عن ثالوث الكتابة المقدس
مثنى مكي محمد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مثنى مكي محمد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
في الكتابة تنشطر الذات الى ثلاثة: الذات الكاتبة، والذات القارئة المؤيدة، والذات القارئة الرافضة. فكتابة الذات تعبير عن الهوية الفردية. وتتلقى الذات نفسها خلال عملية الكتابة، لتقيّم وقع النص وتأثيره في المتلقي (الآخر). وهو أمر يحتم على الذات أن تتقمص شخصيتين، الأولى تتبنى رأي الذات الكاتبة المؤيدة وتمثل الصوت المؤيد لما يطرحه النص. والثانية هي الذات الرافضة وتمثل الصوت المعارض. ولعل هذا الفعل "الفصامي" يمثل محاولة الذات للتجرد أو الخروج من شرنقتها، محاولة لتحقيق الموضوعية.
ولعل هذا هو ما قصده ادغار لورنس دوكتوراو (1931- 2015)، الروائي والأستاذ الجامعي الأمريكي، بقوله أن الكتابة "هي الدرجة المقبولة اجتماعيا من الشيزوفرينيا".
ولا يتحقق هذا الفعل الفصامي الا عندما تكون الكتابة عملية لممارسة الصدق honesty مع الذات (الكاتبة) ومع الآخر (المتلقي). فيتأكد الكاتب بهذا الفعل من تحقيق النص للتأثير المطلوب. فهي حوار الذات مع نفسها في محاولة للوصول الى مرسى فكري يحقق السلام الفكري. ولذلك فالكتابة الصادقة أشبه بعملية نزف منهكة، تعود، بعد انتهائها، لتمارس تأثيراً شفائياً على الكاتب catharsis وعلى الآخر المتلقي في آن واحدidentification ، وذلك عندما يتعدى النص مستوى الإبلاغ sphere of informing الى مستوى التأثير sphere of influence فيحقق النص الهدف المرجو. فهي جرح وشفاء، موت ثم انبعاث.
أما الكتابة الزائفة فهي تلك التي لا يكون ورائها استعداد الكاتب لتلقي الجرح ولا لتلقي العلاج (كالكتابة الأكاديمية غير الأصيلة المعتمدة على النسخ والتقليد على سبيل المثال)، وما تكتبه أقلام المرتزقة التي تجندها مؤسسات معينة للترويج لما يخدم مصالحها. فهنا تأتي الكتابة هزيلة، ذات بعد واحد، تلغي صوت الآخر، ما دام الهدف هو ليس الوصول الى الحقيقة انما فرض صورة معينة، أو مفهوم معين، وسوقه على أنه هو الحقيقة وكل ما خلاه باطل. فيختفي حوار الذات مع نفسها ليتحول فعل الكتابة الى عملية اقصاء للآخر واجهاز عليه.
أما اللغة، باعتبارها أداة التعبير، فإنها تتحول الى أداة لممارسة العنف الفكري والثقافي إذا ما أصابها الجمود والكسل. وهذان الأخيران انعكاس للانغلاق والكسل الفكريين في أفضل الأحوال وللخيانة الفكرية في أسوئها. فلا يكون هناك على سبيل المثال مفردات تصف ما بين الخير والشر، الجنة والنار، الملاك والشيطان... الخ، وفي الحقيقة فان هذا الكسل مرده الى الانسان وخموله وانغلاقه الفكريين. ومتى ما تعرقل نمو اللغة تعرقل نمو الفكر بل والأحاسيس أيضاً. فحراك الفكر يتجلى في اللغة و حراك اللغة يتجلى في الأدب ولذلك فان الأدب يصنع الحياة بما يوفره من بدائل لغوية\ فكرية\ حياتية.
ان المجاز الموجود في العنوان (ثالوث الكتابة المقدس) إشارة الى قدسية الذات الإنسانية المفكرة، وحرمتها مهما كان لون هذا الانسان أو جنسه أو انتماءه الفكري. وهي مكانة ان حفظت لأي انسان أثمرت مجتمعا متسامحا متصالحا مع نفسه.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat