على ضفاف الانتظار(62)
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عملٌ في دولةِ الظلم
يؤكِّدُ التاريخُ أنَّ الدولةَ العباسيةَ كانتْ تترصّدُ بدقةٍ كُلَّ التفاصيل التي من المُمكنِ أنْ توصلَهم إلى شخصِ المهدي الموعود للقضاءِ عليه قبلَ أنْ يُزيلَ ملكهم، الأمر الذي دعاهم إلى المُراقبةِ الدائمة للإمامِ العسكري وبيته، بل ونسائه، فضلًا عن المُداهماتِ المُفاجئة التي كانَ يقومُ بها أجنادُ العباسيين أثناءَ وبعدَ حياةِ الإمامِ العسكري.
وهُنا طرحَ بعضٌ شُبهةً حولَ عملِ السفراءِ لفترةِ تقرُبُ من سبعين سنة في تلك الدولةِ الظالمة والمُتتبِّعةِ لأيّ خيطٍ يوصِلُ إلى المهدي، فكيفَ أمكنَهم العمل وأداء مهمتهم الرسالية، والتواصل مع الشيعة من جهةٍ، ومع الإمامِ المهدي من جهةٍ أخرى؟
أ فهل يُمكِنُ أنْ نتعقّلَ ذلك؟
وللجوابِ عن هذه الشُبهة نُبيّنُ النقاطَ الآتية:
النقطة الأولى: إنَّ طرحَ مثلِ هذه الشُبَه لا شكَّ أنّه لا يُرادُ منها إقامةُ الحقّ أو الدفاعُ عن المذهب، خصوصًا إذا طُرِحَتْ من دونِ جوابٍ مناسب، أو إذا طُرِحَتْ بأسلوبٍ تهكُّمي أو بأسلوبٍ يوحي بأنّه لا جوابَ عنها.
لذلك يلزمُ على المؤمنِ أنْ يتحرّى الطرقَ المُناسبةَ لطرحِ الشُبَه لو كانتْ عنده شبهة، بأنْ يطرحَها على المُتخصِّصين في المجال الذي طرأتْ عليه الشُبهة، وأنْ لا يُطبِّلَ لشبهةٍ بائسةٍ ويصوِّرَها على أنَّها شُبهةٌ عويصةٌ لا حلَّ لها، والحُرُّ تكفيه إشارة.
النقطة الثانية: من المُفترضِ أنَّ المؤمنَ يعتقدُ بأنَّ اللهَ (تعالى) كانَ ولا زالَ مُنبسطَ اليدِ في التصرُّفِ بالكونِ في كُلِّ مفرداته، فلم تكُنْ يدُه مغلولةً كما قالتِ اليهود غُلّتْ أيديهم، وهو كان قد وعدَ بأنّه سيتولى الدفاعَ عن المؤمن بنفسه، قال (تعالى): (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).
وقد أثبتتِ القدرةُ الإلهيةُ حكمتَها المُطلقةَ في الحفاظِ على أولياءِ اللهِ (تعالى) بطريقةٍ وبأخرى، فقد تعملُ اليدُ الإلهيةُ على أنْ يتربّى الرسولُ في بيتِ عدوه، أو أنْ يُخفيَ عظمتَه إلى أنْ يحينَ الوقتُ المناسب، أو أنْ يشغلَ الظالمين بعضهم بالبعض الآخر ليكونَ الولي في مأمنٍ من كيدهم، أو أنْ يُخفيَ حملَ أُمِّه به حتى لا يقعَ ولا تقعَ في أيدي السُلُطاتِ الظالمة، وغيرها كثير.
ومعه، فليس من المنطقي أنْ يُشكِّكَ من يدّعي الإيمانَ بإمكانِ أنْ تراعيَ يدُ الغيبِ الإلهية أولئك السفراء ليؤدوا مهامهم على أحسنِ ما يُمكِنُ، ولو في داخلِ رحمِ دولةٍ ظالمةٍ مُستبدة.
النقطة الثالثة: إنَّ التاريخَ حفظَ لنا وثائقَ عديدةً عن العديدِ من أتباعِ الإمامِ المعصوم ممن كانوا يعملون في البلاط الظالم، وكانَ بعضُهم مكشوفَ الأوراقِ أمامَ السلطانِ لكن من دون دليلٍ ملموس، أيّ إنَّ السلطانَ كانَ يعتقدُ في داخله بأنّ هذا الشخصَ هو (رافضي) باصطلاحه، ولكنّه لم يستطِعْ في العادةِ أنْ يحصلَ على وثيقةٍ تُدينه، وقد لا يعلمُ بأنّه من أتباعِ أهلِ البيت، ومن أشهر أولئك هو عليٌ بن يقطين صاحبُ الإمامِ الكاظم الذي كانَ من وزراءِ هارون العباسي، والذي حاولَ الوشاةُ أنْ يوقعوا به أكثرِ من مرة، ولكنَّ الإمامَ الكاظمَ كانَ يوجِّهُه بطرقٍ مناسبةٍ ليتخلّصَ من كيدِ الفَسَقَة.
فلِمَ نستبعدُ حصولَ مثل هذا الأمرِ مع السفراءِ خصوصًا وأنَّ مهمتهم أخطرُ وأهمُّ ممّا كانَ عليه علي بن يقطين.
خصوصًا وأنَّ التاريخَ قد حفظَ لنا أنَّ عليًا بن يقطين قد سُدّدَ ونجا من السلطةِ الظالمة رغمَ أنّه كانَ على احتكاكٍ دائمٍ ومباشرٍ مع الخليفةِ الظالم، وكانَ يعملُ بشكلٍ مُستمرٍ تحتَ نظره، وأمّا السفراءُ فقد كانوا بعيدين نسبيًا عن مُباشرةِ الاحتكاكِ بالظالم، فلِمَ نستبعدُ نجاتَهم؟!
النقطة الرابعة: على أنَّ السفراءَ (رضوان الله عليهم) كانوا يعملون وفقَ تخطيطٍ مُحكم، بحيث كانوا يُبعدون أنظارَ السلطانِ عنهم، بل كانوا من الحنكةِ بحيث إنّهم أخفوا عملَهم إلا عن الثُلةِ المُخلصةِ ومن يطمئنون بصدقِ ولائه، والشواهدُ على ذلك كثيرةٌ، نذكرُ منها الآتي:
أولًا: أنَّ السفراءَ نقلوا عملَهم من سامراء للتمويه على الأعداء بعدم ارتباط السفراء بالمعصوم الذي كان يتوقع تواجده في سامراء حيث بيته، وهذا المعنى إن ثبت فيها وإلا فيبقى على نحو الاحتمال.
ثانيًا: كانَ السفراءُ لا يُعلنون بأنّهم سفراءُ للإمام وإنّما كانوا يُخفون ذلك تحت بعضِ العناوين الأخرى، ولذا فإنَّ السفيرَ الأولَ كانَ قد عُرِفَ بأنّه سمّان، أيّ إنّه يعملُ بتجارةِ السمنِ تغطيةً على أمره.
ثالثًا: كان السفراء يعملون بالتقية المكثّفة، خصوصاً إذا اشتدّ الأمر عليهم، وهذا ما عُرف عن السفير الثالث الحسين بن روح (رضوان الله (تعالى) عليه)، كما تقدم في سيرته، فراجع.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat