أُسُسُ الحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ في الخِطابِ الزَّيْنَبِيِّ (٦) فَارْتَدَّتِ الأَنْفاسُ!
نزار حيدر
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نزار حيدر
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ما أعظمَ زينب بنت عليّ (ع)! ما أعظمَ شخصيّتها، ما أعظمَ منطقها، ما أعظمَ حركتها وسكنتها، وما أعظمَ حُجَّتها!.
كانت الكوفة في فوضى، الكلّ في الشوارع مصدومون ومبهوتونَ من هولِ الفاجعة التي حلّت بأهلِ بيت النبوّة والرّسالة يوم أمس (عاشوراء) في كربلاء، الكلّ يبكي كالثّكلى ويصرخ كالأطفال، لا يعرف ماذا يقول وما الذي يجب عليه فعلهُ.
صراخٌ وعويلٌ ونحيبٌ وهرجٌ ومرجٌ وفوضى.
بالاثناء، ارادت العقيلة ان تُدلي بخطبتِها الصّاعقة، الصّريحة والواضحة، في ذلك الجمع الذي خيّمت عليه الدّهشة والصّدمة، لتُصارحهُ بالحقيقة التي يتغافل عنها لسببٍ من الأسباب، لم تكن تحتاج لاسكاتِهم وتهدئتِهم اكثر من ان تومئ بيدِها ليخيّم الصمت ويُطبق الهدوء وكأنّ على رؤوس النّاس الطير!.
فأيّة شخصيّة عظيمة تلك التي تكفي الإيماءة منها لإسكات الفوضى العارمة؟!.
وأيّة شخصيّة عظيمة تلك التي تتحكّم بالجمهور وعقلهِ وعواطفهِ ومشاعرهِ بايماءةٍ وَاحِدَةٍ فقط لا غير؟!.
انّها الشّخصية الزّينبية التي ورِثت العلم والبلاغة وفنّ الخطابة وقوّة الشّخصيّة من أبيها أمير المؤمنين عليه السلام.
يقول بشير بن خُزيم الأسدي، يروي قصّة تلك اللّحظات العصيبة؛
ونظرتُ إلى زينب بنت علي عليه السلام يومئذٍ فلم أر خفِرةً، والله، أنطقُ منها، كأنّها تفرُغُ عن لسانِ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد أومأت إلى النّاس أن اسكتوا، فارتدّتِ الأنفاس وسكنتِ الأجراس.
وما احوجنا اليوم لهذا النّموذج الذي يتمتّع بمثلِ هذه القدرة الخارقة على التّأثير في المتلقّي في ظلّ هذه الفوضى السّياسية والإعلاميّة والفكريّة والثّقافية التي نعيشها في ظلّ العولمة ونظام القرية الصغيرة.
في ظلّ التكنولوجيا التي جعلت العالم في أَكفّنا فبتنا نعيش الفوضى في كلّ آنٍ لما يحمله لنا الفضاء من كمٍّ هائلٍ من المعلومات التي اختلطَ فيها الحابل بالنّابل ولسانُ حالِنا {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}.
فهل يُمكن ذلك؟! وما هي حاجتنا اليوم الى مثل هذا النّموذج؟.
ان الحاجة تنبع من الواقع المرّ الذي نعيشهُ، فبدلاً من ان نكون نموذجاً جديداً في هذا العالم يقود الرّاي العام باتّجاه الهدف الاسمى، اذا بِنَا تحوّلنا وللاسف الشديد الى جزءٍ لا يتجزَّأ من هذا الواقع المرّ.
وبانتباهٍ بسيطٍ لوسائل التّواصل الاجتماعي وما تنقلهُ لنا في كلّ لحظة، بل ما نتناقلهُ بلا رويّة وانتباه وتعقّل وتحليل، من اخبارٍ وتقارير وصور وتعليقات ومقاطع فيديو لتأكّدت لنا هذه الحقيقة بلا جدال.
انّ ما ميّز الخطاب الزّينبي هو انّهُ كان في كلِّ مرّة يأخذ الامورِ الى منبعِها والى حقيقتِها وجوهرها، فلم يشأ الانشغال بالواقع، وانّما كان يوظّف هذا الواقع للإدلاء بالحقيقة وبما ينبغي ان تكون عليه مرحلة ما بعد الواقع انطلاقاً من النّتائج التي يعيشها هذا الواقع بسبب الخطأ والانحراف في المقدّمات.
انّ الخطاب الذي ينطلق من الواقع لينشغل فيه ويجتره ويستنسخهُ لا يمكن ان يقدّم البديل او يُعالج الواقع المرّ ابداً.
انّنا اليوم مشغولون بتدوير الواقع واستنساخهِ ما يدلُّ بشكلٍ واضحٍ على غياب الرؤية في الاذهان، ولذلك بتنا نتعايش مع الأزمات من دون ان نُنتج الحلّ ونتعايش مع حرب الاستنزاف التي فُرضت علينا من دون ان نُنتج لها حلاً ونتبنّى ما يُنتجهُ الاخر الذي يرسم به خارطة طريق من دون ان ننتبهَ لمخاطر ذلك.
انّنا بحاجةٍ اليوم الى خطابٍ زينبيٍّ جديد يأخذ بنظر الاعتبار المخاطر العظيمة المحدِقة بِنَا، من خلال؛
أولاً؛ ان ننتبهَ لكلِّ حرفٍ نهمُّ بإعادة نشرهِ وتدويرهِ في مجموعات التّواصل الاجتماعي، فليس كلّ ما يصلنا صحيح لنتسابق على نشرهِ، كما انّهُ ليس كل ما هو صحيح ينبغي نشرهُ وتدويرهُ، فالعاقل هو الذي يميّز بين الصّحيحين وليس فقط الذي يميّز بين الصحّ والخطأ.
ثانياً؛ بدلاً من ان ننشغلَ بالنّشر والتّعميم والتّدوير فقط، يلزم ان ننشغل أكثر بالتّحليل والتّدقيق والتّفكير لننتقل من مرحلة الاستهلاك الى مرحلة الانتاج، على الأقل على مستوى الفكرة والرأي والرُّؤية.
الى متى نحصر (واجبنا) بعمليّة (الاستنساخ والّلصق)؟ الى متى نظلّ الظهر المركوب والضّرع المحلوب؟ الى متى ننشغل بالاستهلاك؟ متى سننتقل الى مرحلة الانتاج؟ إِنتاج الفكرة والرأي والرّؤية؟!.
انّ من أعظم صفات الخطاب الزّينبي هو قدرتهُ على هضم الواقع وقيادة الرّاي العام الى النّقطة التي يراها هو لا التي يراها الآخرون، فعندما انشغل الرّاي العام الكوفي بالنّتيجة دفع به الخطاب الزّينبي للتّفكير بالاسباب والعوامل التي أنتجت هذا الواقع المرّ والنّتائج الكارثيّة، والا ما فائدة الخطاب اذا اجترَّ الواقع وتماشى مع الرّاي العام الموجود؟!.
لنقرأ الخطاب مرَّةً أُخرى؛
تقول عقيلة الهاشميّين؛
الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيّبين الأخيار.
أما بعد :
يا أَهْلَ الكوفة، يا أَهْلَ الختلِ والغدرِ، أَتبكون؟ فلا رقأَت الدّمعة ولا هدأَت الرنّة، إنّما مثلُكم كمثلِ التي نقضت غزلها من بعد قوَّةٍ أنكاثاً، تتّخذون أَيْمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصّلف النّطف؟ والصّدر الشّنف؟ وملَق الإماء؟ وغمز الأعداء؟ أو كمرعى على دِمنةٍ؟ أو كفضَّةٍ على ملحودةٍ؟ ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسَكم أن سخِط الله عليكم وفي العذابِ أنتم خالدون.
أتبكونَ وتنتحِبون؟! إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارِها وشنارِها، ولن ترحضوها بغسلٍ بعدها أبداً، وأنّى ترحضونَ قتل سليل خاتم النبوّة؟ ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنّة وملاذَ خيرتكم ومفزعَ نازلتكم ومنار حجّتكم ومدرة سنّتكم؟!.
ألا ساء ما تزِرون وبُعداً لكم وسُحقاً، فلقد خاب السّعي وتبّت الأيدي وخسِرت الصّفقة وبُؤتم بغضبٍ من الله وضُربت عليكم الذّلة والمسكنة.
وَيلكُم يا أَهْلَ الكوفةِ! أتدرونَ أيّ كبِدٍ لرسولِ لله فَرَيتُم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزُتم؟ وأيّ دمٍ له سفكتم؟ وأيّ حرمةٍ له هتكتُم؟.
لقد جئتم بها صَلعاءَ عَنقاءَ سَوداءَ فَقماءَ خَرقاءَ شَوهاءَ كطِلاع الأرض وملء السماء، أفعجِبتم أن مطرتِ السّماء دماً؟! ولعذابُ الآخرةِ أخزى وأنتم لا تُنصَرون.
فلا يَستَخفّنكم المهَل، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار، ولا يَخافُ فَوتَ الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد.
لا تتردّد، إذن، في توظيف عنصر الصّدمة اذا كان الواقعُ محتاجاً لها! ولا تتردّد في ان تضعَ المجاملة والمداراةِ جانباً اذا أخذَ الواقع المرّ مأخذهُ منّا ومداه.
رسالة الخطاب لواقعنا اليوم، هي؛
بينما ينشغل العالم بالجزء الظاهر من جبل الاٍرهاب، تعالوا ننبّهه الى حقيقة الجزء المخفي وغير الظّاهر مِنْهُ، كيف؟!.
هذا ما سأتحدّث عَنْهُ في الجزء القادِم من هذه السّلسلةِ.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat