صفحة الكاتب : عباس العزاوي

أحلام الفقراء
عباس العزاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

منذ كنت صغيراً وانا العب بين درابين مدينتي القديمة والمهملة , بدشداشتي البازة الشاحبة والقصيرة, ليس لاني من انصار الحركة الوهابية .... بل لاني من طائفة الفقر والشقاء, نركض ونلعب دون الالتفات لحرارة الشمس واشعتها الحارقة لوجوهنا ورقابنا "المزنجرة ".... اتسابق مع الاخرين من رفاق الحي والاحياء القريبة , الاحياء المنسيّة ... الا في أتون حروب التحرير والدفاع المقدس فانها اول المدعوين لحفلاتها الصاخبة ولها حصة الاسد  من بطاقات الدعوة..... أتسابق  مع رفاقي  بدون حذاء ولا حتى نعال رياضي يحمي اقدامي من الحصى او من بقايا القناني المحطمة في الطرقات!!
كانت كرتنا  التي نلعب بها  في الشارع من المطاط  الخفيف , وصاحبها يمارس تسلطه علينا طوال فترة المباراة ولا يقنع باللعب الا في مركز الهجوم ...... بالضبط مثل لاعبي القائمة العراقية ....والا ياخذ "طوبته" ويرحل عن العملية الرياضة برمتها ليتهمنا بعد ذلك بضعف الاداء الرياضي والتسبب بالخسارة امام الخصم , اما كرة القدم الرسمية " الكَريكًر " فلا ينالها في مناطقنا البائسة الا ذو حظ عظيم.
كنت أحلم باشياء كثيرة وجميلة , احلام لاتتحقق ابداً.....لكنها تكتمل وتتجسد في خيالي ... أسبح في مدياتها بعيداً , هناك... حيث عالم الامنيات الدافئ  ولياليه الفضية الرائعة... لتطمئن روحي  وتهجع من تذمّرها الدائم , ولاتجزع من عالمها الجامد والمتخلف!! أحلم منذ بدأت اتحسس رجولتي وكياني "المجعمر" , ليس لاني  شاب رومانسي مرهف الاحساس بل لاني لاامتلك خيارات اخرى ..... فنحن الفقراء ليس لنا ان نحلم ....ولا يحق لنا ان نزعل .... وغير مسموح لنا ان نشتكي ....فممارسة هذه الافعال الانسانية هي تجاوز لحدودنا المقررة ضمن ميثاق الامم البرجوازية المتحدة واعراف مجلس شيوخ الاقطاع العشائري... والموثقة منذ خمسين سنة من قبل اعضاء القيادة الزيتونية الفاشلة وجنرالات الهزائم الوطنية .
نعم , لنا ان نموت ونعرى , ان نجوع ونشقى , ان نُساق الى الموت غصبا..!
في مدينتي  , مدينة التراب , والتي لاتقل شأناً عن مدينة الضباب ... من حيث حركتها الدؤوبة وشهرتها.... الناس يسخرون من كل شئ , وينسجون من آلامهم ودموعهم مادة للضحك والتسلية, ومن حياتهم القاسية طرائف لاذعة وجميلة , اجمل واذكى بكثير من سخرية أدبائنا "الكبار" .... لانهم ناقمون من حياتهم الخشنة, غير مكترثين ابداً بما يقال عنهم في الجانب الاخر من قناة الجيش او خارج حدود كسرة وعطش ولايبالون بما خلف السدة ولا بما وراء تخوم الحبيبية ..... في مدينتي لايحترمون الضعفاء ويتندرون بافراط على الحمقى والسفهاء ولاتنقضي جلسة سمر الا ويكون احدهم بطلها بجدارة.
ولاني لاامتلك في حينها الا ان احلم , لانه المخرج الوحيدة لي من صلابة الواقع.... والكوة المباحة التي انفذ من خلالها الى خارج المدار الوطني المسلح وازماته المستمرة... كنت احلم مثلاَ  ان اصبح مغنياً كبيراً ,مع ان صوتي ليس جميلاً  لكنني افترض جماله وعذوبته لتكتمل مفردات احلامي التي لاتنتهي , كالمغفور له "مايكل جاكسون" , اغني للفقراء والمساكين أُغني لقلوبهم الطيبة وسخائهم الجميل ... لكن دون تغيير لون بشرتي السمراء, ولا تجميل انفي الكبير , لان امي  كانت تلثمني عليه دائما .... لااتذكر لماذا؟... ربما لانه بارز اكثر من المعتاد والاقرب اليها ,او ربما يعترض طريقها عندما تروم تقبيل خدي!!
احيانا اخرى احلم ان اكون مثل "بوب مارلي"  لكن دون ان يقتلني الموساد الاسرائيلي واغني للحرية وللشعوب الثائرة والمضطهدة في امريكا اللاتينية واسيا وافريقيا..... او احلم ان اكون رساما ً عالميا  مثل" فان كوخ"  دون ان اقطع جزءاً من اذني لأجل حبيبتي ,...فالجوانب المخيفة والساذجة في حياة هؤلاء يقصها الرقيب الخاص في خيالي لتبدو الاحلام اكثر جمالاً ورونقاً.
أحلم ايضا ان اكون ممثلا مشهوراً مثل (كيرك دوغلاس) او (داستن هوفمن) او (جاك نيكلسون) لأعيش في هوليوود  طوال حياتي واقضي اجازة "الويك اند" برفقة الشقراوات الجميلات مثل (مريل ستريب) او الفاتنة  (كاترين دينيف) او مع محبوبتي الاولى في سن المراهقة ( بروك شيلدز) , لنذهب بسيارة مكشوفة وسريعة الى الريف الامريكي ونستمتع بأوقاتنا ونمرح ونلعب قرب البحيرات الجميلة والساحرة... دون ان احتسي الخمر طبعاً , لاني من عائلة متدينة وهذا حرام !! بالتاكيد (بروك) ستقدر موقفي وتحترم ديانتي ورغبتي ...

 

ماأروع احلام اليقظة...لانها بلاحدود وبلانقود ...!!

 

في احدى المرات تملكتني شجاعة فائقة لم ادرك مصدرها...... حلمت وانا انعم بظل غرفة الطين القديمة المتبقية في نهاية بيتنا.... حلمت ان اكون رئيساً للجمهورية ..... نعم رئيساً ,وقد رتبت كل شي لاجل الوصول الى ذلك الكرسي الرهيب والجذاب ذوالمساند العالية والجميلة والمقعد الطري الناعم الذي يتخذ شكل مؤخرة الرئيس كيفما تكون ويحتضنها بعناية فائقة ... والاقامة وسط الاعداد الهائلة من الرق والمتزلفين والخدم وماسحي الاكتاف والاحذية وموظفي وزارات الرئيس وقادة جيش الرئيس ومدراء اجهزة الرئيس ... وشعراء الرئيس ومهرجي الرئيس!
وكان اولى المهام  التي فكرت بها  بعد نجاح خطتي ,هي القيام بسحل الرئيس السابق واتباعه في الشوارع وتعليقهم في تقاطع "سوكَـ مريدي"  ليكونوا عبرة لكل الخونة والعملاء...!!! واجتث كل المسؤولين السابقين دون رحمة حتى لااجد صعوبة في قيادة البلاد, ولاتقلقني بعد ذلك محاولات الاغتيال المدبرة , والقي القبض على كل رفاق الامس بتهمة العمالة  لدول الجوار والتخطيط لزعزعة استقرار الوطن ..... واحقق  بذلك اهزوجة احد كادحي مدينة الثورة اثناء خطبتي في مدرسة الجولان " الخاين شعبه انكَص ايده " لأكون بعد ذلك القائد الاوحد!

 لكن اكثر ما كان يشغل خاطري هو نوع الخطابات التي سأتلوها خاشعاًعلى الجماهير الغفيرة وهل تكفي مرة واحدة في الاسبوع  ولنصف ساعة, وفي يوم واحد من ايام الاسبوع بأستثناء يوم الخميس واوقات فلم السهرة ,لان الشعب يكره الرئيس الذي يحتل الاذاعة والتلفزيون ويفسد عليهم سهراتهم بخطابات وتوجيهات ماصخة لاداعي لها... فالشعب له الحق ان يستمتع بحياته , وانا شخصياً ليس لدي أيّ مانع من ذلك !! شرط عدم تجاوزهم الخطوط الحمراء باتجاه القصر الجمهوري .
فالمُلك عقيم ... وان لم تكن ذئباً اكلتك الجلاب  كما قالت العرب!!.. فنحن نحب السفاحين القساة  والقتلة ونحترمهم او بمعنى اوضح نخشاهم .... ولكي تكون رئيساً عليك ان تكون قاتلاً متميزاً ومحترفاً وبلا قلب .... هكذا فهمنا من دروس التاريخ ..... فنحن شر خلف لشر سلف!
من الحكمة احيانا ان تحلم دون البوح لاحد, وهذا هو سر بقائي حياً ,فأنت في بلد الممنوعات  والمحظورات ,فلربما يغتالون حلمك ان كان يمس الامن القومي اويهدد وحدة الصف الوطني اويشق عصى المسلمين !! ومن الاحلام ماقتل !
صديقي مجيد حلم  بصوت عالي ان يكون وزيراً في الحكومة!!! الى يوم سقوط النظام كان يقضي مدة حكمه بالسجن في قضية تزوير وثائق رسمية ـ حسب وكالة كَالو للانباء ـ  حسن كان يحلم بتغيير النظام , التحق الى جبهات القتال رغم اصابته بلوثة عقلية ورثها من مديرية الامن العامة بعد زيارته الاولى!... كاظم وفلاح وكنعان واخرون كانوا ايضا يحلمون... كل جريرتهم انهم حلموا ... سمعت ان الشياطين التهمتم واحلامهم عندما كنت خارج دائرة  الزمن المثقل بدموع  ساخنة.... ولم اتشرف بقراءة الفاتحة على ارواحهم النقية!!
ثلاثون سنة مرت كأنها حوافر خيل تسحق صدري وقلبي...ثلاثون سنة والاجواء ملبدة بالغيوم ولم نسمع ان هناك شمس قادمة.....  ثلاثون سنة وانا مازلت امارس هوايتي القديمة, الحلم ... ولم يتحقق أيُّ شئ .... وربما لن يتحقق شئ..... حلمت ان اكون شاعراً او اديباً كبيراً فالتحقت بجبهات الموت العبثي  حتى ادافع عن "كرامة الامة " وكرامتي مباحة لهراوات الشرطة في "كَراج النهضة"... وحلمت ان اصبح  حراً في وطني فاضطررت للهروب من حتفي على يد اخوتي في القوات المدجنة (المسلحة) العراقية .... وحلمت بالديمقراطية  في بلدي فزوروا الانتخابات..  وحلمت بحياة مستقرة وآمنة وكريمة لشعبي فحرقتهم المفخخات والارهاب وسحقتهم عجلات الفساد المالي والاداري المنظم!! وحلمت... وحلمت... وحلمت..... .ومع كل هذا مازلت انا والشاعر صباح الهلالي وكل الفقراء امثالنا نردد ...
 
  نحلم يصيرالوطن جنة وحدائق ورد ... نار الحرب تنتهي والراح ابد مايرد *

 

 

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عباس العزاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/05/08



كتابة تعليق لموضوع : أحلام الفقراء
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net