لتسع وأربعين عاماً، كانت تلك كلمتي، لكنه نطق بها الآن، قالها وقد غار بريق عينيه في جنح المنية، استحكمت قبضته يديَّ بقوة..
يا ولدي، قد وصلت المنحنى، وأنا الآن محتاج إليك.. نعم هي ذي كلمتي، لم يسمعها مني يوماً، ليس تعنتاً لكن حياء؛ كي لا أرهقه بما لا يطيق..
لكنه كان يفهمها دون تصريح، عندما أحزن وأفرح، عندما أخفق وأنجح، بل حتى عندما أرتمي في حجره الملكي؛ هرباً من تعنيف أمي، ومقالبي التي تصل أحياناً حدّ الأذية، وشاباً لم تخاصمني الدنيا، وتأبى عناداً مصاحبتي، وعندما.. وعندما..
كيف..؟ لا زال الوقت باكراً لنفترق..
أفق يا ملاذي.. أدركنا يا مغيث..
أفق وانظر في عيني، وانسَ بربك خطاب الوداع.. لكن..
شهيق هلل بالتوحيد، لم يعقبه زفير، رويداً رويداً خبت حرارة الحياة، واندسّ بين كفينا شبح بارد، أجبرني أن أستغيث بمن حولي، علِّي أستجدي له لحظة أخرى للعودة..!
بت أستنجد باسمي وشهرتي، بشهاداتي، بعمري الذي شاب تحت كنفه، فجميعها منه، وكلها الى فضله تعود..
لكن عبثاً أحاول، فقد صفعني استرجاع الطبيب، وحال الستار الأبيض بيني وبين وجهه الشاحب، وجهه الذي أبلته جبابرة الفصول بمعاولها دون كلل أو رحمة، على أكتافي حملت نعشه الساكن، وأظن أن السحاب أخذت تنعى للوعتي، فأرسلت مبعوثها أمطاراً اخترقت رأسي كرصاصات باردة، وسرعان ما عانقت دموعي المنسابة، وراحت تغسل مرآة ذاكرتي، لتتضح فيما بعد صور شتى ومناظر.
فعدت أدراجي صبياً ألهو وألعب مع أقراني في طرقات محلتنا الضيقة، ثم ما إن ألمح شخصه عائداً من بعيد، وقد أحنت قامته أثقال الحياة المتعاقبة، لكن ما إن تقع عيناه عليّ، حتى ينتصب متصنعاً القوة فقط؛ كي لا يشعرني بالذنب.
آه.. كم سأفتقدك.. أنت يا من لوت سواعدك السمراء صخور الذلة؛ لأغفو في مهدي عزيزاً، فأصحو مدللاً على صوت مناغاته، ليصطحبني لمدرستي، ويطبع قبلته الدافئة على خدي، وترانيم دعائه اللاهوتي تحلق فوق رأسي كملاك حارس ما يشحذ طاقاتي، فتسكن هواجسي، وتتسابق أحلامي دون وجل.
وطأت أقدامي ثرى وادي السلام، اللحظات تمضي بلا هوادة، ولما يكتمل شريط الذكريات بعد، ليتها تمهلني، وتترفق لحالي، عجباً كنت أحسب الذكريات تبرق في مخيلتي كالومض الخاطف، لكن مع هذا المسجى، تتجسد كما هي بروحها ونبضها، لذا لن تنتهي على شفير قبره.
آه.. كيف أمسيت وحيداً يقبرك المنون، وتشد قوامك المهيب أربطة الكفن..
وتطوي ذكراك السنون..
أبي.. يا آية الإحسان.. أو تراني جازيتك يوماً..؟ أبداً..
كيف وأنا الى الآن محتاج إليك.. فليرحمك الله يا عالمي الحنون..
يا نبع عطاء.. وا أسفاه قد نضب..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat