صفحة الكاتب : د . صادق السامرائي

معا يا عراق : رافدان ورافد!!
د . صادق السامرائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الحياة العراقية ومنذ الأزل تستمد وجودها وصيرورتها وإنطلاقها الأبدي من النهرين الخالدين دجلة والفرات. 
فالحضارات بدأت على ضفافهما, والولادات الإبداعية والفكرية قد تأثرت بهما. 
وأرض الرافدين كانت هدفا لكل قوة أرضية صاعدة بسببهما , وبعد ذلك يمكن إضافة أسباب أخرى.
فالعراق  يبقى موطنَ الماء والنخيل والنفط , وذخرا حضاريا للبشرية على مدى العصور. 
كل ذلك تأسس في الأرض بفعل حركة النهرين الرمزية في إيقاعها وإتجاهاتها وإلتواءاتها على أرضه. 
فدجلة يتحرك من بعيد الأزمان , ويختزن طاقات حب ورغبة وشوق لا حدود لها , وهو يجري نحو الفرات , ويحصل الزواج الحضاري بينهما في القرنة. 
هذا التفاعل الروحي الوجداني المتحرك على الدوام , يشير إلى حقيقة الحياة وديمومتها. 
فالفرات يسعى إلى دجلة ودجلة تسعى إلى الفرات , وفقا لطاقات العشق الخالد , وإرادات الوجود المتوقدة في جوهر إنطلاقهما وحركتهما التي تبعث الحياة , وما أن يتحقق الإلتحام حتى تولد المدينة ذات الكثافة النخيلية الفائقة , فلا توجد بقعة أرضية تحتضن نخيلا أكثر من مدينة البصرة الفيحاء.
والأجيال العراقية ومنذ لحظة الإبتداء إهتدت في خطواتها وإدراكها للوجود من خلال سلوك النهرين , فالعراقي يعرف في أعماق وعيه ولا وعيه , أن الحياة لا تكون إلا بالحب والتفاعل والإندماج والحركة والعمل , ويدرك أن لا مكان للفرقة والشقاق , لأن ذلك يعارض منطق النهرين ومنهجهما الصادق الأصيل. 
ففي أعماقه إحساس مدوي بأن الحياة إنجاز تفاعل وتماسك , وذوبان روحي وفكري بالآخر, وهذا الشعور مستوحى من طبيعة النهرين في التفاعل لتحقيق الحياة الأغنى والأوفر.
وقد إكتشف هذا من خلال تواصله اليومي مع نهري دجلة والفرات , اللذان صنعا آليات سلوكه وهيكلية أفكاره ونظرته للأشياء. 
فلا يمكنه أن يرفض الحب والتلاحم والتفاعل والإندماج. 
ولا أسعد منه ولا أبهى عندما يعيش تلك اللحظات المشحونة بمشاعر العشق المطلق , وما يدور بعيدا عن ذلك , لا يرضاه وينكره  ويرفضة بقوة وإصرار.
ووفقا لهذا لا يمكن  أن تفرّقه المذاهب والأحزاب , وأية قوة أخرى مهما أرادت أو فعلت , لأنها لا تستطيع أن تغير منطق الطبيعة والكون والتأريخ. 
ولا يمكنها أن تجعل مجرى النهرين من الجنوب إلى الشمال , أو تمنعهما من الإتحاد والإمتزاج, فهذا مستحيل أرضي. 
وكذلك منع الشعب من الإمتزاج , والتفاعل بكل أطيافه أمر مستحيل وممنوع أرضيا, ولن يتحقق لو إجتمعت طاقات الدنيا من أجل صيرورته لأنها ستتعب وتيأس.
وبسبب النهرين تجد في البلاد آلاف الشعراء, لأنهما في حركتهما نحو بعضهما , يعبّران عن أصدق سلوكيات العشق والحب والشوق والرجاء والأمل.
فدجلة عندها غاية
والفرات عنده غاية
 والإثنان يتحركان نحو ذات الغاية , ويقطعان المسالك الوعرة , ويتحديان السدود والمصدات , ويصران على اللقاء والعناق والإندماج في شط العرب , فيدرك كل منهما أنه مولود إندماجي متفاعل أقوى من أي منهما.
إن النهرين رمز كوني لمعاني الحب والتلاحم والعناق , وتحقيق الدروس المتجذرة في الأعماق الإنسانية , التي هي خلاصة محتوى المخلوقات الأرضية , وهما صوت يتردد في الخيال الحضاري الوطني على الدوام. 
فالحب يصنع الحياة , ومسير النهرين نحو بعضهما وتفاعلهما معا يصنع الحياة , وما عدا ذلك يناهضها.
وهكذا ترى الإنسان في صراع مع السدود والمصدات والحواجز , التي تريده أن يسير بعكس إتجاه النهرين, وهو في محنة حضارية ونفسية , لأنه يدري تماما بأنه لا يمكنه أن يغير مجرى النهرين , ويشق شط العرب إلى نصفين , أو أن يكون مسير الماء من البصرة إلى بغداد.
إن النهرين يصنعان الدرع الحضاري النفسي والروحي والفكري لدى العراقيين , ويعلنانها واضحة مدوية ساطعة وفعالة منذ الأزل وحتى الأبد , بأنهم شعب واحد وصوت واحد وعائلة واحدة وقلب واحد, وأن أمواج النهرين تتعانق وتذوب ببعضها , لتصنع أمواج شط العرب , وتفجر روائع الحياة والأمل والخلود على ضفتيه.
فالعراقي لا يمكن إعادة تصنيعه بوسائل الإعلام,  ومؤسسات تكوين الآراء وتقنيات غسل الأدمغة وتدمير النفوس, لأنه مصنوع  في براكين الحضارات , ومصهور بطريقة فولاذية ولا يمكن إعادة تصنيعه , وتفكيك أجزاءه وتركيبها وفقا لإرادة مَن يشاء.
هذه حقيقة تأريخية كبرى وساطعة , يقولها النهران على لسان الموج بحنجرة الإصرار والتحدي والتواصل إلى حيث الحياة تكون, فلا يقف أمام إرادة النهرين حاجز مهما توهم بالقوة والثبات, فأمام قوة الجريان والتدفق لا يمكن لثابت أن يصمد دون إنهيار. 
وهكذا فإن النهرين الخالدين يبثان روح الأمل والتجدد والقوة في آفاق العراق , ويغسلان الوجوه من العثرات والويلات , ويفتحان أبوابا للنور والصفاء.
فليغني الشعراء على هدى الأمواج , ولتطرب الأطيار, وتتهادى المشاحيف , وتسكن الروح وتهدأ النفس ويفرح الفؤاد, فأينما يوجد الماء تكون الحياة, وعندما يجري الماء يكون الطيب والنقاء , فالزمن يساند النهرين , ويمضي معهما في رحلة التجدد والبقاء.
ولهذا صرخ جلجامش في رحلة البحث عن الخلود إنه المستحيل الأكبر أن تنتصر القوة على النهرين , وأن يتحقق البقاء من غير العمل والإبداع والتلاحم الخلاق بين البشر, وتأكد بأن الحركة قوة الخلود وإرادة الأبد , فتجرد عن ذاته وذاب مع أبناء مملكته , كما يذوب دجلة والفرات ببعضهما , فحقق التسرمد الإنساني , وأطلق جوهر رسالة الوجود , لتكون فعلا إبداعيا حاضرا على مر الأزمان.
وتبقى رسالة جلجامش المنبعثة من وعي إرادة النهرين ورسالتهما الحضارية في الأرض , دستورا إبداعيا خلاقا لديمومة الفعل الإنساني بالحب والعمل والأمل والصفاء.
 
وإن الروافد مهما تنوعت وتعددت , تجري نحو صناعة رافدها الأكبر وعنوانها الأعظم , الذي ترفع رايته وتردد إسمه , وتتغنى بأنغامه , وتصدح بأناشيد وطنها العراق!!

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . صادق السامرائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/07/13



كتابة تعليق لموضوع : معا يا عراق : رافدان ورافد!!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net