ثلاثية ياس العلي غرناطة ,أشبيلية ,قرطبة!
ياس خضير العلي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
غرناطة الحصن المنيع
يقولون في أسبانيا _أن الله قسم تراث المسلمين في الأندلس بين مدائنه الأربع قسمة
عادلة _فأعطى قرطبة ( الجامع) لأنها مدينة العلم والفقه وأعطى أشبيلية (منارة
الخير الدا) لأنها كانت ميناء الأندلس العظيم , وأعطى غرناطة ( قصر الحمراء)وهو في
الأصل حصن , لأن غرناطة كانت حصن الأسلام المنيع , أذ ظلت تنافح عن عروبة الأندلس
قرنين ونصف القرن بعد سقوط قرطبة , ثم أعطى ( مالقة ) النبيذ العربي الحلو الجميل
لأنها كانت ملهى الأندلس !
ذكرت هذا الحديث وأنا
أطلع على غرناطة وأرسل البصر نحو قصور الحمراء وحصونها فذكرت كل ما قرأت عنها من
الكتب أو طالعت من الصور , وذكرت صفحات الأعجاب التي كتبها ( واشنطن أيرفنج ) , و(
شاتو برياني) , فأذا كل أوصافهم تتلاشى حينما وقف أمام ( الحمراء) , وتأملت جمالها
الساحر !
مساحات بديعة من
الرخام الجميل وأعمدة رائعة حمراء يقصر في وصف أبداعها الكلام وحدائق غناء تفوق
بجمالها أجمل حدائق لندن وباريس وأسوار عالية تدهش الرائي كل ذلك على قمة جبل ,
وكان ( عش النسر ) يقوم شاهدآ على عز العرب ومجد التاريخ الأندلسي الخالد.
وعندما وصلت الى باب
أشبيلية ذكرت تلك الأغنية الشعبية الأسبانية التي تقول ( عندما سمع أبو عبدالله
بسقوط الحامة أسرع الى الحمراء وجعل يصرخ .... يا للحامة ياللحامة !
وسار من باب الحمراء
الى باب أشبيلية .... وجعل يبكي ... وألتف حوله الفرسان .. ومضى يحارب الفونس ولكن قضاء الله غلب وهزم أبو عبدالله ,اسلم مفاتيح حصن العقاب وسار الى ( جبال
البشارات ) ... ولازال هناك يبكي !
هل رأيت كل شيء هنا !
نعم رأيت ( الحمراء) و وحي ( البيازين ) وحدائق جنة العريف , الم تر ( الكرسي
المغربي) ؟
_لا ... ليس بعد ...
أذن أنت لم تر شيئآ !
وسرت معه لكي أرى
كرسي المغربي .. سرنا في طريق جبلي وعر وأبتعدنا عن البلد ثم بدا لنا من بعيد قصر
موحش تحلق فوقه الغربان ..وأشار أليه الرجل....
وقال _
هنا الكرسي المغربي هنا سر غرناطة كله !
وسرنا على حذر ودخلنا
هذا القصر الموحش المهجور ورأينا من فخامة مبانيه ما اذكرني أوصاف الكتاب في قصور
ألف ليلة وليلة وأنتهينا الى قاعة رحبة ليس فيها ألا شبه مصطبة من الحجر ...
قال الرجل _ هذا هو
كرسي المغربي ..
_ أي مغربي ؟
_ أبو عبدالله !أخر
ملوك أبي نصر في غرناطة ..جلس ليلة كاملة وأغلق بابه عليه وقال لأصحابه أنتظروني
ولاتتحركوا حتى أخرج وأنتظروا أيامآ فلم يخرج .. ففتحوا الباب ونظروا فلم يجدوا
أبا عبدالله ولاكرسيه وأنما وجدوا مكانه هذا الحجر , لقد حملته الملائكة الى جبال
البشارات , وسيعود بجيوش العرب , وحينما يعود سيعود هذا الحجر عرشآ كما كان ...
قلت للرجل _ هل تصدق
ذلك ؟
قال_ ولما لا؟.. أني
لاأشك في أنه سيعود !
هكذا يعتقد أهل
غرناطة أجمعون أنهم ياسيدي عرب أو مغاربة كلهم , غلب عليهم حكم الزمان وهم ينتظرون
ان يعود أبو عبدالله أليهم يومآ ...
وجلست على هذه الصخرة
.. على كرسي المغربي ... ومرت بذهني ذكريات أواخر أيام غرناطة وسألت صاحبي ! كيف أمكن
أن يسقط هذا الحصن المنيع ؟ كيف سقط عش النسر هذا ؟
_ أنه الحب !
_ أي حب ؟
_ كان أبو عبد الله
يحب أبنت الفونس .. فما زالت تبكي أمامه وترجوا أن لا يضحي بحياته حتى شغلته عن
الحرب وهكذا وقع الحصن المنيع!
ولو شئت أن أقص الأساطير
التي يقصها أهل غرناطة عن العرب وبني نصر وذلك الصراع الرهيب بينهم وبين الأسبان ,
لما فرغت فاتنة أسبانيا أنها شرقية السمات , ثم أنها تستطيع أن تنظر الى عينيك
وتقرأ مستقبلك , وهذا مصارع وفارس معآ فارس الأحلام الذي يتمثل لكل فتاة في أسبانيا
وتتغنى به في ألحانها و وغرناطة كلها في الواقع أن هي ألا أسطورة تسير في شوارعها
اليوم فيخيل لك أنك في عالم الأساطير , الناس كأنهم أطياف تعلوا وجوهها سمرة يمرون
بك وينظرون أليك مستغربين أنهم شرقيون في كل شيء في الأشكال والحركات والمزاج
وبلدهم مرتفع جوه بديع ونسائم الليل هناك هي ألطف نسائم عرفتها في حياتي , فأذا
أقبل الليل خرجوا الى قوارع الطرق يغنون ويرقصون وحاناتهم عامرة طول الليل كحانات
باريس ولكن اغانيهم ألطف وأبهج وهي تدور كلها حول عشق السمراوات ! السمار هنا شارة
الجمال وليس في الدنيا أبهى من الغرناطيات النيقات بملابسهن السوداء والشيلات
الحرير على أكتافهن والنقاب الرقيق يغطي نصف وجوههن الساحرة , ورقصهن ينسيك أي
باليه تكون قد رأيتها , فهن يدرن على كعوبهن في خفة الغزلان وبأيديهن الصاجات ,
ويضربن الأرض بأقدامهن الدقيقة ضربآ عنيفآ ينم عن عاطفة ملتهبة ويغنين ..
أن التي تأخذ قلبي
لابد أن تكون سمراء غجرية .. ذات شعر أسود وأنف دقيق ... ووردة حمراء على الأذن
وجسم أملد كالسيف ... وكل نساء غرناطة يلبسن السواد ... حتى ليخيل أليك أن البلد
في حداد .. ولكن خلف هذا الحداد الظاهر نفوسآ خفيفة تفيض رقة وظرفآ ورجالهن ذو
خشونة وصلابة يسيرون في ملابس سوداء أيضآ ... وقبعات سوداءواسعة الأطراف .. وعلى
أكتافهم حرامل تزيد منظرهم رهبة ويقولون أنهم اشج عاهل أسبانيا ...وفي الجبال
المحيطة بغرناطة في ( سيرانيفادا وسيرا مورينا ) تجد أكبر مستعمرة للغجر في الدنيا
!
آلاف منهم يعيشون في
كهوف الجبل ينقرونها بأيديهم يعيشون بعيدين عن الدنيا ومافيها وهم يزعمون أنهم
مصريون الأصل !!
بل يقولون أن بعضهم
لايزال يعبد ( الفرعون) الى اليوم , وأسم فاروق منتشر بينهم وهو أسم قريب جدآ من
فرعون ولا زالوا يحتفظون بكل تراث الفراعنة فهم أعظم منجمين في الدنيا يقرأون
مستقبلك من مجرد النظر الى عينيك و بل تستطيع أن تطلب أليهم أن يتنبؤا بأصدقاء ك بمجرد
ذكر الأسم والأوصاف , وأنت أذا دخلت الى مغاراتهم أستقبلوك في حفاوة وكرم , يذكرانك
بكم بلدك ويقدمون لك العنب , والنبيذ أذا كنت تحب أن تشربه , وهم يؤمنون بالخرافات
والفأل أيمانآ عجيبآ , فبعضهم لايخرج من بيته طول اليوم أذا رأى قطة سوداء وبعضهم
لابد أن يخرج من بيته أذا رأى طائرآ ابيض , ولو لم يكن هناك داعي للخروج وكان منهم
مصارع مشهور في أسبانيا كلها ولكنه كان يؤمن أيمانآ عميقآ . فكان يمتنع عن
المصارعة أذا رأى غرابآ ويخسر بذلك آلاف
من ماله ومن العادي أن يقرأ الناس في الصحف هذا الخبر ( يعتذر خوانيتوا عن المصارعة اليوم لأنه رأى
غرابآ أسود ويرجوا من حامليه التذاكر أن يحضروا الى الميدان غدآ في نفس الموعد )
...
اللهم ألا اذا ظهر
الغراب اللعين مرة أخرى ..
أشبيلية اللحن الخالد
...
أشبيلية ياعجيبة
الدنيا ..يالحن الحب والهوى .. يابلد الهيام والجوى ... ياعروس الوادي الكبير من
لم ير أشبيلية لم ير بعينيه أعجوبة أبدآ
.. سمعت هذا اللحن البديع تغنيه فتاة اشبيلية ذات شعر فاحم أسود تزينه وردة حمراء
فوق أذنها كانت في شرفة منزلها خلف قضبان من حديد وكنت في صحبة مستشرق أسباني شاب
فقال لي _
ألا ترد تحية هذه
الطفلة ؟
قلت _ أية طفلة أنها
سيدة فيما أظن !
_ سيدة أو غير سيدة
كل نساء أشبيلية أطفال , نحن نسميهن كذلك , لأن العمر لايتقدم بهن أبدا حياتهن
كلها رقصة واحدة لاتتوقف ولاتنتهي ... يولدن على الأنغام ويمتن على وقع العود , ثم رفع رأسه الى النافذة وقال _
ياطفلتي ما أسمك؟
_ ثوبا يدا ( معناها
زبيدة ) .. وأنت ؟
_ خوانيتوا
_ وما أسم الرجل الذي
معك ؟
_ هو من بلاد العرب
... غني له شيئآ ...
فمضت تغني ... ( في ليلة
صحراوية ملتهبة العواطف ... وتحت سماء أفريقية لم تمطر النجوم .... على ضفاف
النيلو ( النيل ) في عشتا ... أنتظرك هناك ... لأنتم اللحن الذي بدأناه في أشبيلية
....).
فرفع صاحبي قبعته
وقال _ شكرآ ... الى اللقاء ليحرسك الله
ياطفلتي !
ومضينا بين صفين من
المشربيات الحديدية الجميلة عليها الستر الحمراء وخلف معضمها طفلات أشبيلية يغنين
... قلت _ من الذي وضع قصيدة أشبيلية تلك
؟
فقال _ لاأحد .. هنا
يتوالد الغناء في الهواء وتأتي القصائد مع نسيم السماء كل النساء هنا ينشدن
القصائد ويغنين ألحان الهوى كما كانت ( اعتماد الرميكية ) , زوج المعتمد بن عيادو
سلطانة أشبيلية في سالف العصر والأوان , ألم تكن ترتجل الشعر العذب أرتجالا ؟
هؤلاء هم بناتها وهن
مثلها تمامآ وكل ماينقصهن هو سلطان جميل مثل المعتمد و أن الناس لايفهمون
الأشبيليات ياصديقي يحسبونهن خليعات ماجنات , مع أنهن من أعسر نساء الدنيا منالا
كل واحدة من هؤلاء تعشق شابآ ولكنها لاتخرج معه في الليل أبدآ أنهن مثل جداتهن
العربيات محصنات محجبات لاينالهن الرجال , الجاد الذي يريد أن يتزوج !
_ولكن ماسر تغنيهن
بالنيل ؟
_ لاأدري لعله حلم
قديم كانت تحلم به جداتهن العربيات , هذه الأنشودة منتشرة هنا جدآ ...وكل أشبيلية
تحلم بأن تقضي شهر العسل مع زوجها على ضفاف النيل , يخيل الي بعض الأحيان أن الوادي الكبير يصب في النيل وكانت الساعة أذ
ذاك الثالثة صباحآ ومع ذلك فقد كانت المدينة تفيض بالحيوية والشوارع عامرة بالناس
والمشربيات عامرة بالطفلات ...والحانات غاصة بأهل المرح والطرب والدنيا كلها حفلة
وأبتهاج ...
وفي الصباح طلعت
علينا الشمس بنور باهر شامل وأصبحت الساعة العاشرة والناس في بيوتهم لازالوا
يستريحون من عناء الليالي هنا , كل الناس يعيشون على طريقة ألف ليلة وليلة ينامون
النهار ويسهرون بالليل تمشيت في شوارع حي
سانتا كروس البديع , كل مافيه يبهر النفس
ويدخل علينا البهجة ولم أرى في مدينة في الدنيا محلات لبيع الالات الموسيقية كما
رأيت في أشبيليا عشرات منها في كل شارع , أنما هي لحن خالد في فم الزمان , ذهبت
الى حي طريانه الذي كان قلب البلد على أيام المسلمين يسكنه اليوم الغجر , وهم
ليسوا مثل الغجر عندنا بل غجر أوربيون , جو حيهم كله مرح وضحك و كله شوارع فسيحة
بهيجة وكل الناس يكلموك ويحيونك ويبتسمون لك وتشعر وكأنهم جميعآ أصدقاءك ولاتستطيع
أن تسير ساكتآ أبدا لأن الناس يجرون شكلك !
وكل شيء عندهم
يحولونه الى غناء ورقص أذا مررت بعد الظهر رأيت الحلقات للغناء على قارعة الطريق ,
وذا خرجت عند الغروب الى ضفة الوادي الكبير أحسست أنك في أحتفال وكرنفال كبير ,
ففي كل ناحية جماعة تغني وترقص , وأذا أخذت قاربآ وخرجت تتنزه شعرت كأنك في
البندقية الأيطالية , بل اشبيلية ألطف وأبهى لأن أغانيها عربية الطابع وجوه نساءها
عربية , قد كستها الشمس لون برونزيآ بديعآ ,
ومنازل أشبيلية عربية خالصة , حتى الحديث منها , لكل منها حوش وسط البيت
يذكرك بمنازلنا العربية , وفي وسط رحبة الدار ترى نافورة تبعث الماء في
أتساق وجمال وحول الحوش تجد الغرف لأهل الدار التي تفتح أبوابها على حديقة لطيفة
واذا أردت زيارة أحد دخلت الدار وصفقت بكفيك و فيصيح بك صوت من خلف المشربية , (
كيين ), أي من , في لهجة تذكرك بكلمة ( من
العربية ) , وعلى أبواب بعض الدور ترى أباريق الماء يشرب منها من يشاء
متاحة للكل , أباريق لاتفرق بينها وبين أباريق الشرق الفخارية وأذا شربت , قالت لك
صاحبة الدار _
هنيئآ ....
بل يبلغ من غلبة
الروح العربية على أشبيلية أنك تسهو في بعض الأحيان وتكلم الناس بالعربية ...دون
أن تدري .. ويكفي أن تسمع أغانيهم لكي تشعر أنك في الشرق ...
قرطبة السلطانة
الحزينة
فأذا ما أنتقلت في
الى قرطبة ألفيت نفسك في جو غريب يستوقف أنتباهك ...حينما تهبط قدماك قرطبة درة
الفردوس الأندلس المفقود هو هذا السكون الشامل الذي ينشر جناحيه على هذا البلد
الذي ظل ينشر على الدنيا كلها أشعة النور والبهجة والفخامة مدى خمس قرون , شوارع
خالية رهيبة يدب على أرضها الناس في صمت وحزن وبيوت ساكنة هادئة يخيل أليك أن أحدآ
لايسكنها وأشجار باسقة ناشرة شعرها الحزين في صمت الألق , ذهبت الى قنطرة قرطبة
تلك التي حدثنا عنها شعراء الأندلس و وذكروا كيف كانت تعج بالسابلة , وبالمتنزهين الأصائل
ذات النسيم العليل و فلم أجد أحدآ , ومر بي قرطبي عجوز يدب على الأرض على مهل ,
فقلت له _
أين قرطبة ؟
_ لاأدري هذا التي
أنت فيه ذكرى قرطبة , أنه بقية بهاءها القديم و لأنها حزينة أنها سلطانة حزينة ألم
تسمع بها ؟
_وأين هي ؟
_في قصرها تنتظر
السلطان ..السلطان عبد الرحمن لقد ذهب وهي تنتظر من أقاربه الرجل الموعود بالقدوم
اليها لينشر العدل بالدنيا ..قرطبة هذه كانت سلطانة الدنيا ...
ومضيت أتمشى في
شوارعها الحزينة ...شعرت كأنني في قصر عزيز غني أحنى عليه الدهر وذهب ماله ولم
تبقي له الدنيا ألا عزة الماضي وذكرياته .. أنها مدينة الذكريات هكذا يسميها
الأسبان اليوم ... تجلس في المقهى أو شرفة الفندق لاترى ألا وجوه كآبة تطغى عليها
, ففي الشارع الكبير الذي كان يسمى أيام المسلمين ( المحجة الكبرى ) لشدة أزدحام
الناس فيه , اليوم لاترى فيه ألا العشرات يروحون ويجيئون بصمت وسكون ... وعند
الجامع القرطبي الشهير الذي عاصر الدهر أثنا عشر قرنآ ...شعرت بشعور غريب أني أمام
ملك عظيم خلع عنه ملكه !
وفي الليل تبدو قرطبة
وكأنها بلباس سواد الحزن للحداد ارتدته , شوارع ضيقة مهجورة .. وعلى بعد كيلو
مترين منها نجد أثار الزهراء عاصمة عبد
الرحمن الناصر و التي ينقبون فيها فيجدون البلور والمرمر والكنوز ...قال لي الدليل
المرافق لي _
سيجدون كل شيء ألا
السلطانة الحزينة ...
قلت _ السلطانة أليست
في قصرها هذا ؟
قال _ في الليل فقط
...أمافي النهار فتأتي الى مخدعها تحت الجبل ...
ياس خضير العلي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat