اشارات قرآنية من كتاب الامام الهادي عليه السلام للشيخ الكعبي (ح 4)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جاء في کتاب الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ للشيخ علي موسى الكعبي عن ابطال التفويض: وأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه السلام وخطأ من دان به وتقلده، فهو قول القائل: إن الله جل ذكره فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم، ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً ابتاعه ليخدمه، ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمره ونهيه، وأدعى مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب، وأوعده على معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه، ولم يقف عند أمره ونهيه، فأي أمر أمره، وأي نهي نهاه عنه، لم يأته على إرادة المولى، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه واتباع هواه، ولا يطيق المولى أن يرده إلى اتباع أمره ونهيه والوقوف على إرادته، ففوض اختيار أمره ونهيه إليه، ورضى منه بكل ما فعله على إرادة العبد لا على إرادة المالك، وبعثه في بعض حوائجه، وسمى له الحاجة، فخالف على مولاه، وقصد لارادة نفسه واتبع هواه، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به، فإذا هو خلاف ما أمره به، فقال له: لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟ فقال العبد: اتكلت على تفويضك الأمر إلي، فاتبعت هواي وإرادتي، لأن المفوض إليه غير محظور عليه، فاستحال التفويض. أو ليس يجب على هذا السبب إما أن يكون المالك للعبد قادراً، يأمر عبده باتباع أمره ونهيه على إرادته لا على إرادة العبد، ويملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي عرفه الثواب والعقاب عليهما، وحذره ورغبه بصفة ثوابه وعقابه، ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملكه من الطاقة لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه، فيكون عدله وإنصافه شاملاً له وحجته واضحة عليه للاعذار والانذار، فإذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه، أو يكون عاجزاً غير قادر، ففوض أمره إليه، أحسن أم أساء، أطاع أم عصى، عاجز عن عقوبته ورده إلى اتباع أمره. وفي إثبات العجز نفي القدرة والتأله وإبطال الأمر والنهي والثواب والعقاب ومخالفة الكتاب إذ يقول: "ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم" (الزمر 7)، وقوله عز وجل: "اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" (ال عمران 102)، وقوله: "وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون" (الذاريات 56-57)، وقوله: "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً" (النساء 36)، وقوله: "أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون" (الانفال 20). فمن زعم أن الله تعالى فوض أمره ونهيه إلى عباده، فقد أثبت عليه العجز، وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير وشر، وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، لعلة ما زعم أن الله فوضها إليه، لأن المفوض إليه يعمل بمشيئته، فإن شدة الكفر أو الايمان كان غير مردود عليه ولا محظور، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى، فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون" (البقرة 85) تعالى الله عما يدين به أهل التفويض علواً كبيراً.
وعن المنزلة بين المنزلتين يقول علي موسى الكعبي مؤلف كتاب الإمام عليّ الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ: لكن نقول: إن الله جل وعز خلق الخلق بقدرته، وملكهم استطاعة تعبدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد، فقبل منهم اتباع أمره، ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته، وذم من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به، وينهى عما يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه، لأنه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجة بالاعذار والانذار، وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده، اصطفى محمداً صلىاللهعليهوآله وبعثه برسالاته إلى خلقه، فقال من قال من كفار قومه حسداً واستكباراً: "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" (الزخرف 31) يعني بذلك أمية بن أبي الصلت وأبا مسعود الثقفي، فأبطل الله اختيارهم، ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول: "أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون" (الزخرف 32) ولذلك اختار من الامور ما أحب، ونهى عما كره، فمن أطاعه أثابه، ومن عصاه عاقبه، ولو فوض اختيار أمره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي، إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلىاللهعليهوآله، فلما أدب الله المؤمنين بقوله: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" (الاحزاب 36)، فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم، ولم يقبل منهم إلا اتباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاه، فمن أطاعه رشد، ومن عصاه ضل وغوى، ولزمته الحجة بما ملكه من الاستطاعة لاتباع أمره واجتناب نهيه، فمن أجل ذلك حرمه ثوابه، وأنزل به عقابه.
يقول الشيخ الكعبي في كتابه عن أدلة المنزلة بين المنزلتين: وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض، وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قل يا عباية. قال: وما أقول؟ قال عليه السلام: إن قلت إنك تملكها مع الله قتلتك، وإن قلت تملكها دون الله قتلتك. قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول إنك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن يملكها إياك كان ذلك من عطائه، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملكك، والقادر على ما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله؟ قال عباية: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا حول عن معاصي الله إلا بعصمة الله، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله، قال: فوثب عباية فقبل يديه ورجليه. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله، قال: يا أمير المؤمنين، بماذا عرفت ربك؟ قال عليه السلام: بالتمييز الذي خولني، والعقل الذي دلني. قال: أفمجبول أنت عليه؟ قال: لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً على إحسان، ولا مذموماً على إساءة، وكان المحسن أولى بالملامة من المسيء، فعلمت أن الله قائم باق، وما دونه حدث حائل زائل، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل. قال نجدة: أجدك أصبحت حكيماً يا أمير المؤمنين. قال عليه السلام: أصبحت مخيراً، فإن أتيت السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء وقدر؟ قال عليه السلام: نعم يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلا بقضاء وقدر من الله. فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال: مه يا شيخ، فإن الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين، ولا إليه مضطرين، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، ولسقط الوعد والوعيد، ولما ألزمت الأشياء أهلها على الحقائق، ذلك مقالة عبدة الأوثان وأولياء الشيطان، إن الله جل وعز أمر تخييراً ونهى تحذيراً، ولم يطع مكرهاً، ولم يعص مغلوباً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً "ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار" (ص 27). فقام الشيخ فقبل رأس أمير المؤمنين عليه السلام، وأنشأ يقول: أنت الامام الذي نرجو بطاعته * يوم النجاة من الرحمن غفرانا أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه رضوانا فليس معذرة في فعل فاحشة * قد كنت راكبها ظلما وعصيانا. فقد دلّ أمير المؤمنين عليه السلام على موافقة الكتاب، ونفى الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان بهما وتقلدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب، ونعوذ بالله من الضلالة والكفر، ولسنا ندين بجبر ولا تفويض، لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين، وهو الامتحان والاختيار بالاستطاعة التي ملكنا الله وتعبدنا بها، على ما شهد به الكتاب، ودان به الأئمّة الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat