صفحة الكاتب : محمد الرصافي المقداد

إلى دعاة التطبيع هل وجدتم فيه شيئا نافعا فنتّبعكم عليه؟
محمد الرصافي المقداد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أصواتٌ نشازٍ ترتفع تارة، وتخفت وتذهب سُدًى تارة أخرى، بحسب الأوضاع التي تعتري الشعوب وأفرادها، خصوصا إذا مُسّتْ في إقتصادياتها، مضمونها يتكرّر، بمنطق أنانيّ متبرٍّ من الوضع الذي وجد أصحابه أنفسهم فيه، كلّما ضاق بهم مجال العيش، وهي أصوات تبدو شاذّة في منطقها، منبتّة من أيّ قيمة معنويّة، تتبادر إلى الآذان مستفزّة غيرها، في لغة بدأت تطرق مسامعنا بكل جرأة، وهي واقعا تكاد تخلو من العقل والتّمييز، بعيدة كل البعد عن قيمنا الدينية والإنسانية، انتهازية إلى أبعد حدّ يكون فيه الأنانيّ، وهي وإن كانت محدودة، وليست بالكثرة التي تزعج مشروع المقاومة وأنصاره، إلّا أن تأثيرها في نفوس سامعيها، يفضي إلى شعور بالإمتعاض منها، بينما يراه أصحاب المواقف الثابتة - في اعتبار العدوّ عدوّا وإن عبّر عن وداعة كاذبة - مُحِبِطّة لمعنويات القاعدة الشعبيّة، من شأنها تُوهِم من سكن في عقله جواز التطبيع، مع هذا العدوّ الجاثم على أرضنا، على الرّغم مما كشفه لنا من وجهٍ حقود عنصري إلى أبعد حدّ، يتطاير من مكوناته شرّ مستطير، قد عبّر في كل مناسبة عن تحدّ لدولنا وشعوبنا، وذهبت به شِقوته إلى أبعد مدى من الإجرام وتدنيس المقدّسات، لم يبلغه كيان آخر من قبل وجوده.

أصوات تقول: (ما شأننا بالقضية الفلسطينية؟) مبرّرة كل فشل وخيبة تصيب الدول وشعوبها العربية أنهما بسببها، داعية بلغة طالبي الدّنيا بلا قِيَمٍ: (من حقّنا أن نعيش في رفاهية، ولا ندفع وحدنا ثمنا، يجب أن يكون معْنِيّا به الشعب الفلسطيني وحده، فيكفينا ارتباطا بهذه القضيّة.) وهنا ينفتح من خلال تعابيرهم وتمنّياتهم باب التطبيع- وقد دخلت فيه دول عربية خلافا لمواقف شعوبها- لكنّهم لا يجرؤون على رفعها، لكنّهم يهمسون بها تفاديا من إثارة الرافضين للتوجّه من أساسه، ويرونه خيانة عظمى بحق قضية مركزية، لا تخصّ الشعب الفلسطيني وحده كما برّر المائلون إلى التطبيع، بل تهُمّ الأمّة الإسلامية بأكملها، ومضمون همْسهم: (لماذا لا ندخل فيما دخلت فيه دول عربية من التطبيع مع إسرائيل؟)

أصوات أبدت رأيا تأثّر بواقع معيشي صعب، عبّر فيه أصحابه أنهم متبرّمون من حالهم، ويتمنّون تغييره، حتى لو كان على حساب قضاياهم ومبادئ دينهم، بحيث أصبحت الدّنيا عندهم ذات أولويّة في حياتهم، إن ضاق العيش فيها بسبب مبدأ ضحّوا به، ورضوا بالنزول إلى درك العبيد الذين لا همّ لهم، سوى العيش في راحة ويسر، دون أن يزعجهم شيء من المطالب القاسية عليهم، وهؤلاء ينطبق عليهم قول سمعه أبو ذر الغفاري من النبي صلى الله عليه وآله قال فيه: (من أصبح وهمُّه الدنيا فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أعطى الدنية من نفسه، طائعا غير مكره فليس منا).(1)

من هذه الإخلالات والتقصيرات كبُرتْ شريحة متخاذلة عن الحق، عازفة عن مناصرته، حتى لو تعلّق بمقدّس ديني، وإن تظاهر هؤلاء أو نسبوا أنفسهم إلى الدين، ورصيدهم البشري يكبر يوما بعد يوم، لكنّه واقعا لا قيمة له، ولا اثر ترتّب ظاهرا عليه، غُثاء كغُثاء السّيل، وفي تعبير الإمام علي عليه السلام عن هؤلاء حكمة بالغة، قال فيها: (الناس عبيد الدّنيا، والدّين لَعَقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء، قلّ الدّيّانون.)(2) ميّزت لنا حقيقة أنّ الدنيا ليست دار مقام وراحة، وإنّما هي دار بلاء وفتنة، وحسن تطبيق أوامر ونواهي إلهيّة، لا يخرج منها بارئا من عللها وآثارها السّلبية من ركن إليها، بعدما رضي أن يكون طائعا وعبدا متّبِعا لها، وتبّع الدنيا وعبيدها إن ربحوا منها شيئا، فخسارة قِيَمهم مقابلها لا تقدر بقيمة ما كسبوه منها، بئس التجارة التي ورّطوا أنفسهم فيها.

لنضرب مثالا يمكننا أن نستفيد منه في حياتنا، ونعدّل به مواقفنا، فنثبّت فيها السّليم، ونستبعد منها السقيم، عندما رفض النبي صلى الله عليه وآله إغراءات قريش بترك دعوته، مقابل إعطائه من الدنيا ما يشاء، حاربته بشراسة، وصلت إلى حدّ عزله من المجتمع القرشي، مع ثلّته المؤمنة من بني هاشم وأتباعه في شعب مكّة، المعروف ب( شعب أبي طالب)(3) استمرّ ثلاث سنوات، عانى فيها مع من معه حصارا شديدا ظالما، كاد يقضي عليهم من الجوع والعطش، لكنهم صمدوا وثبتوا، إلى أن فرّج الله عنهم ذلك الضيق والعسر الشديدين، والحادثة في حقيقتها محاولة تطبيع عرضها مشركو قريش على النبي صلى الله عليه وآله، فأبى وامتنع عنها وتحصّن بدينه منها، وهي تنطبق على عمليات التطبيع الحالية التي يجب أن تُعامل بالصّدّ كما جاء في سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، وهو قدوة كل مسلم، فلماذا يغضَّون النظر عنها، ويذهبون إلى خلافها؟

وطبيعي أن يعبّر أشخاص عن رغبتهم في اختيار الدنيا، والعيش فيها براحة، كما تعيش السّوائم، لا يهمّهم من مضمونها، سوى ما يسدّون به حاجتهم الظرفية، ولا مكان لأيّ قيمة دينية والتزام أخلاقي عندهم، متحرّرين من كل ما تعلّق بتلك القِيَم، جهلا أو تجاهلا بما تستوجبه مبادئهم، من مبادرة إلى نصرة المظلوم، وإجابة صرخة الملهوف، وهذه المواقف تكرّرت في التاريخ بحيث تركت أثرها السيء خذلانا وتواطئا، ولم تختفي في عصر من العصور، والنزوع إلى اختيار أيسر الطرق للمرور من الدّنيا، مسألة متعلّقة بضعاف النفوس، الذين ينفرون عادة من التضحية، ويرونها لا تخصّهم، أو يبرّرون بأنهم لا يقدرون عليها، بعقلية من يقدر على أمريكا، ويرونها بعقول قاصرة، ربّا مربوبا يستحيل غُلْبُهُ، وهذا كلّه عائد إلى فقدان الثقافة الدينية عند أغلب أفراد شعوبنا، بعد أن عبثت بمناهجنا التربوية فئات من بيننا لا دينية، نصبت جهودها لتفريغ أجيالنا من عقائدهم.

لقد طبّعتْ دول منذ ثمانينات القرن الماضي، كمصر والأردن، لكنهما بعد ذلك لم يرى لهما خيال على ساحة القضية الفلسطينية، وهذا داخل ضمن الإتفاق، ومع ذلك التنازل الخطير، لم يحصلا من ورائه على شيء نافع لشعبيهما وبلادِهما، وهما اليوم دولتان منهكتان إقتصاديا، لم يتغيّر حالهما منذ اتفاقيتي (كامب ديفيد)(4) و(وادي عربة)(5)، بل أعتقد أن أوضاعهما ساءت عما كانت عليها من قبلُ، وبالتّالي لم يجنيا من التطبيع مع إسرائيل غير الذّلّ والعار، فهذان مثالان يجب أن يؤخذا بعين الإعتبار، إلى هؤلاء المطبّعين الأوائل ومن جاء بعدهم أقول: ماذا جنيتهم من تطبيعكم؟ لا أعتقد أن لديهم إجابة مقنعة .

فهل إلتفت المطبّعون أدعياء الإسلام، إلى ما يستوجبه ديننا من علاقة وخدمة والتزام نحو بقية المسلمين، وقد قال تعالى: (إنّما المؤمنون إخوة )(6) بمعنى أنّه لا يمكن فصل الشعوب الاسلامية عن بعضها، بعنوان العرق أو البعد الجغرافي أو أي سبب آخر، وجميعهم على اختلاف أعراقهم وألوانهم، داخلون ضمن رابطة الأخوّة الإسلامية المقدّسة، والتي تستوجب حقوقا لا بدّ من تقديمها حتى تستقيم العلاقة، فهل سمحتْ لهم علاقة الأخوّة هذه، ليخرجوا عنها إلى خلافها، بإقامة علاقات مودّة، مع من وصفهم الله سبحانه بأنه أشدّ عداوة للمؤمنين؟ ( لتجدنّ أشد عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)(7) وهل أوجدوا لأنفسهم مبرّرا واحدا يُتيح لهم مخالفة أوامر الله في البراءة من أعدائه، وحِرْمة التعامل معهم، ومحاربتهم إن لزم الأمر؟ وقد نهي عن ذلك نهيا باتّا: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ..) (8)

كيف يستقيم التطبيع مع عدوّ مغتصب أرض شعب شقيق، لا يزال يعربد فيها بالإثم والعدوان، قاهرا أهلها بمختلف أشكال الظلم، الذي لم تجتمع عناصره على شعب مثله في التاريخ المعاصر؟ إنّ من ضرورات الإسلام أن ينْصَبّ الإهتمام بأمور المسلمين من طرف الجميع حكاما ومحكومين، وهو فرض عين لا يُسقِطه أداء البعض عن البقيّة، وقد جاء عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله قال: (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلا ينادي: يا للمسلمين. فلم يجبه فليس بمسلم.) (9)

بهذا نخلُص إلى أن التطبيع مع العدوّ الصهيوني هو خذلان لأشقّائنا الفلسطينيين، وتفريط في القضية بما تشتمل عليه من مقدّسات، وتعامل غير مشروع لا دينا ولا عُرْفا ولا قانونا، وإن رعته أمريكا ودول الغرب، فإنّه نشاز في وسط عالميّ مجمعة دوله تقريبا على خشية هذا القطب الواحد، ومجاراته في ظلمه للشعب الفلسطيني، ومساندته لكيان استثنائي قام على عنصرية وتطرّف وإرهاب، في عالم الدول لا مكان له واقعا على أرض فلسطين، لذلك فإنّه من واجب كل مسلم أن لا ينجرف وراء من فقد بوصلة القدس، ليحوّل كعبته إلى البيت الأبيض الأمريكي، ويكون اداؤه حيث يرضى الأمريكي والصهيوني، ومن لم يتأدّب بالعِبْرة ستؤدّبه العَبْرة حتما، ولا نريد أن يكون ذلك بعد فوات الأوان.

المراجع

1 – أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ج1 ص29 و ص 466

2 – بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 44 ص 382

3 – شعب أبي طالب https://ar.wikipedia.org/wiki/

4 – اتفاقات كامب ديفيد https://ar.wikipedia.org/wiki/

5 – معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية https://ar.wikipedia.org/wiki/

6 – سورة الحجرات الآية 10

7 – سورة المائدة الآية 82

8 – سورة الممتحنة الآية1

9 – وسائل الشيعة الحرّ العاملي ج 16ص336و337 أحاديث 21700/21701/21702


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الرصافي المقداد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/04/19



كتابة تعليق لموضوع : إلى دعاة التطبيع هل وجدتم فيه شيئا نافعا فنتّبعكم عليه؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net