نحن والإستحمار .. !
سلمان عبد الاعلى
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الاستحمار هي المقولة التي استخدمها واشتهر بها المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي رحمه الله، حيث أنه استخدمها وكان يقصد بها أي عمل يؤدي لتسخير الإنسان كما يسخر الحمار على حد قوله.
ويحصل ذلك (أي الإستحمار) كما يقول شريعتي من خلال: ((تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن "النباهة الإنسانية" و"النباهة الإجتماعية"، فرداً كان أم جماعة. وأي دافع عمل على تحريف "هاتين النباهتين" أو فرد أو جيل أو مجتمع عنهما، فهو دافع استحمار! وإن كان من أكثر الدوافع قدسية وأقدسها إسماً. إن أي عمل ومهمة سوى هاتين النباهتين، أو ما يعد في طريقهما، ما هو إلا وقوع في العبودية، والذهاب ضحية لقوة العدو والاستحمار المطلق. وإن كان عملاً مقدساً وموضوعه مهم جداً[1])).
أما عن الكيفية التي يتم بها هذا الاستحمار، فهو يتم عبر آلية التجهيل والإلهاء، وذلك بحسب نوع الإستحمار، فالاستحمار نوعان كما يقول شريعتي: ((إستحمار مباشر واستحمار غير مباشر، المباشر منه عبارة عن تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو سوق الأذهان إلى الضلال والانحراف. أما غير المباشر فهو عبارة عن الهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللافورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة الفورية[2])).
ولا فرق بين الإستحمار في الماضي عنه في الحاضر إلا في الأدوات والوسائل، إذ أن النتيجة واحدة وهي وقوع الإستحمار، ويوضح شريعتي ذلك بقوله: ((كان الإستحمار في الماضي تابع لنبوغ المستحمرين وتجاربهم، أما اليوم فقط أصبح معززاً "بالعلم"، "بالاذاعة والتلفزيون"، "بالتربية والتعليم"، وبجميع وسائل الإعلام، بالمعارض، بعلم النفس الحديث، بعلم الاجتماع، بعلم النفس التربوي! صار فنا (أي الاستحمار) مجهزاً بالعلم، دقيق جداً. ومن هنا تصعب معرفته كصعوبة دقته[3])).
وبعدها يتحدث الدكتور شريعتي متسائلاً عن الفرق بين الإستحمار في الماضي والإستحمار في الحاضر قائلاً: ((ما الفرق بين أن يكون الإنسان "عبداً حديثاً"، أو أن يكون "عبداً قديماً"؟ وبين أن تكون "جارية حديثة" أو "جارية قديمة"؟ لا فرق إلا في الكلمات. فذاك يسمي الجارية "ضعيفة" وهذا يسميها "لطيفة" والمعنى واحد أي "لست انساناً[4])).
ولهذا نجد الدكتور شريعتي يركز على ما يصنعه الإستحمار لا على الوسائل والآليات التي يتم بها هذا الإستحمار، فأي شيء يجعل الإنسان لا يفكر إلا في الأمور الهامشية ويحرفه عن الأمور والقضايا الرئيسية، فإنه مهما كان شكله وأسلوبه وآلياته فهو استحمار ما دام بعيداً عن الدراية الإنسانية والدراية الإجتماعية كما يعبر، وفي هذا يقول: ((إن أي جيل انصرف عن التفكير في "الدراية الإنسانية" كعقيدة واتجاه فكري ومسير حياتي وتحرك دائم، لا كانشغال يومي يزاوله كل أحد، وأي إنسان لا يفكر في "الدراية الاجتماعية" بمفهوم "نحن"، وإنما يفكر في شيء غير مصير المجتمع ومشاكله ومهماته واحتياجاته، فإن هذا التفكير حتى لو كان في شيء مقدس، فهو استحمار! وقد استُحمر ذاك الجيل. ولذا فإن الاستحمار قد لا يدعوك إلى القبائح والانحرافات أحياناً، بل بعكس هذا يدعوك إلى المحاسن ليصرفك عن الحقيقة التي يشعر هو بخطرها، كيلا تفكر فيها فتنبهك "أنت" و"الناس"[5])).
قد يبدو هذا الكلام الذي استعرضناه فيما مضى من آراء الدكتور شريعتي كلاماً عاماً نوعاً ما، قد لا يحسن فهمه إلا القليل من الناس، ولهذا سوف نقوم بتفصيل الكلام وشرحه أكثر من خلال ذكرنا لنماذج وأمثلة عملية للإستحمار، وسوف نركز على ما أطلق عليه الدكتور شريعتي بالدين الإستحماري، نظراً لأهمية الحديث عن دور الدين في هذه الناحية هذا من جهة، وليتضح المقصود من مفردة الإستحمار بصورة أكثر من جهة أخرى.
الدين الإستحماري:
تحت عنوان الدين الإستحماري يواصل الدكتور شريعتي كلامه عن الإستحمار قائلاً: ((بعد انقضاء فترة الأنبياء العظام الذين بلغوا الدين واضحاً وصادقاً في ذروة الحقيقة، وقع مصير الدين في أيدي قوات استحمارية مضادة للإنسانية، تتسمى باسماء كالطبقة (الروحانية)، والطبقة (المعنوية)، والطبقة (الصوفية)، وطبقة (الرهبان)، وطبقة (القسيسين). فاتخذوا من الدين وسيلة لاستحمار الناس–الاستحمار الفردي والاجتماعي- لأن الدين يعتني ويهتم بكليهما، وبالأخص الإسلام الحنيف، الذي يشمل "الدراية الإنسانية" و"الدراية الاجتماعية" و"الدراية الفردية"[6])).
((وكلامي هنا –(والكلام للدكتور شريعتي)- يدور حول الدين الاستحماري، الدين المضلل، الدين الحاكم، شريك المال والقوة، الدين الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين، لديهم اجازات للاكتساب وفيها علامات خاصة تنبأ عن احتفاظهم بالدين، وأنهم من الدعاة ولكنهم من شركاء الاثنين المذكورين (أي أصحاب المال والقوة، السلطة الاقتصادية والسياسية)... كلامي يدور عن هذا الدين. لأي شيء يسخر الناس كالحمير، أي يستحمرهم؟ وما الذي جعله أكبر وأقوى مستحمر في المجتمعات القديمة؟ ماذا يفعل هذا الدين بالإنسان فيستحمره؟)).
وبعدها يردف شريعتي قائلاً: ((ليس باستطاعة الدين أن يسلب مني "نباهتي الفردية" ولا مسؤوليتي بالنسبة إلى مصيري أو مجتمعي. إذاً ماذا يعمل حتى يصير مستحمراً؟ قد يكون عمله أمراً واحداً، هو نقل الإنسان بالنسبة إلى الظروف والزمان! أي يقول لك:
· دع الدنيا فإن عاقبتها الموت !
· ادخر كل هذه الحاجات والمشاعر والامنيات إلى الآخرة، إلى ما بعد الموت! ليس الفاصل الزمني بكثير، ثلاثون أو أربعون أو خمسون سنة لا قيمة لها! بعدها كل شيء تحت طوعك... وتكون من أولائك الذين هم فيها خالدون !
· إنها سنوات العمر القصير لا قيمة لها، دع الدنيا لأهلها ! ويقصد "بأهلها" نفسه وشريكيه الأخيرين.
وبعد ذكره لهذه الأمثلة التي يتداولها بعض الناس في حياتهم، والتي تبين جانباً من طريقة تفكيرهم، والذي لها انعكاس واضح على سلوكهم وتصرفاتهم، يجيب الدكتور شريعتي على سؤاله حول كيفية استحمار الدين للإنسان في نقطتين قائلاً:
((الأولى: يأخذ مني إمكانياتي ومواهبي التي امتلكها، ويحرمني منها، فيلزمني أن استعيدها من أجل كوني "إنسانا"، ومن أجل "درايتي الإنسانية". كما ينبغي على أن أرفض الظلم من أجل الحاجة إلى العدالة. أما دين الاستحمار فيدعوني إلى التمكين من الظلم والفقر والسكون والصبر، ويكلني إلى "العباس عليه السلام" ويزيح عني كل مسؤولية!
الثانية: حين أرى نفسي مقصراً، خائناً مسيئاً إلى المجتمع ومصيره، أقع تحت ضغط مسؤولية ضميري، فتجرني "الدراية الاجتماعية" إلى أن أرجع حقوق الناس إليهم، واستسمحهم فيما فرطت في جانبهم. لكن الدين الاستحماري المنحرف يموه علي ويقول لي: صحيح أنك خنت وبعت مصير الناس للآخرين إلا أنك لا تستطيع أن ترجع حقوقهم عليهم وليس هذا صواباً! هناك طريق أسهل. ما هو؟، أن تقرأ هذه الكلمات ست مرات وأنت متجه نحو القبلة! فلن يبقى عليك شيء، وستغفر ذنوبك كلها لأنك حينها ستنال الشفاعة، العفو، الرحمة ! وان رب (هذا الدين) سيصفح عن جميع السيئات، والقبائح، والمنكرات بسهولة، وسيمحي ذنوبك ولو كانت عدد رمال الوديان، ونجوم السماوات، بنفخة واحدة ! )).
ثم تتساءل –والكلام للدكتور شريعتي- إذاً لأي شيء أتحمل ثقل المسؤولية الاجتماعية؟ لماذا؟ إذا كانت مسؤوليتي نحو الناس وحياتهم الاجتماعية تلزمني أن أموت من أجلهم، وأضحي بنفسي في سبيلهم، فهناك طريق أسهل! هو "كتاب الأدعية" فإنه يفتح لي أبواب الجنان من غير تعب ولا نصب، ولا مشقة، ولا تشويش، وبدون (شعور)! أو فكر، وبدون أي مسؤولية! يكفي أن تدخل السرور في قلب أحد، أو تقضي حاجة أحد، فإنه سيمحي كل ذنوبك، ويبدل سيئاتك حسنات، ويقضي عنك كل المسؤوليات الاجتماعية ! هذا هو الدين المستحمر.
ويواصل الدكتور شريعتي كلامه قائلاً: ((ومن ثم نرى الدين المستحمر يكل استيفاء حقي، وأخذه ممن ظلمني إلى ما بعد الموت. هذا بالنسبة لي وأنا مظلوم، أما عندما أكون ظالماً، فإنه يعلمني أن لا استرضي المظلوم على ما فرطت في جانبه، بل ينبغي علي أن أطلب "رضا ولاة الله والدين"! فيصدق لي أولئك الولاة بالنيابة عن جميع المظلومين، وحتى عن الله، على جواز دخولي الجنة . . .! ومن هنا فإن دين الانحراف يدعو الطرفين "الظالم" و "المظلوم" إلى الاستحمار. ويبدل كل القضايا إلى مسائل ذهنية، ويتكفل رفع المسؤوليات الاجتماعية بسهولة وبمكر خاص! لا يعرفه سوى ولاة الله الرسميون والوسائط الرسمية المدربة على كاهل صالح وغير صالح![7])).
وهكذا نجد الدكتور شريعتي يشن هجوماً عنيفاً عن الدين الإستحماري أو الإستحمار الديني لأنه يدعو الظالم والمظلوم إلى الاستحمار كما يعبر، ويتكلم عن الزهد وغيرها من الأمور التي تؤدي إلى تفريط الإنسان في حقوقه وحاجاته وتحرف تفكيره عن المطالبة بها بحجة الإنصياع لأوامر الدين، ولكن فيما ذكرناه كفاية، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة كتاب النباهة والإستحمار للدكتور علي شريعتي.
نحن والإستحمار .. !!
مما لا شك فيه بأنه وفي أحيان ليست بالقليلة يضطر الإنسان رغماً عن أنفه أن يسلم الأمر وينتظر أن يأخذ حقه في الآخرة، خصوصاً إذا عمل بالأسباب والوسائل المتاحة لديه ولم يستطع أن يغير من الواقع شيئاً، ولكن هذا الأمر لا يصح أن يكون عذراً للاستسلام منذ البداية، بمعنى أن يكون الإنسان مستسلما دون محاولة منه ودون أي جهد يبذله أو عمل يعمله، لأن على الإنسان أن يعمل بالأسباب الطبيعية قدر الإمكان، ومن ثم عليه أن يكل الأمر ويسلم أمره لله سبحانه وتعالى.
وهذا الأمر هو ما لم يشر له الدكتور علي شريعتي في حديثه عن الإستحمار، وهذا ما يجعل كلامه بحسب رأيي ناقص وغير تام، لأنه كان من الأولى أن يفصل في هذه الناحية، فمثلاً لو ظلمني أحدهم وسلب حقاً من حقوقي، فإن علي أن أحاول ردعه واستعادة حقي منه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وإذا لم أتمكن منه، فعلي بعدها أن أسلم الأمر لله سبحانه وتعالى ليأخذ حقي منه سواءً في الدنيا أو في الآخرة، لأنه ليس بيدي فعل شيء غير ذلك.
وقد يُعذر الدكتور شريعتي لعدم تفصيله بعض الشيء، فالكثير من الناس يعتمدون كلياً على الأمور الغيبية ولا يعملون بالأسباب الطبيعية حتى ولو كان في مقدورهم ذلك، ظناً منهم بأن الأوامر والتوجيهات الدينية الصحيحة تتطلب منهم أن يعتمدوا في حل مشاكلهم، جميع مشاكلهم، كبيرة كانت أم صغيرة، على طريق التضرع والدعاء إلى الله سبحانه وتعالى وسؤاله وانتظار الفرج والعون منه (أي انتظار المعجزة الإلهية) بدون العمل بالأسباب الطبيعية، ولكن هذا بالتأكيد وحده لا يكفي !
فلو تعرض الإنسان لمعاناة أو لألم أو مرض أو ... فعليه أن يعمل بالأسباب الطبيعية التي تخلصه من ما يتعرض له، لا أن يقف جامداً ولا يحرك ساكناً بحجة أنه صابر وراضي بقضاء الله وقدره، وكذلك لو رأى الإنسان شخصاً محتاجاً للمساعدة أو شخصاً مظلوماً، فلا بد أن يحاول نجدته ونصرته والذود عنه بكل ما يستطيع، لا أن يكتفي بالتوجه نحو السماء بالتضرع والدعاء له حتى يكشف الله سبحانه همه ويفرج كربته !
ولا أدري لماذا يصر البعض على ذلك ويراه من الدين، وهو يعلم بأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الذي كان المتحدث باسم السماء والممثل لها، والذي كانت له ارتباطات غيبية ليست موجودة لأحد منا، والذي كان دعاءه مستجاباً ولا يرد، نجده مع ذلك كله لا يعتمد على ذلك فقط، بل يتعامل بالأسباب الطبيعية، فيجاهد ويحارب ويعرض نفسه وأهله وأصحابه للخطر وللأذى والمعاناة، في حين كان بإمكانه أن يتجاوز كل هذا ويكتفي برفع يديه إلى السماء وينتظر حدوث المعجزة، وهلاك أعداءه من المشركين والمعتدين، ولما احتاج لكل هذه الغزوات والمعارك.
أقول: بأن الكثير منا واقع تحت الإستحمار كما يعبر الدكتور شريعتي، وبالخصوص الإستحمار الديني، لأننا كثيراً ما ننشغل عن الأمور الأساسية والضرورية ونتجه إلى أمور هامشية بحجة التوكل على الله أو تفويض الأمر إليه وغيرها من المبررات الواهية.
[1] راجع كتاب النباهة والإستحمار للدكتور علي شريعتي ص 100-101.
[2][2] راجع المصدر السابق ص125.
[3] راجع المصدر السابق ص99-100.
[4] راجع المصدر السابق ص 100.
[5] راجع الكتاب السابق ص102.
[6] راجع المصدر السابث ص109.
[7] راجع المصدر السابق ص 109-114.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
سلمان عبد الاعلى
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat