صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

مع مارسيل خليفة في بيت الدين
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 مع مارسيل خليفة الأشيب المهاب، ذي الشعر المسترسل والصوت الأصيل، وفي حضرته دائماً، في بيروت وفي كل مكان، حيث يكون ويذهب، ويحيي حفلاته وينظم مهرجاناته، فلسطين حاضرةٌ لا تغيب، تتقدم ولا تتأخر، تسمو وتعلو، ببهائها وعظمتها، وبمكانتها وقيمتها، وبقدرها وقدسيتها، وبكبريائها الخالد ووجودها الماجد، وعشقها الآسر، بكلماتٍ لا تبلى مع الزمن، ولا تبهت مع الأيام، ولا تنساها الأجيال القديمة، ولا تلك التي ولدت مع الجرح، واستفاقت في ظل الألم، وعرفت فلسطين جريحةً تنزف، وأسيرةً تعاني، كانت فلسطين مع مارسيل تغني شعراً، وتشدو لحناً، وتسمو فوق الجراح أملاً.

فلسطين بها خليفةٌ يبدأ حفلاته، وبها ينهي وصلاته الغنائية، كالدر ينظمها، وكقطرات الندي ينثرها، وكعطر الياسمين يضوعها، لا يحتاج إلى من يذكره بها، أو يشجعه عليها، أو يطلب منه بعضها، فهي عنده حاضرةٌ كالخبز، وضرورة كالماء، ولا غنى عنها كالهواء، لا يغنيها طلباً لتصفيق الجمهور، ولا سعياً لشهرة بين الناس، ولا تميزاً له بين المغنين، بل لأنه بها يؤمن، وبعدالتها يعتقد، وبانتصارها لا يشك، فقد عاشت في صدره بين الحنايا والضلوع قضيةً مقدسة، يضحي من أجلها، ويعطي في سبيلها، ولا يتأخر في الانتصار لها دوماً، كلمةً ولحناً، وشعراً وموسيقى.

في قصر بيت الدين حضر، منتصب القامة يمشي، بهامته المرفوعة، وقامته الممدودة، وهيئته الشامخة، وقد سبقته جموعٌ كبيرة، واصطفت في القصر جماهيرٌ كثيرة، صغارٌ وكبارٌ، وكهولٌ وشيوخ، ونساءٌ ورجال، كلهم ينتظر صوته الذي عودهم أن يصدح دوماً بأغاني وطنية، وأهازيج ثورية، وموسيقى أبلغ من الكلمة، وأكثر أثراً من القصيدة، وأشد فعلاً من الرصاصة، وأبعد مدىً من الصوت، جعلت منه بحقٍ مغني الثورة، وحادي ركبها، يبث في رجالها الحماس، ويبعث بين أهلها الأمل، ويزرع في الأجيال اليقين.

رغم أن الجمهور في أغلبه لا ينتمي إلى أحزابٍ ولا إلى قوى وطنية، ولا ينتظم في صفوف الفدائيين ولا يلتزم بتعليمات المنظمات، وقد لا يعرف أسماء بعضها ولكنه يعرف اسم فلسطين وقدسها، إلا أنه كان يموج مع الكلمات كالبحر، ويهتاج مع الألحان الوطنية كما البركان، تزين أعناق الكثيرين منهم الكوفية الفلسطينية، الحمراء والسوداء معاً، ويسبقهما علم فلسطين يرفرف في أيدي الحضور من الفلسطينيين والعرب، علمٌ لم يبلَ مع الأحداث، ولم تبهت المحنُ ألوانه، ولم تضيع المصائب بريقه، وسيبقى باقياً يرفرف رغم الخطوب، ومرفوعاً رغم المكائد والمؤامرات.

في قصر بيت الدين الذي أدخله لأول مرةٍ، رغم أنه شهيرٌ وذائع الصيت، وأحد رموز لبنان ومعالمه التاريخية والفنية، الذي أصبح بمهرجاناته الفنية علماً، يعرفه العرب جميعاً، وإليه يتجهون كل صيفٍ على مدى ثلاثين عاماً مضت، وفيه سيدٌ عربيٌ كريمٌ، يتقدم الحضور ويسبقهم، ويرحب بالزائرين ويبش في وجوههم وكأنهم ضيوفه، ويهب لملاقاتهم واستقبالهم وكأنهم في بيته، وهو الذي يزهو بالمقاومين، ويفخر بالثائرين، ويعمل أن يكون كوالده، ويجهز ولده لأن يكون من بعده كجده زعيماً، مقاوماً ثائراً، وناصراً لقضايا العرب المحقة، وجندياً في صفوف المقاتلين لأجل فلسطين، وفي سبيل استعادتها وتحريرها.

ذهبت إلى قصر بيت الدين فقط لأسمع لمارسيل خليفة وهو يغني لفلسطين وقدسها، وللعرب وأحزانهم، وللثورة ورجالها، ولأيقونة الثوار الأمميين ورموزهم، فوجئت أنني بين العرب جميعاً، من كل مكانٍ جاؤوا، ومن كل حدبٍ وصلوا، إسلاميين وقوميين، ويساريين واشتراكيين، مقيمين ومغتربين، خليطٌ من العرب عزَّ أن يجتمعوا في غير هذا المكان، أو يلتقوا في غيره، فخلافاتهم تمزقهم، ومشاكلهم تبعدهم، وهمومهم تقسي قلوبهم، ولكنهم لأجل فلسطين يأتون، وعليها يجتمعون.

أصدقاءٌ كثيرون قد وجدتهم قد سبقوني إلى القصر، سياسيون عربٌ، وأساتذةٌ مغاربة، وروادٌ توانسة، وكتابٌ مصريون، ومناضلون فلسطينيون، وثوارٌ عراقيون، ومثقفون لبنانيون، وأردنيون مقاومون، وأجانبٌ عديدون، لا يعرفون اللغة العربية، ولكنهم يفهمون موسيقاها، ويستمتعون بإيقاعاتها، وشبابٌ يافعٌ يتطلع إلى فلسطين، ويرى في مارسيل مناضلاً ثورياً، ومقاوماً أصيلاً، بصوته وفنه، وموسيقاه ولحنه، ويقينه وأمله.

صمت الجمهور وهم آلافٌ، يملأون القصر ويشغلون كل المقاعد، وسكتوا فلا تكاد تسمع لهم همساً، وقد حبست الكلمات أنفاسهم، وهم يسمعون "جواز السفر" الذي بات حلماً، و"فكر في غيرك" التي باتت مفاهيم مستحيلة، وهبوا واقفين بصوتٍ واحدٍ يرددون "منتصب القامة أمشي"، وبحزنٍ وألمٍ صمتوا لكلمات "وقفوني عالحدود"، وتمنى عليه الجمهور أن يغني "إني اخترُتك يا وطني، حُبّاً وطواعية، إني اخترتك يا وطني سِراً وعلانية"، ولكن "يا بحرية" هب لها الحضور وانتفض، وغنى معه وطرب، ولما انتهى من حفله عاد، لفلسطين عاد، ولجمهورها رجع، وغنى لها من جديد.

معاً سنعبر الجسر إلى فلسطين، سنعبره خفافاً وأبطالاً، وسنعود إليها فاتحين، وسنجتاز الحدود ونحطم القيود، ونرفع في سمائها أعلامنا من جديد، ففي فلسطين أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي، وفيها ستعود ريتا الصغيرة بعيونها العسلية وظفائرها الجميلة، ولن يوقفنا على الحدود أحدٌ، ولن يطلب منا للعبور هوية، ولن يلزمنا للمرور جواز سفر، ويومها لن نكون عارين من الانتماء، بل سيكون لنا وطن، من جبهته ينشق سيف الضياء، ومن جوفه ينبع ماء النهر، وعلى أرضه يسقط المطر.

تحيةً فلسطينيةً إليك مارسيل، وإلى ولديك المبدعين الرائعين رامي وبشار، وإلى الكندي المتضامن جوليان، والمصري الفنان إسماعيل رجب، الذين قدموا لنا منفردين ومعاً، لوحةً فنيةً ووطنيةً رائعة، كانت فلسطين في قلبها زهرة، وتحيةً إلى سيد قصر بيت الدين وراعيه، الذي قال لي يوماً بلسانه، معلقاً على زوار القدس من العرب، الذين دخلوها تحت الاحتلال وبموافقةٍ منه، لزيارتها والصلاة في مسجدها الأقصى، "إن صلاةً في المسجد الأقصى لا تصح بغير عمرَ أو صلاح الدين".

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/08/09



كتابة تعليق لموضوع : مع مارسيل خليفة في بيت الدين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net