صفحة الكاتب : عماد يونس فغالي

بولس سلامة، الألم نزف القلم
عماد يونس فغالي


مقدِّمة:
لا يمكن ذكر بولس سلامة في عالم الناس، دون ربطه بالمرض والألم. وربَّ مطّلعٍ يذكر أنّ بولس سلامة عُرف دائمًا بأيّوب القرن العشرين. هو شاعرٌ وأديبٌ لبنانيّ مرّ على شفار مبضع النقد الأدبيّ، ليخرجَ بمخزونٍ صنّفه بين أئمّة الكلمة والفكر اللبنانيّين والعرب.
وتصنّف الرجل شاعرَ الألم. فهو والمرض توأمان، ترافقا العمرَ بدءَ شباب. وتمازجا، حتى لكأنّ تميّزًا آخرَ فيه، لم يكن.
في الحقيقة، تكمن فرادة بولس سلامة، لا بالألم والمرض وحسب، بل في تكوّنه الشخصيّ ومحصوله العلميّ والتخصّصيّ أيضًا! فإنّ مفترقاته التعلّميّة والوظيفيّة أبانت شخصه مميّزًا! هذا الدارس بلاتقليديّة، وتمكُّنُه من العربيّة لغةً وأدبًا، هذا الحقوقيّ الذي تسلّم المهمّات الصعاب والمراكز الحسّاسة لخدمة الناس، جعل اندفاعه الإنسانيّ تكرُّسًا تامًّا، بل تمسُّكًا داخليًّا طال عنده الكيان والقناعات.
هذه الشخصيّة، حدّدت منذ البدايات إيديولوجيّته الوجوديّة، ومواقفه من قساوات الزمن التي تمكّنت منه جسدًا ونفسيّةً!
تعامله مع الحالة التألّميّة التي لازمته، انطلق من نظرة إنسانيّة في ملئها، طالت ثوابت معتقديّة، طالت إيمانًا بالله في قلبه، لمن اعتمد الصليب دربَ خلاص. فما عاد الألم وما يقود إليه من موت، إلاّ وسيلةَ انعتاق، لم يعبّرْ عنهما إلاّ نبضَ حبٍّ صادق!
على دروب الحياة:
مع إطلالة فجر مئويّةٍ عشرين من السنوات الميلاديّة، أضاء في زاويةٍ جزّينيّة من لبنان الجنوبيّ، على إطلاق صرخةٍ أولى من فم مولود، سيُتبعُها صيحاتٍ مبدعة، على امتداد القرن الذي يعاصره. في منزل يوسف سلامة، أهدته زوجته لطيفة مولودًا ذكرًا أسمياه بولس، سيلمع اسمه امتدادَ رمية الكلمة متى لُفظت!
مطلع السنة 1902، وُلد بولس سلامة في بتدّين اللقش لأبٍ أمّيّ حادّ الذكاء، يقول فيه: "والدي كان كوالدتي أميًّا، لأسبابٍ جمّة، منها شيوع الأميّة عهدئذٍ، فضلاً عن عزلتنا في ريفٍ قد حفل بكلّ بهيجٍ من مفاتن الطبيعة وخلا من المدارس". ولوالدةٍ لم تكن دون زوجها ذكاءً، بل "كانت أرهف منه بصيرةً وأصدق فراسةً".
بدأت رحلة شاعرنا مع العلم وهو ابن خمس. دخل مدرسة القرية، و"مدرستنا يومذاك بالزريبة أشبه". كان ذلك سنة 1907. لينتقلَ بعدها في مدارس المنطقة، فيصل إلى مدرسة الأخوة المريميّين في صيدا ثمّ مدرسة الحكمة في بيروت، ليعود إلى الفرير في صيدا وجونيه.
بديهيٌّ القول إنّه تلقّن عالي الأسس العلميّة والتربويّة ومبادئ الأدب وقواعد اللغات، لما تمتّعت به المدارس التي أمَّها من قدراتٍ تعليميّة وأسس تربويّة خرّجت على مدى السنوات، رجالات العلم والدولة في الحقول كافّةً!
توقّف بولس سلامة عن ارتياد المدرسة خلال سنوات الحرب العالميّة الأولى، وأقام في البيت لاضطرار المدارس إلى الإقفال. لكنّه لم يوقف تحصيله، فلجأ إلى المطالعة: "كنتُ أحمل في جعبتي إلى الأحراج والوعور، تارةً سيرة عنترة، وطورًا كليلة ودمنة أو مجاني الأدب وبعض كتب القراءة... والتوراة". وشملت مطالعاته أيضًا التاريخ والفلسفة، ما كوّن لديه مساحةً معلوماتٍ واسعة قلّ وجودها في ذاكرة أدباء كبار، أرست ثقافة شاملة صقلت شخصيّته وفكره، وأثّرت لاحقًا على مواقفه من صراعات الدنيا التي تخبّط فيها.    وجعلته مرجعًا في ميادين الفكر الأدبيّ والفلسفيّ والدينيّ، بالإضافة إلى التاريخ وعلم الاجتماع.
وفي تخصّصه الجامعيّ، توجّه نحو القانون، فأمّ مدرسة الحقوق الفرنسيّة في بيروت التابعة للجامعة اليسوعيّة، ليتخرّج منها سنة 1925 بشهادة ليسانس.
في الوظيفة والمسؤوليّات:
سنة 1919، انتخبه أهل قريته شيخَ صلح، وهو لم يبلغْ بعد الثامنة عشرة. فاستلم مسؤوليّة الكبار وهو لم يطأ بعد "سنّ الرشد". وكان عليه أن يخرج على طبيعته ليعيش حالةً فُرضت من الرصانة المصطنعة. فلا بعدُ كلامٌ كيفما يهوى، ولا بعدُ مسيرٌ إلاّ حسبما يجب، كي يفرضَ احترامًا قاسه أهل الدساكر على قدرٍ من نظام. فقال في نفسه عن تلك الحياة الخاصّة المتميّزة بالوقار وضبط النفس: "ها هي الشيخوخة القسريّة تدركني ولم أُتمّ الثامنة عشرة بعد".
وراح إلى ذلك يخوض معترك الحياة مدرِّسًا اللغة العربيّة في مدرسة الحكمة، ومحاميًا متدرِّجًا، ما أفاده في ميادين اللغة والبيان والخطابة... وانتقل إلى القضاء ليستلم المسؤوليّات الجمّة والمتعدِّدة المراكز والمتنقّلة في المناطق. فمن عاليه والشويفات شتاءً والدامور صيفًا، عُيّن حاكمًا صلحيًّا. ثمّ مستنطقًا في بعبدا وقاضيًا في بيروت. وتنقّل بين زحلة وطرابلس ليعود إلى بعبدا...
مرضُه:
المرض والألم والموت أنشودة الرحيل، بدأ بولس سلامة ينظمها مُرغمًا في عمر الشباب. في الرابعة والثلاثين من عمره، انتظم الداء في جسد الشاعر، ليتشكّلَ عبر تقلّبات السنين رفيقًا ملازمًا. كان بعدُ قاضيًا للتحقيق في طرابلس، في 12 تمّوز 1936، عندما زاره لأوّل مرّة
داءٌ تخلّلَ في العِظامِ فردّها        فلذًا وأشلاءَ على أشلاءِ.
تنقّل به داؤه بين البيت والأطبّاء ليرسو لياليَ أرق وتقلّبُ أوجاع على أسرّة المستشفيات، ما مجموعه في حساب سلامة سنتين توزّعت على امتدادِ سبعٍ وبضعة أشهر، خضع خلالها لمباضع الجرّاحين ما يقارب  الستّ وعشرين عمليّة، ما حدا به إلى القول:
سالت على حدّ المباضع مهجتي            فشفارُها مصبوغةٌ بدمائي.
ولم يتوصّل الطبّ إلى تشخيص مرضٍ فيه، أو تحديد أسباب علّة، ما أعجزه عن تقديم علاجٍ ناجع.

قلمٌ ينزف الألم:
أمام حياةٍ دامت سبعًا وسبعين سنةً، تخطّت فيها مسيرة الألم النصف، لتربو على الأربعين عامًا متواصلة، أمَا بديهيٌّ أن يتأثّر قلم بولس سلامة بواقعه، فينزف على القرطاس قطراتٍ قرمزيّة لم تنِ تحكي معاناةً أضفت نظمًا رماديًّا قاتمًا، وعرضًا ملبَّدًا لحالته النفسيّة المتقلِّبة.
الألم في حياة بولس سلامة رفيق وجود ونديم ليالي أرق أذاقت يأسًا وعتماتِ نفس. قال: "الألم هو توأم الحياة". وهو في أدبه لازمةٌ تارةً وموضوعٌ رئيس طورًا. وفي كلا الحالتين هو مصدر الوحي ونبع الإلهام. "غير أنّ دور الألم في الإبداع يبقى دورًا محرِّكًا وليس خالقًا. فالألم لا يصنع العبقريّة... بل يوقظها ويدفع بها إلى الحركة. وبدلاً من أن تجمّد الأوجاع طاقات الشاعر... تحوّلت طاقاته إلى خطٍّ إيجابيّ هو خطّ الإبداع..." (د. منصور عيد).
عانى أديبنا ألمه بعدما تغلّب عليه، فألفى نفسه طريحَ الفراش، مُلازمَه! تصارع والألم في انفعلاته الأولى التي جاءت محاولات جاهدة للتخلّص منه بالوسائل الطبيّة، لكنّ الغلبة كانت للمرض. ودفعت المريض إلى التفكير بالانتحار، علّه يخلص من الأوجاع.
لكنّ إيمانًا بالله تفوّق! إيمانٌ استقاه من مطالعاته الكتاب المقدّس بعهديه، وسير القدّيسين والشهداء المسيحيّين، شدّد عزيمته ووهبه التجلّد على احتمال آلامه، مردِّدًا مع أديب صعيبي:
هبني التجلُّدَ يقهرُ        النكباتِ حُسْنُ تجلّدي.
واكتشف سلامة أنّ الألم ارتفاعٌ على الصليب، اشتراكٌ في آلام الفادي الذي جعل الصليب قوّةَ الله المحيية. فتحوّلَ يأسه المعبِّر عنه:
إنّ حظّي من الحياة سريرٌ        صار منّي فلم يعُدْ خشبيّا
إلى قولةٍ ملؤها الشعور بالنصر والانعتاق: "استجاب الله صلاتي، فحباني درعًا متينةَ السرد، فتكسّرت عليها النصال... إنّ تلك الدرع التي ألبسنيها الله، كانت من إيمان هو وليد الصبر... تلك النعمة انتشلتني من التشاؤم إلى التفاؤل".
وقلْ أكثر. هذا الإيمان الذي قاده إلى زيارة حجٍّ مريميّ في لورد، حيث ظهرت في القرن التاسع عشر، مريم العذراء على برناديت سوبيرو، فأضحى المكان نبعَ أشفيةٍ ونعم، حقّق في الشاعر أعجوبةً ملموسة. في البدء كان عاجزًا عن الحركة، فكيف يستطيع السفر؟ أصرّ على حجزه مكانًا في الطائرة، متّكلاً على قدرةٍ آمن أنّه حاصلٌ عليها، مكّنته بالفعل من التحرّك وتحقيق أمنيته بزيارة الحجّ إلى أمٍّ وهبته تحسُّنًا ملحوظًا في صحّته، دام شبه طويلاً، استطاع معه من تدوين المؤلّفات والقصائد التي عبّرت عن تعلّقه بالأهداب الإلهيّة ومفاعيل إيمانه. كما صنّف ألمه ومعاناته في خانة الوسائل المخلِّصة والمحيية، تمامًا في خطّ المفهوم المسيحيّ واللاهوتيّ للألم والمرض.
خاتمة:
تسمّرَ على فراش المرض، وخضع جسده المضني لمباضع الجرّاحين، ليلبسَ الألم ثوبًا مضرَّجًا عُرف به إنسانًا ومبدعًا! وأبدع بولس سلامة نثرًا وشعرًا!
من رحم معاناته المستمرّة وُلد أديبًا وشاعرًا على امتداد الفكر الإنسانيّ والفلسفيّ، يعرضُ لوضعه الجسديّ والنفسيّ في سرد أحداث حياته، ووصف حالاته الصحيّة كلمةً ووزنًا، ليُعرفَ بما دعا نفسه: أيّوب القرن العشرين، مردِّدًا:
أيّوبُ ما أيّوبُ، ماذا خطبُه؟        هو قطرةٌ، وأنا خِضمّ بلاءِ!
وفيما تردّ مأساةٌ كالتي قاساها شاعرُنا على صاحبها بالاستسلام واليأس والتشاؤم، تحامل بولس سلامة عليها مدّة أربعين عامًا بسلاحَين: الإيمان والقلم. ارتمى في أحضان إلهٍ أحبّه وآمن بقدرته على تحويل أوجاعه إلى قوّةٍ خلاصيّة، وله في ذلك مثالٌ فادي، حسب تعبير الرسول: "إنّ كلمةَ الصليب... عندنا نحن المخلّصين، فهي قوّة الله". 
وقاده القلم من ظلُماتِ عالمه القاتم إلى تفتُّقاتٍ إبداعيّة تتابعت، وأهدت الفكر العربيّ توسُّعاتٍ إنسانيّة وإعلاءً راقيًا لمفهوم الكلمة والمواضيع التي خاضتها في تقليديّتها!
بولس سلامة، منارةٌ من علامات الأزمنة في بوتقة الأدب العربيّ وفلسفة الشعر، على ما حطّ من قدره الأسلوبيّ النقد الأدبيّ في السبك اللغويّ والنظم الشعريّ.
إبداعُ بولس سلامة عطيّةٌ من علُ، صقلَتها ثقافةٌ عميقة، وأطلقها تخبُّطٌ في الألم وتداعياته، وامتزاجه بالعلاقة الوثيقة التي ربطته بسيّد حياته، الذي رفعه في معنويّاته على صليب آهاته، إلى مراقي الخلود، اسمًا لامعًا ونهجَ أدبٍ وإنسانيّات!
                                                                                                                
                                                                                                            
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عماد يونس فغالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/12/14



كتابة تعليق لموضوع : بولس سلامة، الألم نزف القلم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net