أسيرٌ ولكنه سجين في بيته
حيدر الفلوجي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حيدر الفلوجي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
اخترتُ هذا العنوان لأبدأ مقالتي هذه، وهي وصفٌ لحالة إنسان عاش فترة زمنية وهو يعاني من حالتين، الحالة الاولى هو شعوره بالأسر لما كان يعانيه من معانات الأسر، وبذات الوقت فإنه كان سجيناً في بيته، فيكف نجمع بين هاتين الحالتين؟
في فترة الثمانينات من القرن المنصرم، حيث كانت الحربُ مستعرةٓ بين العراق وإيران ، وكانت أعداد الجرحى والقتلى لا تُعَد ولا تُحصى بين الطرفين، ولكننا نتحدث عن الجانب العراقي لأننا عشنا تلك الحالة في الداخل آنذاك، وكنا ننظر الى الأعداد الكبيرة من قتلى الجيش العراقي حينما كانت تأتي جثثهم الى مدينة الكاظمية المقدسة وذلك لأداء مراسم الغسل وما شاكل والصلاة عليهم في صحن الإمامين الكاظمين(عليهما السلام).
فكنا ننظر الى أعداد القتلى من خلال ذلك، وبنفس الوقت كانت السلطات الجائرة تصدر البيان يلوِ البيان وذلك لحث الجنود المجازين للإلتحاق بوحداتهم ومواقعهم العسكرية لتتم عملية استرجاعهم وللقضاء على حالة هروب الجنود من الجبهات ولسد الثغرات في جبهات القتال وما شاكل، وكانت في ذلك الوقت حملات لإعدام الهاربين من الخدمة العسكرية، وكانت في تلك الفترة طريقة الإعدام تتم في المناطق التي يتواجد فيها اهالي الهاربين، وربما تكون في مناطق شعبية، وهو ما كان يحصل في مناطق الكاظمية وأطرافها، وانا اذ انقل هذا الحدث لأن تلك الأحداث وقعت فعلاً في منطقتنا، فقد كان الرفاق(الجلاوزة البعثيون) كانوا يطرقون الأبواب على الناس لإخبارهم وتبليغهم بضرورة الحضور والمشاركة في احتفالية إعدام مجرم هارب من الخدمة العسكرية والجبهة الشرقية للوطن العربي( الله يجرم) على مقولة المثل العراقي.
في تلك الحقبة الزمنية كنت أكمل مراحله الدراسية والمرحلة الجامعية، وبذات الوقت كان لدينا مشروعاً نعمل به انّا واخوتي في احد أسواق المدينة المقدسة، وفي ظل تلك الأحداث والوضع المتردي، وبينمأ كنتُ انّا وبعض اخوتي وبرفقة المرحوم الوالد في المحل، جائني صديقي وهو يسكن بالقرب من بيتنا، فقال لي: سيد أريدك في أمرٍ ضروري !
فقلت له ما الخبر ؟
فقال : أريدك ان تأتي معي الى بيتنا فوراً، عندها استجبت لدعوته واستأذنت من الوالد والأخوة ومن كان في المحل وتوجهت مع ذلك الصديق، وكان اسمه محمد نوري عيسى، فكنت أسأله في الطريق عن سبب دعوتي وما هو الغرض منها، فكان يقول : عندما نصل الى البيت سوف تتعرف على كل شيء.
وبعد وصولنا الى البيت وجلوسنا قليلاً، دخل علينا السيد نوري والد صديقي وبعد ذلك دخلت والدته وسلمت علينا وجلسنا جميعاً ورحنا نتحدث عن الأوضاع آنذاك، وبعد دقائق من حديثنا دخل علينا شاب كان قد اقبل من الطابق العلوي من البيت وقد سلّم علينا وراح يعانقني، وعندما دققتُ النظر في وجهه، عرفته وصرت أسأله عن أحواله وعن غيبته الطويلة من منطقتنا وعن أهله، فدار حديثٌ طويل بيننا، انتهى بنا الأمر الى ان تركتهم في وقت متأخر من تلك الليلة.
السؤال : من هو ذلك الشاب وما هي قصته، وما علاقته بموضوع المقال ؟
هذا ما سنجيبه في تكملة هذا المقال .
الشاب هو صديق طفولتي هو السيد : نزار نوري عيسى(حالياً هو في استراليا)، وكان يعيش في المنطقة وعندما لم يكن بالمستطاع له من إكمال دراسته وكان عمره قد بلغ الثامنة عشرة، استُدعي للخدمة العسكرية، وبعد استدعائه للخدمة وذهابه الى المعسكرات التابعة للجيش العراقي، اختفت أخباره علينا وكلما كنتُ أسأل عنه يأتيني الجواب تاره انه في الجبهة، وتارة يقولون انه مفقود، وتارة اخرى بخبر آخر وهكذا الى لحظة مجيء السيد محمد ودعوته الى بيته ولقائي به في تلك اللحظة.
نزارٌ هذا ، هو واحدٌ من الكثيرين من أبناء العراق الذين رفضوا خوض الحرب المفروضة على الشعب العراقي وعلى الجمهورية الإسلامية على حدٍ سواء، وكان ذلك مفروضاً من قبل الغرب بواسطة صدام حسين.
كان نزار يستشكل من وجوده ضمن أعداد الجيش العراقي لكي لا يكثر سوادهم خشية محاربة دولة مسلمة جارة وكان قد أُعتدي عليها لأسباب عدائية وطائفية ولدواعي صهيونية، فكان لا يريد ان يكون اداةً بيد طاغية يضرب به من يشاء . (وهذا شعور الكثيرين من أبناء العراق آنذاك) ولذلك فقد غادر العراق آنذاك مئات الآلاف من أبناء العراق الى دول شتى.
كان نزار يسكن في بيته في غرفة صغيرة اُعدّت له من قبل أهله، وكان موقعها في سطح المنزل، وكان بداخل تلك الغرفة بعض المقتنيات للسيد نزار، وهي عبارة عن سرير وطاولة ومجموعة من الكتب الدينية، بالاضافة الى جهاز راديو كان مفتوحاً من كافة جهاته الأربع، وله أريّل طويل يحركه السيد لكي يتخذ الوجهة التي يمكن له الاستماع الى الأخبار وما يدور حول العالم.
وقد تبين لي أثناء ذلك اللقاء ان نزار كان يعيش في تلك الغرفة وفي ذلك المنزل لسنوات طويلة، وهي سنوات الحرب الدائرة بين العراق وإيران، ولم أكن استوعب من ان إنساناً يبقى تلك الفترة الطويلة في ذلك المكان والذي مساحته لا تتعدى التسع متر مربع، ومن المفارقات ، هي ان نزار كان محيط علماً بكل أخبار المنطقة والاعتقالات التي تعرضنا لها آنذاك، ولديه كامل الأخبار في الجبهات والحرب المستعرة، فأما اخبار الحرب فكان نزار يحصل عليها من خلال جهاز الراديو الصغير الذي كان يمتلكه، وأما اخبار المنطقة فكان يحصل عليها بواسطة أهله وإخوته، وكان كلما يضيق صدره كان يرسل بطلب زيارة الى احد أصدقائه الثقات لكي يرفع عما بداخله من ضيق من خلال تلك اللقاءات. ( وهذا نموذج للكثيرين من أبناء العراق آنذاك مع بعض الفوارق لكل حالة).
السؤال هو : ما علاقة هذه القصة في هذا الوقت بالذات؟
الجواب : الواقع انني احببت ان اذكر شيئاً عن كرامات الامام الحسين(عليه السلام) وذلك في ذكرى ولادته، والتي صادفت في اليوم الثالث من شهر شعبان سنة 4 للهجرة، حيث يحتفل المسلمون بتلك المناسبة في كل عام.
وقد صادفت دعوة السيد نزار لي في أول لقاء معه في بيته آنذاك كان في يوم ولادة الإمام الحسين(ع)،
وكانت العلوية والدته(حفظها الله) قد أعدّت سُفرةً كبيرةً قد وضعت فيها انواعاً مختلفةً من الحلوى والفساتق وغيرها، وكان ذلك جزء من الاحتفال والاحتفاء بمولد سبط النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله).
وكان الجميع (أفراد عائلة نزار) يقولون : ان الامام الحسين هو الذي حمى وحافظ على نزار في تلك الفترة ومازال، ولولا الله ورحمته وألطاف وشفاعة الامام الحسين لما بقي نزار لتلك الفترة الطويلة في بيت صغير، وسط العيون المتربصة والمخبرين الذين كانوا منتشرين في كل مكان.
(ومن الطبيعي ان وضع نزار كان يشكل خطورة على عائلته المتكونة من والده المرحوم السيد نوري ووالدته وإخوانه وأخواته ) .
وكما ذكرنا في مقدمة المقال كان الوضع مخيفاً للمناطق المقدسة خصوصاً في الكاظمية التي تحمل أكثر من خصوصية من غيرها من المناطق. ففقد انتشرت حالات الإعدام لكل من يتخلف عن الجيش او يهرب لمدة تزيد عن أسبوع، وكانت القرارات من قبل حكومة البعث تختلف من وقت لآخر بحسب الظروف والمعطيات، فتارة تنتشر حملات التفتيش في الطرقات عن هاربين، وتارة يتم البحث والاعتقال على كل متدين، وتارة تتم حملات الإعدامات في الساحات العامة وهو ما وقع بالفعل في منطقة الهبنة في الكاظمية وبالتحديد: خلف قاطع الجيش الشعبي.
وفي مناطق اخرى من العراق، وأحيانا كانت حملات التفتيش تسل الى البيوت، وفي ظل تلك الحملات كان نزار وأقرانه يختبؤن في بيوتهم الصغيرة ولمدة طويلة دون ان يتعرضوا لسوء وذلك ببركة الامام الحسين وأهل بيت النبي المصطفى، فعلى الرغم من كل تلك المخاطر كانت عائلة نزار تقيم بعض الطقوس وبعض الشعائر الحسينية بنيّة الحفظ والستر، وكانوا يحصلون وما زالو على ما يطلبونه من أئمتهم( عليهم السلام).
فكان نزار(وأقرانه) يعيش حياة الأسير( بل أتعس)، وكان يعيش حياة السجين(بل أتعس)، لأنه كان سجيناً في بيته.
فقصة نزار ولقائي معه ما هي الا نموذج من القصص المليونية التي يحتفظ بها أبناء الشعب العراقي جرّاء معاناته من فترة حكومة البعث(لعنهم الله).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat