تعليمنا ما بين العبودية والحرية
مثنى مكي محمد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
من المعروف أن المجتمع الشرقي يتميز بتحفظه وصعوبة استجابته للتغييرات الفكرية والاجتماعية والسياسية. فهو مجتمع بنيوي تتجسد السلطة فيه بالفرد الواحد لا بالمؤسسة، فحتى مؤسساته محكومة بممارسات وأعراف موروثة قلّما تتقبل التغيير والتعديل الجوهريين.
وأنا أتصفح كتاب القراءة للصف الرابع الابتدائي العائد لولدي الصغير
استوقفتني عبارة أدرجت في نهاية الصفحة الحادية عشرة كمقولة مأثورة أو حكمة، تقول العبارة: (من علمني حرفاً، جعلني حراً). ويبدو أن دهشتي كانت واضحة لدرجة أن صغيري نظر إلي يسألني عما أصابني.
في سنواتٍ سابقة غرَسَت المدرسة وروّجت لمقولة (من علّمني حرفاً، مَلَكَني عبداً)، وهي كلمة لأهل الدين فيها كلام ، فمنهم من يضفي عليها صفة القدسية بأعتبارها، على حد زعم البعض منهم، مأثورا دينياً، ومنهم من ينكرها. ولسنا هنا بمعرض الخوض في هذا الجانب. فما يهمنا هو ترسخ المقولة وتداولها لسنين طويلة حتى وقت متأخر تزامن مع صعود التيار الديني للسلطة، اذ بدئنا نسمع البعض يطرح فكرة أن الصيغة "الصحيحة" هي بتشديد اللام في كلمة "ملُّكَني"، وهو "تعديل" يُبغى من وراءه الخروج من الحرج الديني في صيغة "مَلَكَني"، فالعبودية لله وحده الواحد القهار.
والصيغتان، وان كان المقصود بهما التأكيد على قيمة المعلم، وهو أمر لا شك فيه، إلا أنهما كَرّستا مفهوم العبودية، بربطه بالعلم والتعلم. وهو معنى ممجوج ينحرف بدلالاته عن القيمة الايجابية للعلم وطلبه.
كما أن الصيغتان ترسخان قيمة الفرد (المعلم) لا العلم، ومكانة الفاعل قبل الفعل، والفرد قبل العمل. وبعد كل هذا فإنهما تكريس لفكرة العبودية. وهو أمر نابع من هرمية مفهوم السلطة في المجتمع البنيوي، فالسلطة هنا للفرد (المعلم) بدلا من أن تكون للعلم (المؤسسة).
هل يمكن عد صيغة (من علمني حرفاً، جعلني حراً) مؤشراً على حراك فكري وزعزعة لفكرة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب في مجتمع حديث العهد بزحزحة المركز عن مركزيته وتعالي أصوات المهمشين؟
انه تعديل ذو بُعد ايجابي قلّما نرى له مثيلاً في الشعارات الجاهزة أو المقولات المتوارثة.
إن الحراك المرصود، إن كان حراكاً، كان من الممكن أن يطال مساحة أعمق إذ تغرس المقولة الجديدة في أذهان متلقيها الصغار فكرة أن الحرية (تُعطى) وبالتالي فان العلاقة ما بين المعلم و المتعلم هي علاقة السيد بالعبد. فهل غيرت المقولة المعدّلة جوهر الفكرة الأصلية القائمة على تكريس فكرة العبودية والتابعية؟
إن المناهج الغربية اليوم، والتي هي نتاج لمجتمع تخطى البنيوية والحداثة ويعيش ما بعد الحداثة، تؤكد على مفهوم ذاتية التعلم Autonomous Learning والذي يقوم على فكرة أن الدور الأكبر في العملية التعليمية إنما هو للطالب وليس للتدريسي أو المعلم الذي لا يعدو دوره دور الموجّه والمرشد. وبالتالي يبرز الدور المستقل الذي يعطيه المنهج الغربي للمتعلم، جاعلاً من الحرية ممارسة عملية تتجاوز الشعارات والقوالب الموروثة الجاهزة.
جامعة كربلاء
muthannamakki@yahoo.com
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
مثنى مكي محمد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat