صفحة الكاتب : عباس البغدادي

ما أحوجنا للحزم الأمني التونسي في العراق!
عباس البغدادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حينما يستبيح الارهاب التكفيري الدماء، وكل المقدسات، والقوانين، ولا يتوانى عن تسخير كل شيء لتحقيق مآربه، بدءاً من توظيف الدين الاسلامي وانتهاك نصوصه المقدسة لإيجاد غطاء "شرعي"، وتحويل تلك النصوص الى منشور تنظيمي بعد إجراء التطويع والتحريف اللازمين، وليس انتهاءً باقتراف أبشع الجرائم والانتهاكات تحت يافطة "المقدس" ومزاعم "تطبيق شرع الله"! حينها نوقن قطعاً بأن البشرية أمام عدوان غير تقليدي وغير مسبوق، وإنها في مراحل متقدمة من الكابوس، ويا للأسف، نصل الى هذا اليقين بعد أن تكون البشرية (ومن بوابة شعوبنا المبتلاة مباشرة) قد دفعت أثماناً باهظة من الدماء والمقدرات، والأفظع هو الانحدار بتسارع نحو الهاوية! والدرس الأجدر الذي سنخرج به؛ هو انه من غير المنطقي أن تتم مواجهة هذا العدوان الإرهابي (غير التقليدي) بأساليب تقليدية، متحجرة، غير مبدعة، وغير حازمة ولا جسورة!
وما الابتلاء العراقي في النكوص الذي لازم مراحل المواجهة مع الارهاب على أرضه منذ أكثر من 10 سنوات سوى انعكاس طبيعي لاقتفاء تلك الأساليب التقليدية، والاكتفاء بالانشغال بذيل الأفعى وترك رأسها (بل رؤوسها) حرة طليقة آمنة، متحصنة مرة بـ"المحاصصة" وأخرى بالديمقراطية الشوهاء، وثالثة بـ"المجاملات الإقليمية"، ورابعة بـ"حرية التعبير"؛ التي حينما خرجت عن حدودها المنطقية والعقلية، استحالت الأمور الى فوضى وتخبطات لازمت الوضع العراقي في أغلب مناحي الحياة (ومنها الممارسة السياسية)!
* * *
لم تكن العملية الارهابية التي شهدها ساحل مدينة سوسة التونسية مؤخراً بأعنف أو أكثر دموية من الكثير من عمليات الارهاب التكفيري في منطقتنا على مدى السنين العشر المنصرمة، حيث تبنى تنظيم داعش هذه العملية، والتي أسفرت عن 39 قتيلاً أغلبهم من السائحين الأوربيين مع عشرات الجرحى. ولكن ما يلفت في الحادث الإرهابي المذكور، هو ان الحكومة هناك وهي تتعامل مع الواقعة، أفصحت "عملياً" عن تنسيق عالٍ بين القيادات السياسية والأمنية المختصة، ولم يرشح أي تخبط أو تأزّم في المواقف والتصريحات والخطوات، وكانت هناك جهوزية عالية للتعامل مع الموقف، لم تربك الوضع، وبدقة أكبر؛ لم تزيد في إرباكه واحتقانه. وتم بسرعة فك الكثير من شفرات العملية، والتعرف على الجاني، ومن جهّز للعملية، ومن شارك فيها لوجستياً، وتم اعتقال مجموعة من المتورطين، وكل ذلك تم إعلانه للرأي العام (بما تسمح به الإجراءات الأمنية). هذه المعطيات العملية كشفت للمراقبين بأن السلطات التونسية لديها خطط جاهزة للتعامل مع هذه الأحداث، ومستعدة لها، ولم تصيبها بالصعق أو تهز أركانها، وإن لم يكن بمقدورها إحباط مثل هذه العمليات الارهابية في مهدها (هذا المسعى استعصى حتى على الأمن الأوربي)، لكن على الأقل لا تجعل العدو يستثمر "توابع" جريمته التي يتوقع منها إثارة الفوضى، وإشاعة أجواء توحي بانعدام الأمن، وبأن السلطات تعاني من عجز أمني وتخبط ميداني! كما دلّ تعامل السلطات التونسية بأن الأخيرة لم تعط أية فرصة لاستثمار داعش لجريمته، وتحويلها الى انتصار مجاني لن يدفع الإرهابيون ومؤازريهم أثمانه الباهظة! ويحسب للسلطات التونسية أداؤها الأمني، رغم ان الحكومة في تونس لم تتشكل في أجواء مثالية (تم انتخاب الرئيس قبل 7 شهور، وتشكلت حكومة ائتلافية قبل 5 شهور) خالية من الاضطرابات والصراعات والتحديات و"المحاصصات"، وإنما أثبت قادتها انهم حازمون، ويضربون بيد من حديد، غير آبهين لـ"التوازنات الإقليمية"، أو "تطمين" المكونات و"الشركاء"، أو الالتفات لمن يقطّب حاجبيه من المسؤولين في عواصم الجوار!
وفي تونس يتكلم الرئيس بلهجة واضح وحازمة ضد الارهاب الداخلي، ويتعامل مع مهام التصدي للإرهاب كهدف لا يخضع لبورصة المجاملات و"المحاصصات" والمناورات والصفقات! وحينما أشير هنا الى صرامة الحكومة والرئيس التونسي، أستحضر تشابهاً تونسياً مع الواقع السياسي العراقي، حيث ان تيار "النهضة " كظهير للإرهابيين وحواضنهم (من وراء ستار)، يحتل نسبة كبيرة من مقاعد مجلس النواب، وله وزراء في الحكومة الائتلافية (كدواعش المحاصصة في العراق)، ويمارس نفاقه السياسي في أعلى درجاته، ولكن هذا لم يمنع الرئيس وطاقمه (عبر إصدار الأوامر الى السلطات الأمنية) في انتهاج الحزم معززاً بإرادة الحسم في معالجة ملف الارهاب، وفي غير ذلك، لكانت تونس قد شهدت انزلاقاً كارثياً ومتسارعاً في الجانب الأمني، بما يصب في مصلحة الإرهاب ومراكز القوى الداعمة له في العملية السياسية، من الأحزاب والجمعيات السلفية التي تدعم الارهاب جهاراً. فلم يمضِ سوى يوم واحد على الحادث الإرهابي الأخير في سوسة، حتى اتخذت السلطات هناك قرارات حازمة ذات صلة، مستثمرة الأجواء المتأججة ضد الارهاب ومؤازريه، ومن هذه القرارات التحضير لحظر المئات من الجمعيات (الواجهات) السلفية، التي تشكل حواضن إرهابية قائمة، كما تتجه النية لتفعيل قانون الأحزاب الذي يوفر الأرضية لحلّ أحزاب سلفية تساهم في نشر الفكر الإرهابي وتموّل الأنشطة الارهابية (حزب التحرير مثالاً)، كما تم إغلاق مكاتب لفضائيات تدعم الارهاب، وإلغاء رخص العديد من وسائل الاعلام التابعة للتيار السلفي، والقرار الأبرز هو إغلاق 80 مسجداً في البلاد، تلك "المخالفة للقانون والخارجة عن سيطرة الدولة" حسب البيان الرسمي، كان السلفيون يستخدمونها كقواعد وحواضن إرهابية للتحريض على العنف ورفع رايات داعش والقاعدة، ويجندون مئات الارهابيين لإرسالهم الى العراق وسوريا، وقد أشرفت "خلية التنسيق الأمني والمتابعة" برئاسة رئيس الوزراء على هذه القرارات، كما تمت دعوة "جيش الاحتياط" لدعم " التواجد الأمني في المناطق الحساسة"! ورافقت هذه الاجراءات خطوة لها أبعاد سياسية ومعنوية، اذ وبعد ثلاثة أيام من مجزرة سوسة عقد وزير الداخلية التونسي مؤتمراً صحفياً في المدينة ومعه وزراء داخلية فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وأكّد الوزراء الأوربيون الثلاثة دعمهم الكامل لجهود الحكومة التونسية في مواجهة الارهاب، الذي لا يوّفر مواطناً تونسياً ولا ضحايا من كل الجنسيات، وبالطبع لم يتواجد هؤلاء الوزراء ميدانيا وبعد 72 ساعة فقط من الحادث الإرهابي (زاروا موقع الحادث)، الاّ لثقتهم بالإجراءات التونسية، وان الحزم الرسمي يعزز الثقة باقتدار السلطات على المواجهة مع الارهاب! 
ومقارنة بالمعالجات الأمنية التي اتبعتها الحكومة والسلطات المعنية بمحاربة الارهاب في العراق منذ عشر سنوات، يتوضح الفارق في التعامل، وكيف كانت كل الخطوات تخضع (طوعاً أو قسراً) لمفاعيل "المحاصصات" والصفقات السياسية، والتوازنات والمجاملات والمناورات ومداراة "أمزجة عواصم الجوار"، فدفعنا جميعاً كعراقيين ثمن ذلك، تقتيلاً وتشريداً ودماراً وانتقاصاً للسيادة، واعتلال عافية الوطن، وتفاقماً في الأزمات، والعبث بالوئام الوطني! فلم "تتجرأ" يوماً السلطات الأمنية (ومن ورائها رئاسة الحكومة) على إغلاق مسجد ضرار واحد في كل العراق! رغم ان هناك المئات من المساجد في بغداد والمحافظات الغربية والموصل كانت - وما زالت - تعتبر حواضن وغرف عمليات إرهابية علنية ومراكز تجنيد للإرهابيين جهاراً (آلاف الأدلة الموثقة بالصوت والصورة تثبت ذلك). فهل "قداسة" مثل هذه المساجد (القواعد الارهابية) هي من متبنيات الوضع العراقي فقط؟ أم حين تأمر السلطات التونسية بحماية الشعب كله بإغلاق 80 مسجداً تكون قد اقترفت المعاصي أو "صدّت عن سبيل الله"؟! والحال انها "تصدّ عن سبيل الارهاب"، ولديها علماء "الزيتونة" الذين لم يروا "حرجاً" في الإجراء التونسي بما يتوافق وروح التشريع الاسلامي، وفق القاعدة الفقهية "درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع"..! 
لو كان الحزم مرافقاً للقرارات والإجراءات العملية للقوات الأمنية العراقية (ومن ورائها رئيس الوزراء باعتباره القائد العام للقوات المسلحة) منذ اليوم الأول لاستفحال الظواهر الارهابية في المجتمع، التي ترعرعت بفعل التراخي الأمني واستثمار هامش الديمقراطية، ومن ذلك استغلال المساجد كقواعد وغرف عمليات للإرهاب التكفيري، واستخدام الفضائيات الداعمة للإرهاب، التي لها مكاتبها في العراق (مع التراخيص الرسمية العراقية)، لما وصلنا الى ما وصلنا إليه اليوم..! لقد أيقنا بعد فوات الأوان بأن ترك أي ثغرة يتسلل منها الارهاب وداعموه، يفضي الى استفحاله وتمكنه، ومن ثم صعوبة دحره. ألم يستفد الارهاب من المساجد الضرار والفضائيات الطائفية والتي تضخ الكراهية وتألّب ضد الحكومة من منطلقات طائفية او تنفيذاً لأجندات خليجية أو تركية؟! ألم يوصلنا الى حريق اليوم (الذي يهدد العراق برمته) ذلك التراخي في قطع رؤوس الأفاعي المعروفين والمندسين في العملية السياسية، اذ كانت التفجيرات الإجرامية تشعل العراق بعد 24 ساعة فقط من "زعلهم" أو عدم تلبية "طلباتهم السياسية" التي تكفلها لهم لعبة المحاصصة و"الشراكة" ومراعاة توازنات المكونات؟! وبدلاً عن ذلك كان الاهتمام ينصب على ذيول الذيول لتلك الأفاعي.. وهذا ما كان يزلزل الثقة الشعبية بالإجراءات المتبعة، خصوصاً وان تنفيذ الإحكام القضائية "وأحكام الإعدام حصراً" كانت تتلكأ وتدخل في دهاليز لا نهاية لها؛ بل وبعض المحكومين يصبحون طلقاء أحراراً بمعجزات لا يعرف كنهها المواطن المنكوب!
تطول قائمة التقصير الأمني منذ عشر سنوات في العراق، ولكن يمكن عنونتها بـ"غياب الحزم"، وهذا ما يتحاشاه القرار الرسمي التونسي اليوم في مواجهة الارهاب، ومن يدري، فلربما يخشى التونسيون من تكرار التجربة الرسمية العراقية في تغييب "الحزم" طوال السنوات الماضية، وان لا تتكرر مأساة العراق بنسخة تونسية!
فما أحوج السلطات الأمنية ومراكز القرار في الحكومة العراقية الى الإقتداء بـ"الحزم" التونسي في محاربة الإرهاب، وعدم التخبط في التصريحات والتفسيرات و"التكهنات" والتضارب في الإحصائيات، أو التكتم على أغلب الحقائق بذرائع شتّى عقب كل عمل إرهابي، لأن من حق المواطن أن يعرف سريعاً ما يجري باعتباره المستهدف الأول من قبل الارهاب،  وأن لا تستمر السلطات المعنية في سياسة التلكؤ حين يتطلب الأمر قرارات "صعبة ومصيرية"، وان لا تثنيها عن مهامها "التوازنات" واللّوبيات والـ"المحاصصات" لأنها كلها مجتمعة تعبّد الطريق الأقصر الى الهاوية، وتفتيت البلاد، كما عهدناها جميعاً.. وحينها لن تنفع لا "المراجعات" ولا "عفا الله عما سلف" ولا ثناء الشياطين على "سياسة ضبط النفس".. اذ كلها خضعت للتجريب، فأنتجت الكارثة.. و"من جرّب المجرّب، حلّت به الندامة".. أليس كذلك؟!
abbasbaghdadi@gmail.com

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عباس البغدادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/07/01



كتابة تعليق لموضوع : ما أحوجنا للحزم الأمني التونسي في العراق!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net