مايكل أنجلو وسامراء!!
د . صادق السامرائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . صادق السامرائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
في متحف الأكاديميا في فلورنسا الإيطالية , ينتصب تمثال (ديفد) لمايكل أنجلو الذي نحته وهو في عمر السادسة والعشرين , فبدأه عام 1501 وإنتهى منه في أيلول عام 1504 , والذي إختار صخرته بنفسه من جبال إيطاليا المرمرية المشهورة , كما يقول بعضهم والبعض الآخر يرى أنه كان مشروعا من حصة غيره لكنهم لم يتمكنوا منه , فأحيل إليه.
وفي جولة بقاعات المتحف توقفنا عند تمثال (ديفد) , أخذت المرشدة السياحية تشرح لنا عنه ومضت في وصفها الدقيق له , وكيف أنه في غاية الجمال والحسن والتناسق , ولماذا ينظر هكذا , ولماذا هو غير مختون , وماذا يريد قوله به مايكل أنجل , الذي كان مثليا ويعشق نحت الأبدان الذكرية ويمعن في جمالها وتناسقها, ووصلت إلى شرح ما يحمله بيده اليمنى المتصلة بفخذه الأيمن , وما يمسكه في اليسرى القريبة من كتفه الأيسر , وما يتدلى منها على ظهره.
وسَألتْ الحاضرين عن ذلك, وما أجابها أحد , ومنهم أنا , فلم يخطر على بالي الجواب , لكنها أجابت , بأن خلعت لفافة عنقها وطوتها وراحت تفتلها في الهواء وتطلق إحدى طرفيها , وتقول هذا هو , ولم يخطر على بالي ما قصدت , لكنها أضافت بأنهم كانوا يضعون الحجارة هنا وبعد الفتل يقذفونها في الهواء , بإطلاق أحد الأذرع.
فأدركت بعد ذلك علاقة الحجارة في اليد اليمنى والحزام الجلدي في اليد اليسرى المتدلي على ظهره.
فقلت لها: المجلاع
قالت: ماذا
قلت بالعربية: المجلاع!!
لا زالت لا تفهم ما أقصد , طبعا , فقلت لها باللغة التي تتحدث بها , في بعض المجتمعات يسمونه "المجلاع", فأجابت : حسنا!!
وأنا أقول بالعربية مدمدما: كيف أحضرتي المجلاع إلى هذا المكان , وأرجعتيني عقودا إلى الوراء , وأنا في متحف الأكاديميا؟!
والمجلاع , أو المقلاع , كان آلتنا وسلاحنا , وهو من أقدم أسلحة البشر منذ بدأ تفاعله مع الحجارة.
وكنا نصنعه من خيط ( الستلي) أو خيط (الصوف) , فنظفر ذراعيه ونحوك وسطه (الجفنة أو الكفة) ليكون بيضويا , ونضع فيه الحجارة أوالحصى , وندوره بقوة ثم نطلق ذراعا ونمسك بالأخرى , فتنطلق الحجارة أو الحصوة بقوة إلى هدفها.
وكان من بيننا مَن يصوب به بدقة متناهية , ويرمي لمسافات بعيدة , حيث يمكن للبعض أن يوصل حجارته إلى الضفة الثانية من النهر.
وكانت ساحة لعبنا بالمجاليع , كهف القاطول , حيث نتباري في الرمي عبر ذلك الخليج (الشط) الذي كان يزهو جمالا وروعة وسحرا برقراق مياهه وعذوبة مساءاته الغنّاء.
وبين (مجلاع) سامراء , و (مجلاع) ديفد , الذي تفنن بنحته مايكل أنجلو , علاقة ذات معاني بقائية ومواصفات تحدي وتواصل وإنقضاض.
فرائعة مايكل أنجلو , يتمثل فيها التحفز والتوثب نحو الهدف , وكنا بمجاليعنا السامرائية المحلية الصنع , نقوم بذات الأفعال وننجز ذات المهمات التي تملأنا بالقوة والشعور بالظفر.
وكم تنوعت مجاليعنا وتعددت وصارت جفناتها من الجلد ومن القماش ومن المطاط , لكن أفضلها المجلاع الذي نحوكه بأيدينا , لأنه من صنعنا لوحدنا ويحمل لمساتنا الفنية وإبداعنا المنكوب بمحيطه القاسي.
وما كنا نعرف ديفد ولا ما يكل أنجلو , لكن المجلاع هو الذي يجمعنا , وما كان يفعل ديفد بالمجلاع , كنا نفعله , وما تقاتلنا بالمجاليع , ولكننا أردينا الطيور وأصبنا الأهداف التي كنا نتبارى حولها , وتعلمنا من المجلاع التنافس الإنساني الإبداعي والقوة والإصرار على الوصول إلى الهدف.
تحية لتلك الأيام التي كانت مزينة بالمجاليع , ومفعمة بالحيوية والنشاط والمحبة والإقدام على صناعة المصير.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat