صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

سياحة فكرية ثقافية ( 10 ) الايمان واليقين
علي جابر الفتلاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 يقن الامر أي ثبت ووضح فهو يقين ، وايقن وتيقن واستيقن :علم وتحقق ، واليقين: ازاحة الشك وتحقيق الامر ، او هو العلم الحاصل عن نظر واستدلال وحق اليقين واضح اليقين وخالصه ، وربما عبروا عن الظن باليقين وعن اليقين بالظن .
وتحدث القرآن الكريم في عدة آيات عن اليقين المقترن بالايمان ، لان من اليقين من يكون فارغا عن الايمان ، بل مجرد فكرة في الذهن ،اذ اليقين مكانه الذهن والايمان موطنه القلب ، ونقصد الايمان الحقيقي ، وعندما يلتقي ما في الذهن من اليقين مع مافي القلب من الايمان فهؤلاء هم المتقون الذين تحدث عنهم القران الكريم ووصفهم بأوصاف عديدة ومنها انهم (( يوقنون )) أي يصدقون ما في الغيب ، ويكون التصديق بطريقين الاول عن طريق القران الكريم او الحديث النبوي الصحيح المصدق للقران ، والثاني عن طريق العقل والدليل المتحصل من ايات الله الكونية والطبيعية ، وآيات الله في الانسان ذاته ، هذه الآيات التي ترشد العقل وتكون حجة ودليل له للايمان بالله واليوم الاخر ، قال تعالى (( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين )) 1، 2 البقرة لكن من هؤلاء المتقون الذين تتحدث عنهم الاية الكريمة ، والذين يتخذون كتاب الله هدى لهم ؟، الايات الاخرى تعطي الجواب وتبين اوصاف هؤلاء المتقين وهم:
(( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )) 3 البقرة الاية الكريمة السابقة اعطت ثلاث صفات للمتقين الايمان بالغيب ، واقامة الصلاة ، والانفاق في سبيل الله ، وهل لهؤلاء المتقين صفات اخرى ؟ نعم تذكر الاية الكريمة الاخرى صفات اخرى للمتقين منها (( والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون )) 4 البقرة فمن صفات المتقين انهم (( بالاخرة هم يوقنون)) وفي الاية التي سبقتها ذكر الله تعالى انهم (( يؤمنون بالغيب )) والاخرة هي من الغيب والله تعالى يصف المتقين انهم يوقنون بالاخرة ، ولأن المتقين مؤمنون بالله ويدينون له بالحب والخشوع والاستسلام ، ولان الله هو الذي اخبر عن وجود الاخرة التي هي من الغيب ، فقد تولد اليقين بالاخرة عند هؤلاء المتقين لان الله هو الذي اخبر عنها ، وهنا قد اجتمع اليقين الذي هو امر ذهني مع الايمان الذي هو قلبي عند هؤلاء المتقين الذين وصفهم الله تعالى في الايات السابقة بصفات عديدة منها انهم يؤمنون بالغيب والاخرة ، وهنا اجتمع عند المؤمنين اليقين الذهني مع الايمان القلبي ، لكن هناك صنف من الناس لا يؤمنون بالاخرة حتى لو اخبر بها الله تعالى ، وهؤلاء هم المشركون ويصف حالهم الله تعالى بقوله (( واذا قيل ان وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة ان نظن الا ظنا وما نحن بمستيقنين )) 32 الجاثية هؤلاء المشركون يقولون عن انفسهم اننا غير متيقنين من وجود اليوم الاخر او قيام الساعة ، وانما نظن بذلك ظنا ، فهذا الصنف من الناس قد يؤمنون بالله ولا ينكرون وجوده ، لكنهم لا يؤمنون باليوم الاخر ، وهذا يدل على ان اليقين ليس بالضرورة ان يكون مصاحبا للايمان ، لكن من اللازم مصاحبة الايمان لليقين ، وهناك من يقسم اليقين الى ثلاتة اقسام او درجات ، ومن هؤلاء الصوفية ، فعندهم ان المدرك على ثلاثة اقسام (( مدرك بعلم اليقين كمن يدرك وجود النار من وجود الدخان ، ومدرك بعين اليقين كمن يرى النار بالذات ، ومدرك بحق اليقين كمن يكتوي بحرها )) ( التفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ) واليقين بأقسامه الثلاثة ان لم يصاحبه الايمان الصادق المنبعث من القلب سيكون مجرد فكرة في الذهن وخير اليقين هو المصاحب للايمان المغيّر للسلوك ، بحيث يتصرف المؤمن صاحب اليقين بتأثير من ايمانه ويقينه المجتمعين معا ، وهذا النوع من اليقين هو ما وصفه النبي محمد (ص ) في وصيته لامير المؤمنين (ع) اذ قال ((  يا علي ان من اليقين ان لا ترضي احدا بسخط الله ، ولا تحمد احدا بما اتاك الله ، ولا تذم احدا على ما لم يؤتك الله ، فأن الرزق لا يجره حرص حريص ولا تصرفه كراهة كاره ، ان الله بحكمه وفضله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)) تحف العقول لابن شعبة الحراني واذ نتحدث عن الايمان واليقين لابد من الاشارة الى ان هناك علاقة وطيدة بينهما ، ولكنهما ليس شيئا واحدا فالايمان غير اليقين ، اذ لا يوجد ايمان من غير يقين ، فالايمان يلتقي مع اليقين ،وقد يوجد يقين من غير ايمان ، لان اليقين امر يتعلق بالذهن والفكر ،وهناك بعض المفكرين والباحثين لا يميزون بين الايمان واليقين ويعتبرانهما واحدا ، وكذلك يعتبران الايمان واليقين ثابتين وغير قابلين للزيادة او النقصان ، علما ان من لوازم الايمان حصول اليقين ، فعندما يوجد الايمان لابد من مصاحبة اليقين معه ، ولابد من الاشارة الى ان الايمان ينفرد بلوازم غير موجودة في اليقين منها الارادة والفعل والخضوع والخشوع والحب والتوكل والاستسلام ، فعندما يلتقي الايمان مع اليقين ، ينتقل الامر الى القلب ، اما اليقين فلا علاقة له بالقلب الا اذا التقى مع الايمان ، والايمان في القلب قد يقوى او يضعف ، اما اليقين فهو في الذهن والفكر وعندما يلتقي مع الايمان فمكانهما القلب ، ويبرز اللقاء الى الفعل بالحب والخضوع والاستسلام اضافة الى لوازم الايمان الاخرى ، في هذا المعنى يقول المفكر الاسلامي عبد الكريم سروش (( نحن لدينا الكثير من الاعتقادات ولكنها مع كونها يقينية الا انها لا يطلق عليها ايمان ، مثلا ما نراه في التعاليم الدينية من وجود الشيطان ، فنحن على يقين من وجوده ، ولكننا لا نؤمن به لانه لا يستحق الاعتماد والتوكل عليه ، ولا نجد في نفسه فضيلة تدعونا لحبه )) .
اذن فاليقين وحده لا يكفي كي نطلق صفة الايمان على الانسان ، والقران الكريم يذكر  هذه الحقيقة اذ يقول تعالى في سورة النمل (( وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين )) 14 فهؤلاء الذين سماهم القران بالمفسدين يمتلكون اليقين بآيات الله الواضحة المبصرة التي تدل على الله تعالى واليوم الاخر لكنهم يكابرون وينكرونها بدافع التكبر والعلو والظلم الذي يعشعش في نفوسهم المريضة فهؤلاء ينكرون هذه الدلالات لانهم فاقدون للايمان رغم وجود اليقين الذهني عندهم ، ويصرون بدافع التكبر والعلو على ان هذه الآيات (( سحر مبين )) في قوله تعالى من سورة النمل (( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين )) 13 (( وطبعا الايمان لا يتنافى مع اليقين بل قابل للجمع معه ، ولكن تحويل الايمان الى اليقين والقول بترادف المعنى ليس امرا دائميا )) عبد الكريم سروش ومن المسلمين من لا يفرّق بين الايمان واليقين فالايمان عندهم (( هو الاعتقاد الجزمي واليقيني ، ولهذا عندما يواجهون ظاهرة زيادة الايمان ونقصانه يذهبون الى ان الزيادة والنقصان من عوارض الايمان لا من جوهره ، ذلك لان اليقين لا يزداد او ينقص خلافا للايمان ، وهذا بنفسه دليل على افتراق الايمان عن اليقين وعدم اتحادهما )) سروش ، وفي نفس الوقت لا يمكن ان نطلق صفة الايمان على انسان من دون ان يحمل نوعا اودرجة من اليقين ، فالايمان يجتمع مع اليقين ، لكن ليس بالضرورة ان يجتمع اليقين مع الايمان ، نستطيع ان نقول ان الايمان من لوازمه اليقين ، لكن وجود اليقين قد لا يصاحبه الايمان ، فقد يكون الانسان متيقنا من امر او شئ وهو لا يؤمن بذلك الشئ او الامرولا يحبه ، كذلك يختلف الايمان عن اليقين ان الايمان قابل للزيادة والنقصان على عكس اليقين الذي يتصف بالثبات ، الايمان من لوازمه الفعل والارادة والامل والحب والتوكل والخضوع والاستسلام والخشوع ... الخ اما اليقين فلا يحتاج هذه الامور ، لانه تصديق ذهني وفكري فحسب ، وفي الامكان والمتاح ان يلتقيا معا او يستقل اليقين عن الايمان لكن الايمان لابد ان يكون معه يقين وهذا يعني ان صاحب اليقين قد يكون مؤمنا او غير مؤمن وقد يكون كافرا ، فالمتيقن بالله بوجوده وقدرته وجميع صفاته ويتصرف بناء على ذلك بالحب والخضوع والتوكل والخشوع لله تعالى فهو مؤمن ، وقد يكون الانسان متيقنا من وجود الله سبحانه ذهنيا وفكريا لكنه لا يحب الله ولا يشعر بالخضوع له ولا يتوكل عليه ولا يخشع او يستسلم له ( والعياذ بالله )، فمثل هذا الانسان يعد كافرا رغم تيقنه من وجود الله سبحانه وقد اشار القران الكريم الى هذا الامر في قوله تعالى (( واذا ذكر الله وحده أشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون )) الزمر ،45 وعلى عكس هؤلاء الذين يحبون الله تعالى (( انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون )) 2 الانفال ، كذلك يقول القرآن عن المؤمنين الذين يحبون الله تعالى (( انما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكّروا بها خرّوا سجدا وسبحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون )) 15 السجدة ويقسم بعض المفكرين اليقين الى ثلاثة اقسام الاول اليقين المعلل أي المستند على علة من العلل ، وهذا هو اليقين السائد عند الاكثرية من الناس ، ويتكون هذا النوع من اليقين بسبب او علة معينة منها الاكتساب او الوراثة ، فاكثر الناس يكتسبون يقينهم عن عوائلهم او محيطهم ، فهو يأتي بالوراثة وهو مقبول دينيا لان هذا اليقين انما يتناسب مع قدرات وامكانات الطبقة العامة من الناس ، لكن هذا النوع من اليقين يكون عرضة للاهتزاز والتأثر للهجمات الفكرية والثقافية المناوئة ، ويتأثر ايضا بالعواطف ، والاعلام الموجه يترك اثره على هذا النوع من اليقين ، لهذا يلجأ علماء الدين الى القاء المحاضرات واقامة الندوات لتنوير الناس لاجل المحافظة على اليقين الذي يمتلكونه ،لان اليقين الذي يمتلكونه لم يتولد من اعمال الفكر والذهن بل جاء من التقليد ، ويتصف هذا النوع من اليقين بالسطحية والجزمية والقطعية ، فالافكار التي يحملها اصحاب هذا اليقين وهم اكثرية الناس لا تحتمل عندهم الخطأ اوالنقد ، فهم يؤمنون بصحة افكارهم وبخطأ الافكار عند الاخرين ، فهؤلاء هم الحصريون الذين لا يتخيلون الحق الا في جانبهم ، اما النوع الثاني من اليقين فهو الذي يأتي او يتولد في الذهن بواسطة الدليل واصحاب هذا النوع من اليقين قليلون جدا ، لانك نادرا ماتجد انسانا يكتسب افكاره اليقينية بواسطة الدليل ، لكن يوجد من الناس من يحمل هذا النوع من اليقين وان كانوا اقلية ، وهذا النوع من اليقين لا يهتز بسرعة وان اصابه اهتزاز فلابد من دليل ، فهو يتصف بالرسوخ والثبات ، ولا يتأثر بمن حوله من تيارات فكرية معادية ، لانه تولد عن دراية ودليل ، اما الثالث من انواع اليقين فهو (( اليقين الكشفي الالهامي القدسي الوصالي الحضوري وهذا اليقين خاص باولياء الله تعالى .. وطبيعي ان يكون هذا اليقين اندر من النادر .)) سروش هذه هي انواع اليقين والله تعالى وهو الرحيم الكريم الحكيم ، الخالق للبشر العارف بنواياهم وبقدراتهم وامكاناتهم ، ولا يكلف نفسا الا وسعها سيقبل ان انشاء هو باليقين الاول او الثاني او الثالث كل حسب امكانيته وقدرته وطاقته ونيته ، وورد في بعض الروايات (( ما قسم الله بين الناس شيئا اعز من اليقين )) غفر الله تعالى لكم ولنا وجعلنا واياكم من الفائزين برضاه وعفوه ومغفرته . 
 
A_fatlawy@yohoo.com
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/01/14



كتابة تعليق لموضوع : سياحة فكرية ثقافية ( 10 ) الايمان واليقين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : عبدالرحمن ، في 2012/01/06 .

اليقين ان اللة موجود وان العمر مفقود وان الحساب معقود




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net