" إلى حضوري القسريّ في ذاكرة ماء، إلى الحزن القابع في روحي منذ شهقة التكوين حتى وجودي الأبديّ! "
" نقتفي آثر الجراحات في ذراتِ تكويننا، فلا نجد إلاَّكِ .. كربلاء
و ندرك بأنَّا ننتمي إلى عالمٍ يضجّ بالأحزان"
عند ضفاف نهر شابوراس* إلى جهة الجنوب حيث أصوات أشجار الصفصاف التي تحركها الرياح القادمة من سهول نينوى، تراءى لي ظل الله
وأنا القادمة من أوابد السنين، والعصور الطاعنة في الأسى، أحمل معي حزني المنقوش على سِفر التاريخ ..
ومن بين تلك التلال أسمع صهيلَ جواد يحمحم من على بُعدِ أعوام وجوى، وقد هوى فارسه، و وقعَ سنابكِ خيلٍ آتية من خلف الضباب يمزّق السكون الموشّى بحفيف الشجر.
وحين ساد الصمت، تراءت لي ثورة ماءٍ تدور في حركة جنونية دونما بوصلة! كطوفان نوح في فراتٍ جفت عروقه، وآخر يتفجر ينابيعاً ثم ينهي مساره في قرقيسيا منتظراً الغائب في ثورة عودته، و قلوب ملكوتية نقية تأوي إلى السفين وتبتغيه سبيل نجاة، أما الأرض فكانت مشّققة و كلما اهتزت و ربت أنبتت أحقادأ!
وأراني في أزقة الكوفة أقلب أوراق الزمن لأبحث بين طيات قراطيسه عن حكاية وفاء فلا أشتَمّّ إلا رائحة الغدر ..
و في امتداد السراب في ماضٍ سحيق، لاشيء سوى أطيافٍ عائمة في فراغ،
و العطش!
العطش شديد الحضور ..
أجول في صفحات التاريخ ثانية لأقرأ في سفر التوراة مارواه حزقيال في الإصحاح الأول و كان من ضمن الأسباط المسبيين إلى بابل، يقول: "كَانَ .. فِي سَنَةِ الثَّلاَثِينَ، فِي الشَّهْرِ الرَّابعِ، فِي الْخَامِسِ مِنَ الشَّهْرِ، وَأَنَا بَيْنَ الْمَسْبِيِّينَ عِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ شابوراس، أَنَّ السَّمَاوَاتِ انْفَتَحَتْ، فَرَأَيْتُ رُؤَى اللهِ"
وحين يرى حزقيال في ثلاثينيته رؤى الله كنت أرى سنة إحدى وستين لعشرٍ خلون من المحرم، أرى وجه الله، وباب الله الذي منه يؤتى، أراهم تحت وقع السيوف، وطعن الرماح، وحوافر الخيل، وأنا المسبية عند الفرات سبيَ زينب، وكافلي يقيم هناك عند عتبة الروح على تخوم العطش، وكفايَ تتساقطان حزناً كدمع زمزميّ زينبيّ ..
بابلية أحزاني عند أطراف شابوراس، تتوق إلى الضفة المقابلة حيث أرض الطفوف، حيث مَرجَ النهرين يلتقيان في برزخ ، فيبغيان ويلتحمان بكل ماأوتوا من ماء في ( عين علي )* ، وراهب الشوق المقيم على صخرة كمأذنة في أعلى الدير يؤدي طقوس صلاته ، ويرقب انبعاث ماء كان قد بشر به قبل أن تسجل الأكوان تحقق النبوءة ، فخابور شابوراس عند آرام يعني رفيق الأرض، فلا بد من أنه رفيق الظمأ والارتواء أيضاً.
أعبر حدود الزمن ، ليأخذني إلى بضع كلمات كتبتها روائية غربية عند أطراف هذا النهر المتربع على جزيرة متاخمة لبلاد الرافدين :
"القمر يطل عليهم من السماء، وفي الأسفل نهر شابوراس ( خابور ) المتعرج في انحناءة هائلة، وأنسام الليل العليلة تلفحهم من بعد حر الهاجرة، كان منظر الطبيعة يخلبني ويأسر مشاعري"
هنا يعود لينطلق رجع صدى روحي المتخمة بالجراح مجيباً :
" وعلى الضفة الأخرى ثمة قمر يضيء، يطل علينا هذه المرة من الفلاة، وعلى جانبه نهر الفرات كانت تعكسه صفحة الماء فيرتسم على وجه السماء،
تعرجات الفرات في الرافدين كانت تسري مسرى الشرايين المتكسرة كتكسر أغصان مصفرَّة في خريف الحزن،
والحر، حر الهاجرة يلفح الجباه التي نهضت لتوّها من السجود "
كان منظر الملحمة يذبحني ويأسر مشاعري أنا أيضاً.
وفي آخر المسرى، وحيدةً كانت على ذاك التل، ينفطر كبد السماء لأحزانها، ويتسارع القديسون والرهبان والملائكة ليلقون بآلامهم أيهم يكفل زينب فتمتد كفّا جود لتمسك بيديها المرفوعتين نحو الملكوت
" أنّي أنا النهر الذي يجري بأوردتك ريَّاً، وأنا الكافل " .. فتنحني الأكوان لشموخ زينب وعزتها في ظل من حوى الفضل كله.
مايزال في جعبة التاريخ حكايا ملطخة بنزيف الكلمات، فعند أيّةِ ضفاف لا مشهدَ في ذاكرة الدماء سوى كربلاء ، وفي حسابات الوقت لاشيء إلا عاشوراء،
وأغلق على صفحة الحزن قلبي
لأخلو وحرائقي خلوة مكلومَين، هناك ..عند ضفاف شابوراس المطلة على سهول نينوى.
وأبقى حبيسة فلاة الطف الموحشة أقلّب صفحات الدهور، وفي الأعماق كان العطش.
◾️ * "شابوراس" من روافد نهر الفرات في الجزيرة السورية ، يصب في قرقيسيا ( المكان الذي ستدور فيه المعركة الكبرى عند الظهور المبارك ) ، وردت تسميته في الألواح البابلية والأشورية وأطلق عليه اليونان والمؤرخين الرومان "خابوراس أو هابوراس" وقد جاءت الكلمة في الكتاب المقدس في العهد القديم "التوراة"، في سفر حزقيال أحد أنبياء بني إسرائيل ، ويسمى " الخابور " حيث تعود تسميته إلى جذر أرامي .
◾️* " عين علي" : مكان مقدس عند شابوراس يدعى الرحبة ، فيه دير يسكن فيه راهب نصراني ، أمر الإمام علي ع عند نفاذ الماء من جيشه المتوجه إلى صفين بحفر بئر فيه حيث اعترضتهم صخرة كبيرة وعجز الجميع عن ابعادها فتمتم الأمير ع بكلمات واقتلعها ورماها بعيدا ، انحنى الراهب يقبل قدميه فقد كان ينتظر ظهور الماء على يد وصي نبي آخر الزمان كما جاء في كتبهم ، مما دعاه للقتال معه والاستشهاد بين يديه .ولا زال الماء يجري فيها حتى يومنا هذا .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat