الحياة اليومية في غزة… حكايات ومصائر
فنسان شنيسغانس | ترجمة: عبد المنعم الشنتوف


يمثل اللاجئون الذين اضطروا إلى النزوح إلى غزة عقب الصراعين التاريخيين مع إسرائيل 70 في المئة من الساكنة وتقيم غالبيتهم في مخيمات يوجد أهمها حول التجمعات الحضرية الرئيسية: مدينة غزة وخان يونس ورفح. وفي وسعنا أن نتخيل الدرجة التي خلخل فيها هذا التدفق النسيج الاجتماعي والبنيات الاقتصادية للبلاد. تعتبر المخيمات الأخرى مجرد قرى بسيطة، نذكر من بينها «المخيم السويدي» الذي اشتهر بهذا الاسم منذ عام 1956 وهي السنة التي استقر فيها سويديو الأمم المتحدة فيه بقصد حماية اللاجئين. ويعتبر هذا المخيم علامة فارقة في سياق النسيج الترابي المعقد الذي يميز فلسطين.
يقتضي الوصول إليه ما يشبه لعبة الدمى الروس. ويغص قطاع غزة بالمستوطنات الإسرائيلية التي يسهل التعرف عليها بسياجاتها الشائكة وبروجها وأضوائها القوية. وتشتمل هذه المستوطنات بدورها على جيوب فلسطينية. وعليه فإن الوصول إلى «المخيم السويدي» يستلزم منك الإدلاء بهويتك مرات عدة للسلطات العسكرية الإسرائيلية وكذلك الفلسطينية. يزداد الأمر صعوبة كلما جرى الفصل بين ممرات الدخول؛ فمقابل الممر المزدوج الإسرائيلي ثمة الممر الضيق المخصص للفلسطينيين، والمحاط من جهة البر بالمنازل البيضاء للإسرائيليين ذات القرميد الأحمر، ومن جهةٍ البحر بالمنتجعات السياحية وبحيرة اصطناعية وساحة لركوب الخيل. وفي أقصى المنطقة التي تدعى «المواسي» نصل إلى القرية السويدية، التي تطل عليها تلة ترفرف فوقها الأعلام الإسرائيلية والمصرية. يقف جنود يحملون بنادق رشاشة على بعد أمتار من البنايات السكنية. وتجري مراقبة السيارات بشكل منتظم. ويستحيل بطبيعة الحال لسيارة فلسطينية العبور بالممر الإسرائيلي. يتمثل المنفذ الوحيد لسكان القرية الستمئة في البحر الأبيض المتوسط. ويعمل نصف رجال القرية في الصيد. وقد تجاذبنا أطراف الحديث طويلا ما دام واجب إعلام الأجانب بما يحدث ملحا.

عمر ومخيمات اللاجئين

ينحدر عمر البالغ من العمر خمسة وستين عاما من قرية ساحلية تقع جوار مجدل التي تحول اسمها الآن إلى أشكيلون. طردت كل عائلته عام 1948 ولم تجد من مكان تستقر فيه من جديد غير المخيم السويدي. تحولت قريته إلى كيبوتز، لكن عمر يعتقد أن الأراضي ظلت على ما كانت عليه باشجار برتقالها وزيتونها وخوخها. وشأن كل الأسر النازحة فإن عمر لا يزال يحتفظ مثل كنز ثمين بالمفتاح الأصلي للمنزل الذي أصبح أثرا بعد عين. «الطرق التي يسلكها جيراني الذين يدخلون الى إسرائيل بقصد العمل تمر جوار بيتي». يتحدث عمر بالحنين نفسه عن مهنته. كان في مقدورنا على الأقل إبان الاحتلال الإنكليزي أن نذهب لصيد السمك بدءا بحيفا في الشمال وانتهاء بمصر في الجنوب. وما عليك الآن إلا أن تتطلع إلى السفن الإسرائيلية التي تقوم بدوريات حراسة كي تفهم أنه لا يحق لك أن تتجاوز الاثني عشر ألف ميل المسموح بها. ولم يعد البحر بالنسبة لنا بحرا؛ إذ لا يعدو كونه بحيرة في ما أصبحت هذه الأخيرة مسبحا.
ويروي عمر بوجه كالح ذكرى الشهور الثلاثة التي قضاها في السجون الإسرائيلية بعد أن تجاوز، حسب ادعاءات البحرية الإسرائيلية هذه المسافة. علق شقيق عمر قائلا: اعتقدنا أن القارب غرق، وأن الإسرائيليين أرسلوه إلى قاع البحر، لكنه لم يلبث أن قفل عائدا. يتحدث عمر على الرغم من ذلك برغبة مشبوبة عن قاربه ذي المجذافين المعروف باسم «الفلوكة» وسفينة الأسرة التي تشتغل بالمحرك «الحساكة» التي يصطاد بها سمك موسى والبوري والسردين. ويتوارث الأبناء عن الآباء شباك وتقنيات الصيد. طوى عمر سرواله الرياضي كي يبين لنا ذلك. يمسك الشبكة بيد فيما يبسطها باليد الأخرى. يرفع معصمه فيما يمد ساقيه الواحدة تلو الأخرى. التف حول نفسه لتطير الشبكة قبل أن تسقط على الأرض في شكل دانتيلا. لم يعد في مقدور كل صيادي القرية ممارسة مهنتهم بسبب حاجز الاثنى عشر ميلا. ولم يعد ثمة من خيار لغالبيتهم إلا الذهاب للعمل في إسرائيل. ووحدهم من يتوفرون على سن معينة وأسرة وأبناء من يحق لهم الحصول على ترخيص بالعمل. وقد رأينا أن الرجل الأعزب، يمثل حسب المعايير الأمنية الإسرائيلية مصدر تهديد للأمن القومي الإسرائيلي. وهكذا تعبر سيارات الأجرة الصفراء الغاصة بالركاب كل صباح قطاع غزة، حين لا تكون الحدود مغلقة لتفرغ حمولتها عند معبر أيريز. وقبل أن يكون في مقدورهم ركوب الحافلات في الجانب الإسرائيلي يتعين على هؤلاء العمال أن يقطعوا مشيا منذ الفجر الممر اللانهائي المسيج بالأسلاك المعدنية المخصص لهم وأن يدخلوا البطاقة المغناطيسية التي تثبت حقهم في العبور، وأن يخضعوا لمراقبة أمنية متعددة. ولأن ترخيصهم محدد في النهار، فإن هؤلاء العمال سيعودون إلى قراهم في المساء بعد مساهمتهم في تجميل وتزيين إسرائيل، لكن هل يتوفرون على خيار آخر ما دمنا نعرف أن راتبا واحدا يعيل أسرة بكاملها.
يتوفر هؤلاء العمال على امتياز العودة إلى منزل مضاء بالكهرباء وإمكانية تشغيل جهاز التلفزيون، ذلك أن الكهرباء لا تصل منذ سنة إلى المخيم إلا بمعدل ست ساعات في اليوم وتحديدا من الساعة السادسة مساء إلى الثانية عشرة ليلا. وثمة في كل منزل بطارية سيارة يوصل بها الراديو والتلفزيون. ليس ثمة في المقابل مراكز للعناية الصحية، أو مدارس، أو مقر للبريد، أو شبكة اتصالات هاتفية. وتلزمك ساعتان ذهابا وإيابا كي تصل إلى المدرسة الموجودة في أقرب مدينة فلسطينية وهي رفح. ويتحتم على الأطفال المتمدرسين أن يغادروا منازلهم في الساعة السادسة والنصف صباحا، وان يعبروا حاجزا أمنيا إسرائيليا.
نتحرك داخل المخيم ذاته بين الوحدات السكنية الإسمنتية من خلال أزقة رملية. وتسعى كل أسرة إلى توسيع مجالها، بالترامي على الممرات الضيقة. ذلك أن عدد الأسر يتضاعف باطراد. ويمنع عليهم بناء المنازل خارج الترسيم الترابي الأولي لعام 1967. ثمة فقر وحزن بكل تأكيد، لكنْ حرارة إنسانية وتضامن.

القانون بين قوسين

ينبغي للعنف الاستثنائي الذي تقيمه إسرائيل راهنا أن لا ينسينا، وإن كان ذلك بحدة أقل حقيقة، أن هذا العنف كان يمارس منذ بداية الاحتلال ضد الفلسطينيين، ووفق الأشكال التالية: تقييد حرية التنقل وتهجير السكان وتدمير وجرف المنازل. الشطط في مصادرة الأراضي وبذريعة بناء المستوطنات، التعبير عن العنصرية حيال الفلسطينيين والعرب وممارسة العنف حيال المدنيين الفلسطينيين من لدن جيش الدفاع الإسرائيلي وقوات الشرطة وقطعان المستوطنين والاحتجاز التعسفي واللجوء إلى التعذيب أثناء الاستنطاق، وانتهاك حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
ابتداء من عام 1993 تاريخ مسلسل السلام جرى تجميد القانون الدولي، أقصد اتفاقية لاهاي ومواثيق جنيف عام 1994 وقانون المعاهدات والتوصيات الأممية والقانون الدولي العرفي والمبادئ العامة للقانون الدولي لصالح الحل الدبلوماسي وتطبيق اتفاقية أوسلو. والحال أنه منذ ذلك التاريخ لبث العديد من الاتفاقيات والمواثيق المنذورة للتطبيق التي جرى توقيعها حبرا على ورق. وسوف يقود الفشل الدبلوماسي راهنا المنتظم الدولي إلى أن يطلب من الأطراف المعنية أن تتموقع من جديد في سياق القانون الدولي. يتوفر المنتظم الدولي على وسائل تتيح له الضغط على إسرائيل، لكي توقف ممارساتها العصية على التصنيف. ويتعين على الأمم المتحدة أن تفرض تطبيق المبادئ التي أملتها. منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي. ونستخلص من تقرير أعده مكتب الدراسات في خصوص عمليات السلام للأمم المتحدة، أن أكثر ما أساء إلى مشروعيتها، في ما يهم استتباب السلم على امتداد سنوات التسعينيات يتمثل في إحجامها عن التمييز بين الضحية والمعتدي. وتطالب إسرائيل عرفات وهو ما يثير السخرية بأن يتصرف مثل رجل دولة، ويعمل على إيقاف دوامة العنف. والحال أن العلة وراء الانتفاضة الراهنة للفلسطينيين تتمثل في الرفض المستمر لإسرائيل لحقهم في تقرير المصير وتنظيم أنفسهم في شكل دولة. لا يعتبر ياسر عرفات رجل دولة ولا يتوفر والحالة هذه على سلطة القرار في أرض اسمها فلسطين وعلى الشعب الفلسطيني الذي يوجد نصفه في المنفى. لماذا تبقى «إسرائيل « فوق القوانين الدولية؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


فنسان شنيسغانس | ترجمة: عبد المنعم الشنتوف

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/06/03



كتابة تعليق لموضوع : الحياة اليومية في غزة… حكايات ومصائر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net