يوم الجزاء والحساب ؟ فيُروَون مع عطش النّاس، وتغشي أنوارُهم كلّ شيء يراه ؟!
 
إنَّ عدالة الله تعالى وحكمته اقتضت أن يكون الجزاءُ متناسباً مع أهمية الفعل وأثره، فكلَّما تَعاظَمَ الأثَر تَضَاعَفَ الثواب.
فماذا فَعَلَ زوّارُ الحسين حتى بلغوا ذلك ؟! وبماذا اتَّصفوا وتميَّزوا ؟! وما الذي جعلهم يتفوَّقون على مَن سواهم يوم المحشر ؟!
 
لقد اتَّصَفَ هؤلاء الزوار أو بعضهم بأعظم الصفات، ومن أهمِّها صفتان:
 
أولاً: أنَّهم أعلمُ النّاس بالله تعالى !
 
لقد رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله قوله للزهراء عليها السلام في من يأتي قبر الحسين عليه السلام:
وَتَأْتِيهِ قَوْمٌ مِنْ مُحِبِّينَا لَيْسَ فِي الأَرْضِ أَعْلَمُ بِالله وَلَا أَقْوَمُ بِحَقِّنَا مِنْهُمْ! (كامل الزيارات ص69).
 
وليس عَجَباً أن تَقترنَ معرفةُ الله تعالى بالقيام بحقِّ آل محمدٍ عليهم السلام، فهذا الباقر عليه السلام لمّا يُسأل عن معرفة الله تعالى يجيب أنّها:
 
1. تَصْدِيقُ الله عَزَّ وَجَلَّ.
2. وَتَصْدِيقُ رَسُولِهِ (ص).
3. وَمُوَالاةُ عَلِيٍّ (ع) وَالِائْتِمَامُ بِهِ وَبِأَئِمَّةِ الْهُدَى (ع).
4. وَالْبَرَاءَةُ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَدُوِّهِمْ.
هَكَذَا يُعْرَفُ الله عَزَّ وَجَلَّ (الكافي ج‏1 ص180).
 
فمَن لم يتولى علياً والأئمة من بنيه، ومَن لم يبرأ من أعدائهم، لم يكن بالله عارفاً.
وقد تجلّت في الزائر حقيقةُ معرفة الله تعالى، فهو المؤمن بالله تعالى ونبيه ووليه، والمتبرئ من عدوِّه، فلم يكن على الأرض أعلم بالله من زوّار الحسين عليه السلام، حيث جسَّدوا في زيارتهم معرفة الله عقيدةً وسلوكاً.
 
فامتازوا على من لا يؤمن حقاً، ثم امتازوا على مَن لم يزُر الحسين عليه السلام من المؤمنين، بأنَّهم قاموا بحقِّه، دونَ من أعرض عن زيارته، فعن الباقر عليه السلام:
مُرُوا شِيعَتَنَا بِزِيَارَةِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع)، فَإِنَّ زِيَارَتَهُ.. مُفْتَرَضَةٌ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لِلْحُسَيْنِ بِالإِمَامَةِ مِنَ الله عَزَّ وَجَلَّ (الأمالي للصدوق ص143).
 
وعن الصادق عليه السلام:  لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ حَجَّ أَلْفَ حِجَّةٍ ثُمَّ لَمْ يَأْتِ قَبْرَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) لَكَانَ قَدْ تَرَكَ حَقّاً مِنْ حُقُوقِ الله تَعَالَى.. حَقُّ الْحُسَيْنِ (ع) مَفْرُوضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ (كامل الزيارات ص194).
 
بهذا تفوَّق زائرُ الحسين على فئتين من النَّاس:
 
الأولى لا تعرفُ الله تعالى حقَّ معرفته، لأنَّها لا توالي علياً وبنيه، ولا تبرأ من أعدائهم.
والثانية تاركةٌ لحقٍّ من حقوق الله مفروض، وهو زيارة الحسين عليه السلام.
 
فصار زوّار الحسين أعرف الناس بالله، وأقوم الناس بحقِّ آل محمد، فاستحقوا أعلى المراتب لعظيم ما عرفوا وعملوا، جعلنا الله منهم دائماً وأبداً.
 
ثانياً: أنَّهم مصابيح في الظُّلُمات
 
يصفُ النبيُّ صلى الله عليه وآله زوار الحسين فيما روي عنه بأنّهم:
أُولَئِكَ مَصَابِيحُ فِي ظُلُمَاتِ الجَوْرِ (كامل الزيارات ص69)
 
لقد ذكر الله تعالى المصابيح في القرآن الكريم، ومِن ذلك قوله تعالى:
﴿وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابيحَ وَحِفْظاً﴾ (فصلت12).
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطين‏﴾ (الملك5).
 
فكانت النجومُ مصابيحَ في السَّماء الدنيا، تتزيَّنُ السَّماءُ بها، ويرجُمُ الله تعالى بها الشياطين.
 
وكان زوار الحسين عليه السلام كنجوم السماء الدُّنيا، مصابيحُ يُهتدى بها إلى الحقّ، حيث يدعو كلُّ واحدٍ منهم إلى الله تعالى بفعله، ويُسَجَّل فيمن كثَّر السواد في طريق الحقّ، ويكون مرشداً إلى أولياء الله تعالى، فصار بهذا ممن يُنير السَّبيل للناس في ظلمات الجور..
 
هكذا هم زوار الحسين، وبهذا استحقوا أن يكونوا على موائد النور يوم القيامة، وأن تسطع منهم أنوارٌ تُغشي كل شيء !
ثمَّ هم بعد ذلك رجومٌ للشياطين، أليسوا ممَّن يُدخلُ الغيظ على أعداء آل محمد بزيارتهم للحسين عليه السلام ؟!
 
وقد مدحهم الصادق عليه السلام بقوله مخاطباً ربَّه:
وَغَيْظاً أَدْخَلُوهُ عَلَى عَدُوِّنَا، أَرَادُوا بِذَلِكَ رِضَاكَ ! (كامل الزيارات ص116).
 
فصاروا كنجوم السماء الدنيا من جهتين:
 
1. تلك ترشد الناس إلى حيثُ يسعون، والزوار يرشدون الناس إلى الله ورسوله وآله.
2. وتلك يُرجَمُ بها الشياطين، والزوار يُرجَمُ بهم أعداء آل محمد من شياطين الجنّ والإنس بإدخال الغيظ عليهم.
 
بهذا ينكشفُ شيءٌ يسير من التناسُب بين الفعل والأثر، فمَن كان هادياً ومرشداً ومنيراً لطريق الحقِّ في الدُّنيا، أعطاه الله نوراً يغشي كلَّ شيء في الآخرة، وزوار الحسين عليه السلام من أهل هذه المراتب مع تفاوتهم، فليسوا على مرتبةٍ ومكانةٍ وشرفٍ واحد، وإن كانوا جميعاً على موائد النور..
 
وكلَّما عَظُمَت معرفتهم بالله تعالى وبمحمد وآله عليه السلام، رأيتَهم أطوَعَ الناس لله تعالى، يخشون ربَّهم ويمتثلون أمره، أشداء على الكفّار، رحماء بينهم.
 
ثمَّ هم بعد ذلك يدركون أنّهم ما عرفوا حقيقة فضل زيارة الحسين، ولا أدركوا كنهها، وهذا الصادق عليه السلام يقول: فِي قُرْبِكُمْ لَفَضِيلَة مَا أُوتِيَ أَحَدٌ مِثْلَهَا، وَمَا أَحْسَبُكُمْ تَعْرِفُونَهَا كُنْهَ مَعْرِفَتِهَا !.. زِيَارَةُ جَدِّيَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع)! (كامل الزيارات ص325).
 
فسلامُ الله عليك يا أبا عبد الله..
يا من: يَبْكِيهِ مَنْ زَارَهُ، وَيَحْزَنُ لَهُ مَنْ لَمْ يَزُرْهُ، وَيَحْتَرِقُ لَهُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ!
 
آهٍ لقلوب الشيعة المحروقة في أيامك يا حسين..
آهٍ لمن يندبك صباحاً ومساءً.. ويبكي عليك بدل الدُّموع دماً.. أيُّ حرقةٍ يعيش وهو الغائب الحاضر الشاهد !
آهٍ من لوعة المصاب.. وإنّا لله وإنا إليه راجعون.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/09/04



كتابة تعليق لموضوع : موائد النور.. لزوار الحسين !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net