موقف الشيعة من دعوى قِدَم العالم
نبيل محمد حسن الكرخي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نبيل محمد حسن الكرخي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مقدمة
قال العلامة الحلّي في الباب الحادي عشر: (كل معقول إما أن يكون واجب الوجود في الخارج لذاته، وإما ممكن الوجود لذاته، وإما ممتنع الوجود لذاته)[1]. وقد عَلِمنا أنَّ الواجب الوجود هو الإله تبارك وتعالى، وممتنع الوجود هي المستحيلات الوجود، كالإله الشريك. بقي الكلام في الممكن الوجود وفيه أحدث البعض الاختلاف حيث إنَّ ممكن الوجود أجمع علماء الكلام وفطاحل فلاسفة الشيعة كالشيخ نصير الدين الطوسي وتلميذه العلامة الحلّي على أنَّه يجب أن يكون حادثاً مسبوقاً بالعدم، وهو الذي اُطلِقّ عليه فيما بعد مصطلح (الحدوث الزماني)، بينما ذهب الفلاسفة قبل الاسلام وأغلب فلاسفة المسلمين الى أنَّ ممكن الوجود لا يشترط فيه ان يكون حادثاً مسبوقاً بالعدم بل يكفي أن تسبق وجوده وجود ذات الإله بدون ان يكون مسبوقاً بالعدم! وهو الذي أصبح يُطلق عليه مصطلحي (الحدوث الذاتي) و(قِدَم العالم) و(الممكن القديم)!
فمقصود البعض من الاعتقاد بقِدَم العالم إنَّ الله تبارك وتعالى وهو الإله القديم والأزلي، أنّه بحسب مبانيهم دائم العطاء والفيض منذ القِدَم، ولذلك فالعالم المادي عندهم تمّت إفاضته {وليس خلقة} منذ الأزل!! فحيثما كان الله تعالى فالعالم كائن، ولكن بمرتبة تالية، وهو ما يسمونه (الحدوث الذاتي) أي إنَّ العالم حادث ذاتاً فحيثما كانت ذات الله تعالى فقد كانت ذات العالم ولكنها تالية في وجودها لذات الإله إنْ صح التعبير! وبمعنى آخر هم يؤمنون بأن العالم "حادث أزلي" لم يسبقه عدم، بل سبقته ذات أزلية! فهي ذات حادثة ملازمة لذات قديمة وتالية لها منذ الأزل!! فالذات الحادثة عندهم هي ذات العالم والذات القديمة هي ذات الإله تعالى عمّا يصفون!
وسبب ذلك عندهم هو:
* أما أنهم هربوا من القول بالتعطيل الى القول بقدم العالم! وأنَّهم قالوا أنَّ الإله ذو جود مستمر، وجوده الدائم يقتضي أنَّه يفيض بالعطاء، والعالم هو عطاءه الأزلي!
* أو أنهم قالوا بأنَّ إرادة ومشيئة الله هي صفة ذات وليست صفة فعل وبما ان الاله ازلي فهو منذ الازل اراد خلق العالم!
* وآخرون قالوا إنَّ صفة الخلق هي صفة ذات وليست صفة فعل، ولذلك منذ الأزل الإله خالق للعالم!
فهل العالم موجود بوجوده وجوده سبحانه وتعالى، وهو ما يسمونه "قِدَم العالم" أم هو موجود بإيجاده سبحانه أي من خلال خلقه بعد العدم؟ هذا ما سنناقشه في هذا المقال.
ومن الجدير بالذكر أنَّ بعض الفلسفات التي تذهب الى قِدّم العالم تقول بالفيض لا بالخلق أي أنَّ الإله "يعقل ذاته فيفيض عنه عقل أول فيه صور كل الموجودات"[2] ومن هذا العقل الأول الذي اُطلِقَ عليه أيضاً الصادر الأول تمت إفاضة الكون كله! فعلى هذا يكون الفيض قديم وأزلي بقِدَم وازلية الإله! ثم "في عملية الفيض نصل بعد سلسلة عقول تفيض الواحد عن الذي قبله، الى العقل العاشر (أو عند بعضهم النفس الكلّية والفيض الرباعي) وهذا العقل أو النفس الكلّية يفيض عنه شيئان: الهيول العامة أي المادة الكلّية لعالمنا، والصور أو البذور أو القوى والطبائع والنفوس التي تجعل من المادة إذا حلّت فيها معدناً أو نباتاً أو حيواناً أو إنساناً، وبما انَّه عند الفيضيين اللامادي واللاجسمي يوجد جسماً لا العكس، نستنتج أن كل شيء عندهم في عالمنا يأتي من عقل غير مادي (يسمونه عقلاً مفارقاً) إلى أن نصل الى العقل الأول صعوداً الذي منبعه الله"[3]!!
فالفلاسفة الذين يقولون بأنَّ الإله الواحد لا يصدر عنه إلا فيض واحد[4] هو العقل الاول واطلقوا قاعدتهم الفلسفية التي تقول: (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) نراهم فجأة في العقل العاشر وإذا به يصدر عنه كل شيء!! وهو ما جعلهم سخرية للمتكلمين! فعلى سبيل المثال يقول لهم الغزالي: "لو قلتم ابتداءً أنَّ الله صدر عنه كل هذا لكان أحسن"[5]!
إذن قول الفلاسفة بالفيض يخالف مبدأ الخلق الذي جاءت به الأديان السماوية والذي يعني أن المخلوق مسبوق بالعدم!
ابرز القائلين بقِدَم العالم
وبيّن العلامة الحلي الاختلاف حول الموقف من قِدَم العالم كالتالي:
· "إن العالم إما محدث الذات والصفات، وهو قول المسلمين كافة والنصارى واليهود والمجوس.
· وإما أن يكون قديم الذات والصفات، وهو قول أرسطو، وثاوفرطيس، وثاميطوس، وأبي نصر، وأبي علي بن سينا.. فإنهم جعلوا السماوات قديمة بذاتها وصفاتها إلا الحركات والأوضاع، فإنها بنوعها قديمة، بمعنى أن كل حادث مسبوق بمثله إلى ما لا يتناهى.
· وإما أن يكون قديم الذات، محدث الصفات، وهو مذهب انكساغورس، وفيثاغورس، والسقراط، والثنوية.. ولهم اختلافات كثيرة لا تليق بهذا المختصر.
· وإما أن يكون محدث الذات، قديم الصفات، وذلك مما لم يقل به أحد لاستحالته.
· وتوقف جالينوس في الجميع"[6].
بينما قال الشهرستاني في (نهاية الاقدام) ان من القائلين بحدوث العالم من الفلاسفة: ثاليس، وإنكساغورس، وإنكسيمايس من أهل ملطية، وفيثاغورس، وإنباذقلس، وسقراط، وأفلاطون من أهل آثينية[7]. في حين بيّن العلامة الحلي (رض) ان انكساغورس وفيثاغورس وسقراط كانوا يقولون بحدوث صفات العالم بينما ذاته قديمة بحسب فلسفتهم ! وهذا يكشف لنا عن المدى الواسع الذي يمكن ان يختلف به الفلاسفة!
ومن الجدير بالذكر ان الشهرستاني في نفس المصدر قال: "وإنما القول بقِدَم العالم وأزلية الحركات بعد إثبات الصانع، والقول بالعلة الأولى إنما ظهر بعد أرسطاطاليس، لأنه خالف القدماء صريحا وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهانا، وصرح القول فيه من كان من تلامذته مثل الإسكندر الافروديسي، وثامسطيوس، وفرفوريوس، وصنف برقلس المنتسب إلى أفلاطون في هذه المسألة كتابا أورد فيه هذه الشبهة"[8].
مع ملاحظة أنَّ بعض القائلين بقِدّم العالم يعنون العالم المادي وكذلك ما يسمونه بـ "عالم العقول" كليهما، بينما فلاسفة آخرون كملا صدرا يقولون بأن العالم الماديّ هو حادث زماناً ـ أي مسبوق بعدم ـ أما "عالم العقول" الذي يفترضون وجوده فهو حادث ذاتاً أي غير مسبوق بعدم!! فجعل بعض المخلوقات قديمة والبعض الآخر حادثة!!
الهرب من التعطيل
فأمّا قول البعض بقدم العالم هرباً من جعل الإله معطلاً عن الافاضة[9] أو الخلق! ويقولون انَّه سبحانه دائم الجود والعطاء وبما انّه موجود منذ القِدَم فجوده أيضاً قديم، والعالم هو جوده! فهم بذلك يوجبون بحسب تعبيرهم "الفيض" أي يوجبون على الإله إفاضة الكائنات (المخلوقات)، تعالى الله عما يصفون فهو بهذا الحال، عندهم، موجب غير مختار!! طلباً لنفي التعطيل والذي هربوا منه الى سلب الإختيار عن الإله!! فهم يذهبون الى أنَّ الإله موجَب أو مريد غير مختار. فتتلخص فكرة القول بقدم العالم، عندهم، ان الله سبحانه وتعالى بما أنَّه لا يمكن أن يكون معطلاً، أي لا يمكن أن يوجد بدون ان يصدر عنه شيء، او بدون أن يفيض عنه شيء، فحيثما يوجد الله تعالى يوجد معه الفيض عنه، ولذلك حيث ان الله تعالى قديم فالعالم ايضاً قديم وهو موجود بوجوده تعالى. وانه تعالى دائم الفيض ولا يمكن ان يقال انه تعالى كان ولم يكن له فيض حيث ان ذلك معناه التعطيل له تعالى.
بينما نحن في إيماننا الديني تبعاً لتعليم الثقلين الكتاب والعترة الطاهرة (عليها السلام) نؤمن أنَّ الله تبارك وتعالى كان ولم يكن شيء معه، وأنَّه مختار في أفعاله، ولا يوجد له فيض أو خلق حتمي، بل يفعل ما يشاء حينما يشاء، وهو الفعال لما يريد.
جعل الارادة صفة ذات
برغم قوله تعالى في القرآن الكريم، في سورة يس، ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ))، والتي تبين بالإضافة الى الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي ذكرناها آنفاً أن إرادة الله سبحانه وتعالى هي فعله، فهو مريد وأنَّه تعالى: ((فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ))، والتي تدل على إنَّ الإرادة من الصفات الفعلية وليست من الصفات الذاتية. فقد ذهب الفلاسفة الى اعتبار الارادة صفة ذات وليست صفة فعل، لفهم خاص اكتنف بعضهم! حيث يرى ملا صدرا بأن العلم والارادة بمعنى واحد فيما يتعلق بالله سبحانه ولا يوجد بينهما تغاير لا ذاتاً ولا اعتباراً، وإرادته هي عين علمه بالنظام الاتم[10]. بينما يرى ابن عربي إنَّ إرادة الحق تعالى هي الميل نحو المراد الخاص، وتختلف عن العلم طبقاً لبعض عباراته وشروح المعتبرين من شرّاحه. والمشيئة من حيث الاحدية عين الارادة الذاتية، إلا انها تغايرها من حيث الالهية. والمشيئة تابعة ومترتبة على العلم والارادة مترتبة على المشيئة. والمشيئة عناية إلهية تتعلق بالكليات ولهذا لا يزيد متعلقه ولا ينقص، لأن الكلّي لا يقبل الزيادة والنقصان، في حين تتعلق الارادة بالجزئيات ولهذا يزداد متعلقها وينقص ويتغير لأن الجزئي يتعرض للتغيير. أضف الى ذلك أنّ المشيئة العامة قد تتعلق بايجاد المعدوم أحياناً واعدام الموجود في احيان اخرى، بينما الارادة تقتصر على ايجاد المعدوم، وهي التجلي الذاتي للحق لإيجاد المعدوم[11].ويذهب ابن عربي بالرغم من اعتقاده بأنّ الله تعالى متصف بصفتي المشيئة والارادة معاً، فهو "يذهب الى ان الامر الالهي واحد، وتعارض احدية المشيئة مع الاختيار: (فإنّ الاختيار يعارضه أحدية المشيئة)، وأن الله مريد غير مختار. فقد اورد في إنشاء الدوائر بأنّ الله سبحانه مريد غير مختار ولا وجود لممكن في الكون لأن الوجود منحصر في الوجوب والاستحالة. والموارد التي وردت فيها بالقرآن عبارات مثل ((ولو شئنا))، ((ولو شاء)) واقترنت فيها المشيئة بحرف الامتناع لكونها موجوداً قديماً مستحيل العدم، إنما تدل على استحالة ما هو ضد لمشيئته"[12].
ولذلك نجد ان البعض يذهبون الى ان الارادة صفة ذات وان الله مريد او موجب غير مختار! وهذا بالتالي يؤدي الى القول بقِدَم العالم كما هو واضح لأن الإله أراد خلق العالم وما يريد الإله يكون، فكون إرادته قديمة يعني أنَّ خلق العالم قديم.
جعل الخلق صفة ذات
وهناك من المخالفين مَن قال أنَّ صفة (الخلق) هي صفة ذات وليست صفة فعل، فما دام الله تعالى موجوداً فهو خالق، وحيث ان الله سبحانه قديم وازلي فخلقه للخلق أيضا قديم وازلي وإلا كان التعطيل. أي إنَّ من يقول بخلاف ذلك فإنما ينسب الله تعالى الى التعطيل عن الخلق الذي هو من صفاته الذاتية بحسب زعمهم!
بينما الحق هو ان صفة (الخلق) هي صفة فعل وليست صفة ذات، بدليل اننا يمكن ان نسلبها عنه تعالى شأنه فنقول: أنّه سبحانه لم يخلق إنساناً بألف رأس، أو لم يخلق جملاً يطير أو لم يخلق حصاناً برأس إنسان، وهكذا. ولو كانت صفة ذات كما يزعمون لما صح سلبها عنه تعالى.
وربما يكون مقصودهم هو إنَّ القدرة على الخلق هو من صفات الذات وليس فعل الخلق! نعم هي كذلك ولكن القدرة على الخلق أمر آخر غير صفة الخلق التي هي من صفات الفعل، فهو سبحانه قديم في قدرته على الخلق وقدرته في شؤونه الإلهية تبارك وتعالى، فهو القدير. وما الخلق إلا شأن من شؤونه لا شؤونه كلها. فلا يصح الخلط بين صفة القدرة التي هي من صفات الذات وبين صفة الخلق التي هي من صفات الفعل.
فمن صفات الذات: الحياة والعلم والقدرة، وهي صفات لا يمكن سلبها عنه تبارك وتعالى، فهو عزَّ وجلَّ له القدرة على الخلق، والقدرة صفة ذات.
فعقيدتنا هي إنَّ الله سبحانه وتعالى هو القدير، وقدرته هي صفة من صفات ذاته المقدسة. وهذا يعني أنَّه عزَّ وجلَّ قادر على أن يكون متفرداً بالوجود وقادر على أن يمتنع عن الخلق بالاضافة الى قدرته على الخلق، وهذا ما غاب عن فهم الفلاسفة.
نقض القرآن الكريم والعترة الطاهرة لمقولة قِدَم العالم
ورد التعبير عن الإرادة الإلهية في القرآن الكريم كفعل بلفظ (أراد) و(يريد)، ولم ترد فيه بلفظ المصدر (إرادة). ننتخب فيما يلي بعض الآيات الكريمة التي تبيّن أنَّ الله تبارك وتعالى مختار في إرادته يفعل ما يشاء:
ففي سورة المائدة الآية (17) قال تعالى: ((قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)).
وفي سورة الرعد الآية (11): ((وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)).
وفي سورة الاحزاب الآية (17): ((قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً)).
في سورة يس الآية (82): ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)).
في سورة الزمر الآية (4): ((لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ)).
في سورة الزمر أيضاً، الآية (38): ((قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ)).
كما يتضمن القرآن الكريم عدة آيات كريمة تدل على إنَّ الله سبحانه خلق العالم وأنَّه تبارك وتعالى مختار في أفعاله، بخلاف ما يذهب اليه اصحاب عقيدة "قِدَم العالم".
وقال تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ))[13].
فالقرآن الكريم يستخدم لفظ (الخلق)، بينما يصر الفلاسفة على استخدام لفظ بديل هو (الفيض)!
وقال تعالى: ((نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً))[14].
وهذه الآية الكريمة تبين بما لا يقبل اللبس انه سبحانه وتعالى مختار فيما يخلق وفيما يشاء.
وقال تعالى: ((يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ))[15]، الدالة على انه سبحانه وتعالى مختار فيما يشاء.
وقال تعالى: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ))[16].
وكذلك قوله تعالى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ))[17]. وقوله تعالى: ((فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ))[18].
وقوله تعالى: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا))[19].
فالقرآن الكريم يستخدم لفظ (الخلق) كما يشير الى خلق الزمن وأن الخلق استغرق زمناً (ستة أيام)، بينما يصر الفلاسفة على استخدام لفظ بديل هو (الفيض) ويتحدثون عن "الحدوث الذاتي" خارج الزمن!!
وقال تعالى: ((نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً))[20].
وهذه الآية الكريمة تبين بما لا يقبل اللبس انه سبحانه وتعالى مختار فيما يخلق وفيما يشاء، وإنَّها متعلقة بفعله، ولا يمكن أن تكون صفة ذات لأن فيها تخيير لما يشاء، من قبيل ((إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً))، وغيرها مما ذكرناه آنفاً.
وفي الروايات الشريفة نقرأ مما هو مأثور عن آل البيت الاطهار (عليهم السلام):
* في التوحيد للشيخ الصدوق بسنده عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق (عليه السلام) "قَالَ: قُلْتُ لَهُ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ مُرِيداً فَقَالَ إِنَّ الْمُرِيدَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمُرَادٍ مَعَهُ بَلْ لَمْ يَزَلْ عَالِماً قَادِراً ثُمَّ أَرَادَ. ووردت الرواية في الكافي للشيخ الكُليني بسنده عن عاصم بن حُميد في باب (الإِرَادَةِ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وسَائِرِ صِفَاتِ الْفِعْلِ) ولفظها: (إِنَّ الْمُرِيدَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمُرَادٍ مَعَه، لَمْ يَزَلِ اللَّه عَالِماً قَادِراً ثُمَّ أَرَادَ)".
* "عَنْ بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع عِلْمُ اللَّهِ وَمَشِيَّتُهُ هُمَا مُخْتَلِفَانِ أَمْ مُتَّفِقَانِ فَقَالَ الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ الْمَشِيَّةُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَا تَقُولُ سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ عَلِمَ اللَّهُ فَقَوْلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ فَإِذَا شَاءَ كَانَ الَّذِي شَاءَ كَمَا شَاءَ وَعِلْمُ اللَّهِ سَابِقٌ لِلْمَشِيَّةِ"[21]. وردت في الكافي بنفس اللفظ.
* "عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ ع أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِرَادَةِ مِنَ اللَّهِ وَمِنَ الْمَخْلُوقِ قَالَ فَقَالَ الْإِرَادَةُ مِنَ الْمَخْلُوقِ الضَّمِيرُ وَمَا يَبْدُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفِعْلِ وَأَمَّا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِرَادَتُهُ إِحْدَاثُهُ لَا غَيْرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرَوِّي وَلَا يَهُمُّ وَلَا يَتَفَكَّرُ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ فَإِرَادَةُ اللَّهِ هِيَ الْفِعْلُ لَا غَيْرُ ذَلِكَ - يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بِلَا لَفْظٍ وَلَا نُطْقٍ بِلِسَانٍ وَلَا هِمَّةٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا كَيْفَ لِذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ بِلَا كَيْفٍ". رواها ايضاً الشيخ الكليني في الكافي بسنده بلفظ مع اختلاف طفيف.
* "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: الْمَشِيَّةُ مُحْدَثَةٌ"[22]. وردت في الكافي بلفظ: (الْمَشِيئَةُ مُحْدَثَةٌ).
وروايات ومصادر اخرى بنفس المضمون، وهي رغم انها روايات آحاد إلا إنَّ لها قرائن في دلالات آيات القرآن الكريم، كما إنَّها تعلمنا كيف إنَّ العقل يحكم بمضمون ما ورد فيها.
وضمن هذا السياق كتب الشيخ الصدوق في كتابه التوحيد: ( إذا وصفنا الله تبارك وتعالى بصفات الذات فإنما ننفي عنه بكل صفة منها ضدها فمتى قلنا إنه حي نفينا عنه ضد الحياة وهو الموت ومتى قلنا إنه عليم نفينا عنه ضد العلم وهو الجهل ومتى قلنا إنه سميع نفينا عنه ضد السمع وهو الصمم ومتى قلنا بصير نفينا عنه ضد البصر وهو العمى ومتى قلنا عزيز نفينا عنه ضد العزة وهو الذلة ومتى قلنا حكيم نفينا عنه ضد الحكمة وهو الخطأ ومتى قلنا غني نفينا عنه ضد الغنى وهو الفقر ومتى قلنا عدل نفينا عنه الجور والظلم ومتى قلنا حليم نفينا عنه العجلة ومتى قلنا قادر نفينا عنه العجز ولو لم نفعل ذلك أثبتنا معه أشياء لم تزل معه ومتى قلنا لم يزل حيا عليما سميعا بصيرا عزيزا حكيما غنيا ملكا حليما عدلا كريما فلما جعلنا معنى كل صفة من هذه الصفات التي هي صفات ذاته نفي ضدها أثبتا أن الله لم يزل واحدا لا شيء معه وليست الإرادة والمشية والرضا والغضب وما يشبه ذلك من صفات الأفعال بمثابة صفات الذات لأنه لا يجوز أن يقال لم يزل الله مريدا شائيا كما يجوز أن يقال لم يزل الله قادرا عالما)[23].
سفسطة الممكن القديم!
ولا يمكن ان نتصور ان الممكن يكون قديماَ إلا مع نسبة العجز للإله تعالى عمّا يصفون، لأنه لا معنى لقِدَم الممكن إلا أن تكون إمكانية وجوده قد وجبت منذ وجود الإله، فلا إختيار للإله مع إنَّ مفهوم (ممكن الوجود) يقتضي أمَّا ان يوجد او لا يوجد، ولكن هؤلاء يقولون بأنه (محدث واجب الوجود)!! فتساوى المحدث والقديم بوجوب الوجود! وهي سفسطة واضحة!! ولذلك لجأ بعض الفلاسفة الى ابتداع مصطلح جديد يصفون به (ممكن الوجود) بقولهم: (واجب الوجود بغيره)! أي إنَّه واجب الوجود ولكن ليس على نحو مستقل بل وجوده مرتبط بوجود الإله! فما دام الإله موجود فهو موجود!!
كتب الدكتور حسام الآلوسي: (وكان الفيضيون ابتداء بالفارابي قسموا الموجودات الى واجب الوجود بذاته وممكن الوجود بذاته، وليس الى حادث وقديم، وعندهم الممكن يمكن أن يكون في نفس الوقت واجب الوجود بغيره، بمعنى أنَّه دائم الوجود مع الله (الواجب بذاته) فهو أي العالم مُحدث بالذات قديم بالزمان، ولا وجود له بدون الواجب أو الله الذي يمنحه الوجود والدوام)[24].
وقال ابن رشد: (واما القضية الثانية وهي القائلة أن الجائز محدث، فهي مقدمة غير بينة بفسها، وقد اختلف فيها العلماء: فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائز أزلياً، ومنعه أرسطو. وهو مطلب عويص. ولن تتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان، وهم العلماء الذين خصهم الله تبارك [وتعالى] بعلمه، وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته)[25].
وافلاطون يجيز ان يكون الشيء جائز أزلياً أي انَّه حادث حدوثاً ذاتياً وهذا يعني قبوله بقِدَم العالم! ومن الواضح انَّ ابن رشد لم يكن يقبل بالمُحدَث الأزلي أي الحدوث الذاتي تبعاً لأرسطو حيث أنه كان شديد الالتصاق بفلسفته يكاد لا يفارقها برأي.
لقد فاتهم أنَّ القول بقدم الشيء يعني كماله، واول كماله أستغناؤه عن كل شيء آخر. فقوله واجب الوجود بغيره هو قول متناقض، لأن (وجوب الوجود) يعني غناه المستقل بينما (وجوبه بغيره) يعني فقره لغيره لكي يكون موجوداً! وهو تناقض صارخ خلاف المنطق، ولذلك قلنا عنه انّه سفسطة.
وقيل إنَّ أبن سينا والرازي ذهبا الى قبول الممكن الأزلي (القديم) ورفضه ابن رشد وقال: (لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا)[26]، وقد نقل ذلك ابن تيمية غير إنَّ محقق كتابه الدكتور محمد رشاد سالم لم يقم بتحقيق هذا النص ويطابقه مع ما في كتب ابن رشد فلم نتمكن من التحقق من دقة نقل ابن تيمية عنهم وفهمه لمطالبهم! ونظراً لما نعرفه من اداء سيء لأبن تيمية مع الشيعة والعلامة الحلّي في كتابه (منهاج السنة) فنتوقع أن له أداءً مماثل مع كتب الفلاسفة وجميع خصومه!
وحينما تحدث أبن رشد عن العلماء الذين "خصهم الله تبارك وتعالى بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته" لم يبيّن من هم اولئك العلماء المقصودين، لاسيما وهو كان ينتقد علماء أهل السنة كالأشعرية وغيرهم ويبطل مقالاتهم، فمن يكونون إذن! من المدهش ان نعرف انَّه من المحتمل جداً كان يقصد أرسطو! نعم فقد قال إبن رشد في أرسطو في موضع آخر: (إننا نحمد الله كثيرا لأنه قدر الكمال لهذا الرجل ووضعه في درجة لم يبلغها أحد غيره من البشـر فـي جـمـيـع الأزمان. وربما كان الباري مشيرا إليه بما قال في كتابه القرآن: ((قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء)) ويضيف ابن رشد أيضا «إن برهان أرسطو لهو الحق المبين ويمكننا أن نقول عنه: إن العناية الإلهية أرسلته إلينا لتعليمنا ما يمكن علمه»[27].
وهكذا تجد إبن رشد يمدح أرسطو ويغلو بافكاره، وملا صدرا واتباعه يغالون في افكار إبن عربي ويرتفعون بها إلى مصاف المقدسات!! وكلٌ يغني على ليلاه...!
أمّا آل محمد (صلى الله عليه وآله) فقد اعرض القوم عنهم فخاضوا لذلك في بحار الضلال! فإبن رشد يدَّعي، على سبيل المثال، أنَّ الشرع سكت عن نفي الجسمية عن الإله تعالى شأنه، فقال: (فإن قيل فما تقول في صفة الجسمية، هل هي من الصفات التي صرّح الشرع بنفيها عن الخالق سبحانه أم هي من المسكوت عنها؟ فنقول: إنه من البيّن من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها. وهي الى التصريخ بإثباتها في الشرع أقرب منها الى نفيها)[28] إلخ... ولو كان مطلعاً على حديث التمسك بالثقلين وملتصقاُ بتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) لما تردد في الرجوع إليهم والأخذ بقولهم بنفي الجسمية وأنَّ الشرع المحمدي الأصيل قد جاء بنفيها.
ومورد آخر يرتكبه ابن رشد وهو ذهابه الى أنَّ قول المتكلمين بإيجاد الله للعالم من عدم محض، من لا شيء[29]، هو إجتهاد منهم حول النص الديني القرآني، وليس هو مفهوم النص القرآني وليس ملزماً للجميع، ولا هو من باب البيّن بذاته[30]!! فهو يظن أنَّ الحق هو بالتمسك بالقرآن الكريم وحده مخالفاً نص حديث الثقلين حيث أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالتمسّك بالثقلين معاً وهما القرآن الكريم وآل البيت الاطهار (عليهم السلام) لكي نأمن من الضلال، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث وقع في الضلال كل من لم يتمسك بهما وحدهما.
فإذا كان إبن رشد قد سلك مسلكاً غير مسلك آل البيت الاطهار (عليهوم السلام) فهو قد تربّى في بيئة لم يتعلّم منها الإهتمام بالتراث النبوي المحمدي الاصيل والتمسّك بالثقلين الطاهرين الظاهرين، فما بال أشخاص هم من مدرسة آل البيت (عليهم السلام) ومن شيعتهم، كملا صدرا واتباعه في مدرسة الحكمة المتعالية، وقد خلطوا تعاليمهم بتعاليم إبن عربي والغنوصيات العرفانية والفلسفية فانحرفوا عن المسار الحق!؟
اعتقاد مدرسة الحكمة المتعالية بقِدَم العالم
مدرسة الحكمة المتعالية هي مدرسة نشأت في البيئة الشيعية الأثنا عشرية حاولت الجمع، دون جدوى، بين (الفلسفة والعرفان والشريعة)! واخذت اسمها من كتاب (الحكمة المتعالية في الأسفار الربعة) لمؤلفه صدر الدين الشيرازي (980-1050)هـ المعروف بأسم (ملا صدرا) ويسميه اتباعه (صدر المتألّهين)! فهو مؤسسها. وهي تتبع في افكارها تعاليم الصوفي الشهير من أهل السنة إبن عربي (558-638)هـ!
نختار بعض النصوص من مدرسة الحكمة المتعالية التي تكشف عن تبنّيها مفهوم (قِدَم العالم) بطريقة معينة قد يصح عليها ان توصف بالجزئية! بإعتبار أنهم يرون الموجودات عدا الله سبحانه تقسم الى موجودات مجردة وموجودات ماديّة، فعندهم الموجودات الماديّة مخلوقة حادثة وهو ما يسمونه (الحدوث الزماني) الذي يكون مسبوقاً بالعدم، بينما الموجودات المجرّدة تكون صادرة عن طريق الفيض وهو ما يسمونه بالحدوث الذاتي أي موجودة بعد وجود الله تعالى وغير مسبوقة بالعدم! وبما ان وجود الإله قديم فيكون وجودها قديم أيضاً! وهكذا يكون إيمانهم بموجودات حادثة زمانياً وأخرى حادثة ذاتياً، وهو ما اُطلِقَ عليه من قبل بعض المفكرين مصطلح: قِدَم الزمان الجزئي. أمّا بعيداً عن الفلسفة ومفاهيم مدرسة الحكمة المتعالية القائمة على فكر ملا صدرا وتراث إبن عربي فلا نجد لهذه المفاهيم والمصطلحات أثراً في تراث آل البيت الاطهار (عليهم السلام) الذين كانوا حريصين على إبقاء الاسلام المحمدي الاصيل نقياً من شوائب الفلسفة والتصوّف وكل المفاهيم الشركية.
اما ملا صدرا فقد وجدنا من ينسب له القول بمفهوم: "قِدَم جزئي للعالم!"! فهو يرى أنَّ العالم المادي حادث زماني، بينما عالم العقول المجردة "الموهوم" هو عالم قديم أي حادث ذاتي!!
فمن كلام ملا صدرا وهو يتحدث عن حدوث العالم في بعض كتبه: "فعلم بالبرهان والقرآن جميعاً ان هذا العالم الجسماني بكلّه حادث مسبوق بالعدم الزماني"[31]. ويقول في موضع آخر وهو يتحدث عن العالم الماديّ: "الكتب الالهية والآيات الكلامية قائلة ناطقة بأن العالم بأسره حادث زماني لأن الغرض من خلق العالم ليس نفسه بل ما هو اشرف منه فإن الطبايع الجسمانية وما في حكمها لا يمكن ان يكون هي الغاية الاقصى في الوجود بل البرهان الحكمي ناهض على ان للطبايع غايات اخرى هي اعلى منها، وكل ما هو أعلى من الطبيعة الكونيّة لا يكون وجوده في هذا العالم بل في عالم آخر. فثبت بالبرهان ان هذا العالم بأسره واقع تحت الفساد ويلحقه العدم والانقراض وما يلحقه العدم والانقراض فهو حادث زماني لا محالة، فالعالم وكل ما فيه حادث زماني"... "فالغرض من اصل الابداع وجود الباري وفيضه ان يصل الى كل ناقص الى كماله وتبلغ المادة الى صورتها والصورة الى معناها ونفسها وان تلحق النفس الى درجة العقل ومقام الروح"[32].
ويميز ملا صدرا بين "الموجود بوجوده تعالى والموجود بإيجاده"! فكتب ملا صدرا في رسالة حدوث العالم: "فمن العقلاء المدققين والفضلاء المناظرين، من اعترف بالعجز عن هذا الشأن من إثبات الحدوث للعالم بالبرهان قائلا: العمدة في ذلك الحديث المشهور والإجماع من المليين، وأنت تعلم أن الاعتقاد غير اليقين... وقال: القول بقدم العالم إنما نشأ بعد الفيلسوف الأعظم أرسطو بين جملة رفضوا طريق الربانيين والأنبياء، وما سلكوا سبيلهم بالمجاهدة والرياضة والتصفية وتشبثوا بظواهر أقاويل الفلاسفة المتقدمين من غير بصيرة ولا مكاشفة، فأطلقوا القول بقدم العالم. وهكذا أوساخ الدهرية والطبيعية من حيث لم يقفوا على أسرار الحكمة والشريعة، ولم يطلعوا على اتحاد مأخذها واتفاق مغزاهما. ولشدة رسوخهم فيما اعتقدوا من قدم العالم وزعمهم أن هذا مما يحافظ على توحيد الصانع وانثلام الكثرة والتغيير على ذاته، وأن قياساتهم مبتنية على مقدمات ضرورية هي مبادي البرهان، لم يبالوا بأن ما اعتقدوا مخالف لما ذهب إليه أهل الدين بل أهل الملل الثلاث من اليهود والنصارى والمسلمين من أن العالم - بمعنى ما سوى الله وصفاته وأسمائه - حادث.. أي موجود بعد أن لم يكن بعدية حقيقية وتأخرا زمانيا، لا ذاتيا فقط، بمعنى أنه مفتقر إلى الغير متأخر عنه في حد ذاته، كما هو شأن كل ممكن بحسب حدوثه الذاتي وهو لا استحقاقية الوجود ولا عدم من نفسه. ومنهم، وإن كان ممن التزم دين الإسلام لكنه يعتقد قدم العالم، ويظن أن ما ورد في الشريعة والقرآن واتفق عليه أهل الأديان في باب الحدوث للعالم، إنما المراد منه مجرد الحدوث الذاتي والافتقار إلى الصانع. وذلك القول في الحقيقة تكذيب للأنبياء من حيث لا يدري، ولا يخلص قائله، ولا يأمن من التعذيب العقلي والحرمان الأبدي، لأن الجهل في الأصول الإيماني إذا كان مشفوعاً بالرسوخ يوجب العذاب الروحاني في دار المآب. ثم تأويل ما ورد في نصوص الكتاب والسنة إنما هو لقصور العقول عن الجمع بين قواعد الملة الحنيفة والحكمة الحقيقة، وإلا فألفاظ الكتاب والسنة غير قاصرة عن إفادة الحقائق وتصوير العلوم والمعارف المتعلقة بأحوال المبدأ والمعاد حتى يحتاج إلى الصرف عن الظاهر للأقاويل وارتكاب التجوز البعيد والتأويل. وهكذا فعله أبو نصر فارابي في مقالة التي في الجمع بين الرأيين والتوفيق بين مذهبي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، حيث حمل الحدوث الزماني الوارد في كلام أفلاطون حسب ما اشتهر منه ودلت عليه الألفاظ المأثورة منه على الحدوث الذاتي، وهذا من قصور في البلوغ إلى شأوا الأقدميين الأساطين[33]"!!
بينما يكشف السيد قاسم علي الاحمدي عن فلسفة ملا صدرا حول "قِدَم جزئي للعالم!" ويبين انه رغم محاولة ملا صدرا اظهار افكاره ومنهجه بأنه ممن يقول بالحدوث الزماني للعالم أي الحدوث المبوق بالعدم إلا انَّه في الحقيقة يعتقد بـ "قِدَم جزئي للعالم" حيث يقول بقدم العالم لبعض المخلوقات كالعقول المفارقة! فيعلّق السيد قاسم علي الاحمدي على هذا النص السابق لملا صدرا بقوله: "يستفاد من كلامه أمور: منها: إن الفلاسفة لم يبالوا من مخالفة الشريعة فيما ذهبوا إليه من القدم الذاتي. ومنها: إنهم أولوا نصوص الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل الأديان في باب حدوث العالم، وقالوا: إنما المراد منه مجرد الحدوث الذاتي والافتقار إلى الصانع، وهذا القول في الحقيقة تكذيب للأنبياء ومستلزم للعقاب الأبدي. ومنها: ألفاظ الكتاب والسنة غير قاصرة عن إفادة الحقائق كي تحتاج إلى صرفها عن ظواهرها، وارتكاب التجوزات البعيدة فيها، فالمستفاد من الكتاب والسنة ليس إلا الحدوث الزماني، بمعنى مسبوقية العالم للعدم وإن له أول وابتداء. ولا يخفى أن قوله هذا اعتراف وإقرار بما ذكرناه من اتفاق الآيات والأخبار والمليين على حدوث العالم زمانا.. أي مسبوقيته بالعدم الصريح. ثم إن ما نسبه ملا صدرا إلى الفلاسفة من التأويل، وعدم الفهم، والقصور في الإدراك، وتكذيب الأنبياء، ومخالفة الضرورة.. وأمثالها يشمل نفسه قبل أن يشمل غيره، كيف لا وهو يقول: إن العقول المفارقة خارجة عن الحكم بالحدوث لكونها ملحقة بالصقع الربوبي، لغلبة أحكام الوجود عليها، فكأنها موجودة بوجوده تعالى لا بإيجاده وما سوى العقول من النفوس والأجسام وما يعرضها حادثة بالحدوث الطبعي - أي الزماني -. فليس حكم الحدوث عنده ساريا بالنسبة إلى جميع أجزاء العالم، لخروج العقول عنده عن هذا الحكم، بل فيما يجري فيه الحركة الجوهرية وهو عالم الطبايع والأجسام وما يتعلق بها. وقال أيضا: الفيض من عند الله باق دائم، والعالم متبدل زائل في كل حين، وإنما بقاؤه بتوارد الأمثال كبقاء الأنفاس في مدة حياة كل واحد من الناس، والخلق في لبس وذهول عن تشابه الأمثال، وبقائها على وجه الاتصال. والحاصل: إنه قد سلم بعدم تناهي سلسلة الحوادث من حيث البدء، وقال بأزليتها وعدم انقطاع وجودها في الأزل إلى حد. ثم إن هذا الكلام على خلاف ما ذهب إليه المليون، ودلت عليه الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة كما سيأتي قريبا بيانه إن شاء الله تعالى. مضافا إلى أن ما فيه من مفاسد أخر.. لا تخفى. والمقصود في المقام: إنه مع توغله وتبحره في المباحث الفلسفية، والتزامه بقواعدهم العقلية.. أقر بصراحة الكتاب والسنة واتفاق المليين على الحدوث الزماني للعالم"[34].
كما ان الشيخ محمد باقر البهبودي في تحقيقه لبحار الانوار أشار الى إلحاق ملا صدرا للعقول بـ "الصقع الربوبي" على حد تعبيره، قال: (ليس المراد بقوله (لا قديم سوى الله تعالى) انه تعالى مقارن لزمان غير متناه من جهة البدء وما سواه مقارن لزمان متناه بدءا وهذا ظاهر مما ذكرنا فالمراد به اما انحصار القدم الذاتي بالبارئ سبحانه وهو ضروري: أو نفي القدم المرادف للسرمدية عن غيره وهو ملازم لاثبات الحدوث الدهري لما سوى الله تعالى. واما نفى القدم بمعنى الخروج عن ظرف الزمان عن غيره سبحانه وهو ملازم لاثبات الحدوث الزماني بالمعنى الأخير للعالم ، لكنه لا يتم الا مع انكار الجواهر المجردة أو الحاق العالم العقلي بالصقع الربوبي كما فعله صدر المتألهين)[35].
ويقول ملا صدرا في الاسفار: (ان هذا العالم قابل للدثور والفناء لأنه تدريجي الحصول متجدد الكون والحدوث شيئاً فشيئاً فلا يوجد منه شيء إلا وينعدم كالحركة حيث لا بقاء لها اصلا واما العقل وكذا النفس بوجهها المرسل الذي يلي العقل فهما باقيان ببقاء الله لأنهما مطموسان تحت طوارق الحبروت)[36]. وتكررت كلماته المماثلة بهذا المعنى في مواضع اخرى من كتابه المذكور منها قوله: (ان تلك الصور العقلية هي بعينها صفات الله وعلومه التابعة لوجوده مع ان علومه ومجده بذاته لذاته لا لتلك الصور ولا يلزم من ذلك تعدد القدماء ولا استكماله تعالى بغير ذاته الاحدية الصمدية لأنها ليست موجودات مستقلة متباينة الوجود عن وجود الحق ولا متميزة الانية عن الانية الاولى)[37]. وقال في موضع آخر: (إنّا قد بيّنا بالبرهان ان العالم بجميع جواهره الحسيّة السماوية والارضية واعراضه حادث حدوثاً تدريجياً وأنه متكون فاسد لا يبقى زمانين وبيّنا ان العالم الربوبي عظيم جداً مشتمل على جميع حقايق ما في العالم وصورها على وجه اتم وأشرف وأنها باقية ببقاء الله فضلاً عن استبقائه اياها وفرق بين كونها باقية ببقائه تعالى وبين كونها باقية باستبقائه فما عند الله من الصور الالهية لو ثبت ان لها مهية غير الانيات والهويات الوجودية فصحيح انها من حيث المهية باقية باستبقائه. واما من حيث انها وجودات محضة متعلقة الهويات والانيات بجاعلها التام فانها عشاق الهيون واصلون الى حبيبهم وانها وجوه ناظرة الى ربها وعيون باصرة وجه ربها مع انها متفاوتة في الشدة والضعف والقرب والبعد فليس يتصور لها بقاء غير بقاء الله)[38].
وقال أيضاً: (فالحق أن يقال في التوفيق بين كلامي افلاطون الإلهي أن يحمل مراده من العالم حيث يقول "ان العالم ابدي وانه غير مكون" على عالم الصور الالهية لأنها حقايق الموجودات العاملة الثابتة في عالم علمه تعالى، وحيث حكم بأنه "مكون وان الباري صرفه من لا نظام الى نظام" فالمراد منه عالم الصور الحسية لانها مادية منتظمة الوجودمن القوة والفعل والمادة والصورة على الوجه الذي أومأنا اليه من أن شخصيات كل من المادة والصورة حادثة مسبوقة بالعدم الزماني)[39]. وقال وهو يتحدث عن فلسفة ارسطاطاليس وما يقال أنه كان يعتقد قدم العالم، فمما قال ملا ضدرا عنه: (إنْ كان يريد من العالم العقلي عالم الإلهية والقدرة ومراتب القوة القيومية وهي جملة الصور الوجودية العقلية المحضة التي هي بوجه غير الذات الاحدية التي سماها بعض العرفاء غيب الغيوب، فيكون القول بقدمها حقاً صدقاً إذ لا يلزم منه تعدد القدماء لكونها غير زائدة على مراتب الالهية ومقامات الربوبية والعلوم الربانية وعالم القضاء العيني)[40].
وعبارات اخرى ينبغي لمن يرغب بالاطلاع عليها مراجعتها في المصدر المذكور.
كما إنَّ الفيلسوف القاضي سعيد القمي - وهو من الفلاسفة البارزين أيضاً - نفى أن يكون مختار الملا صدرا الحدوث الحقيقي[41]. ويقصد بالحدوث الحقيقي الحدوث الزمني الذي يسبقه العدم.
والفيض الكاشاني، تلميذ ملا صدرا وصهره واحد اعلام مدرسة الحكمة المتعالية، يصف القائلين بعدم قدم العالم بأنهم زعموا ان الله عزّ وجل "كان حيناً من الدهر[42] عاطلاً عن الجود فارغاً عن افاضة الوجود، ثم شرع في الايجاد"[43]!! وقال شارحاً نوعي الحدوث: الحدوث الذاتي والحدوث الزماني: "اعلم ان للحدوث معنيين احدهما الحدوث الذاتي: وهو ان يكون ذات الحادث مسبوقاً بذات المحدث، والآخر الحدوث الزماني: وهو ان يكون زمان وجود الحادث مسبوقاً بزمان عدمه، والمعنى الاول يجري في كل ما سوى الله، وهو ثابت في كل ما يجري، فما يدخل تحت الزمان دون ما تقدم على الزمان، وهو ايضاً ثابت في كل ما يجري فيه، لا يشذ عنه شاذ"[44]... الى ان يقول: "والان اراك تشتهي ان تعرف كيفية هذه الاحداث والابداع والصنع والاختراع ولا اراك تستطيع معي صبرا ان جئتك بمر الحق، فلنأت بلمعته تمثيلية تكسر سورة استبعادك المطلق، فاستمع لما يتلى عليك، وخذه اليك... كل موجود تام فإنه يفيض على ما دونه مما في جوهريته وصوره المقوّمة لذاته، قالوا[45] مسك عنه لبطل ذلك الفيض، مثال ذلك النار فإنها تفيض على ما حولها من الاجسام التسخين والحرارة، وهي جوهريتها، والصورة المقومة لها، ومتى لم يتواتر منها الحرارة متصلاً عدمت وبطلت، إذ يضمحل الاولى منها فالاولى، وهكذا يفيض من الماء الرطوبة والبلل على الاجسام المجاورة له، والرطوبة هي جوهرية الماء والصورة المقومة لذاته، فما لم تكن متصلة الى المحل بطلت عنه واضمحلت، وهكذا يفيض من الشمس النور والضياء على الارض والهواء، وهو جوهري لها، فاذا حجز بينهما حاجز اضمحل الضوء وبطل، وهكذا تفيض من الروح الحياة على البدن، وهي جوهرية لها، فإذا فارقت الروح البدن بطلت حياة الجسد من ساعته واضمحلت، وذلك لأن الفيض ما دام متواتراً متصلا دائما دام المفاض عليه، فان انقطع انقطع، فهكذا حكم وجود العالم من الباري سبحانه الذي هو وجود بحت ووجوب صرف، على ان وجود هذه الافعال ليست من هذه المخلوقات، بلى هي أيضاً من الله عز وجل، وانما هي معدات للقابلات، والافاضة من خالقها جل صنعه عن المثال كما جل ذاته عن الوهم والخيال"[46].
ويبيّن السيد أحمد الخوانساري أنَّ الاديان السماوية جاءت بالحدوث الزماني اي الذي يسبقه العدم فقال: (إجماع الملّيين على الحدوث الزماني، لا الحدوث الذاتي، ولا الحدوث الثابت من جهة الحركة الجوهرية)[47].
وبصورة عامة فإنَّ جمع واسع من الفلاسفة كانوا يذهبون الى القول بقدم العالم منهم ارسطو وابرقلس. وهناك من الفلاسفة من كان يذهب الى حدوث العالم منهم: زينون الاكبر ابن فارس، وفلاسفة فاداميا، وهرقل الحكيم، وأبيقورس، والشيخ نصير الدين الطوسي وتلميذه العلامة الحلّي، اما ملا صدرا واتباعه في مدرسة الحكمة المتعالية فحاولوا التقليل من بشاعة مفهوم قدم العالم وأبعاده الشركية فذهبوا الى قول حدوث العالم المادي وقِدم المجردات! طبعاً هم يفترضون وجود مجرّدات واعتبروا العقل والنفس[48] منها! وهذه كلها رؤى فلسفية لم ترد عن طريق آل البيت الاطهار (عليهم السلام) ولذلك كان يجب ان تبقى في الإطار الفلسفي ولا يتم إقحامها في الدين ومعارفه من قبل ملا صدرا ومن سبقه من متصوفة الشيعة وفلاسفتهم، واستنكره علماء الكلام الشيعة ووقفوا بالضد منه!
ومن المفيد ان ننقل ما كتبته د. فاطمة العقيلي وهي تناقش قولهم بقِدَم العالم وتبيّن لا معقوليته فقالت: (إنّ أدلّة القول بقدم العالم لا تثبت أمام النقد، ولا تقف فى وجه المناقشة العلميّة الدقيقة؛ لأنّها مبنيّة على مقدّمات غير يقينيّة وغير ضروريّة مثل: إنّ قدم العلّة يستلزم قدم المعلول، وإنّما ذلك يصحّ إذا كافأ المعلول العلّة، أو كان صادرًا عنها بالضرورة، أمّا والمعلول ليس متكافئً مع العلّة؛ لأنّ العلّة کما صرّح القرآن الكریم لم يكن له كفوا أحدا، وصدور العالم منه على سبيل الإرادة والاختيار، فلا يلزم من قدم العلّة قدم المعلول. وأيضًا مثل ابتناء قدم العالم على قدم مادته، فهذه مصادرة على المطلوب، فهم يقولون، العالم قديم؛ لأنّ مادّته قديمة، وكأنّهم يقولون: العالم قديم؛ لأنّه قديم، ويقولون: لو حدث لسبق بمادته، فكيف يكون حدوث العالم مؤدّيًا إلى قدمه؟ هذه مغالطة واضحة، إنّ معنى حدوثه هو سبقه بالعدم لا سبقه بمادته، أي بنفسه)[49].
رفض علماء الشيعة للقول بقِدَم العالم
وفيما يلي عرض تاريخي موجز لآراء علمائنا الابرار (رضوان الله عليهم) الرافضة للقول بقِدَم العالم، قبل ان تخترقها مدرسة ملا صدرا ابتداءاً من القرن العاشر الهجري ، ونورد فيما يلي اقوالهم بخصوص رفضهم لاعتقاد قِدَم العالم وايضاً حول كون الإرادة والمشيئة صفتي فعل وأنَّ الله سبحانه مختار وليس موجَب[50]:
· في القرن الثالث او الرابع الهجري: كتب أبو اسحاق ابراهيم بن نوبخت في رسالته (الياقوت): (ان فرض قِدم الحادث محال)[51]. وقال: (والصانعُ: قادرُ مختار، وإلا لزم قِدم العالم لقِدَم موجبه وإحالة العالم على فاعلٍ أوجبه الموجب مستفاد البطلان من الشرع وهو كافٍ)[52].
· في القرن الرابع الهجري: كتب الشيخ الصدوق، المتوفى 381هـ، في اعتقاداته: (لم يزل الله تعالى سميعاً بصيراً عليماً حكيماً قادراً عزيزاً حياً قيوماً واحداً قديماً. وهذه صفات ذاته. ولا نقول: إنَّه تعالى لم يزل خلّاقاً فاعلاً شائياً مريداً راضياً ساخطاً رازقاً وهّاباً متكلماً، لأن هذه صفات أفعاله، وهي محدثة، ولا يجوز ان يقال: لم يزل الله تعالى موصوفاً بها)[53].
وذهب الشيخ الصدوق إلى أنَّ الاعتقاد بقِدَمِ غير الله كفرٌ بالإجماع[54]، حيث قال في كتابه (التوحيد): (الدليل على أن الله تعالى عز وجل عالم حي قادر لنفسه لا بعلم وقدرة وحياة هو غيره أنه لو كان عالما بعلم لم يخل علمه من أحد أمرين أما أن يكون قديما أو حادثا، فإن كان حادثا فهو جل ثناؤه قبل حدوث العلم غير عالم، وهذا من صفات النقص، وكل منقوص محدث بما قدمنا، وإن كان قديماً وجب أن يكون غير الله عز وجل قديماً وهذا كفر بالاجماع)[55].
· في القرنين الرابع والخامس الهجري: قال الشيخ المفيد في كتابه (اوائل المقالات): (وأقول: إنّ الله تعالى مريد من جهة السمع والاتباع والتسليم على حسب ما جاء في القرآن، ولا أوجب ذلك من جهة العقول. وأقول: إنَّ ارادة الله تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله، وإرادته لأفعال خلقه أمره بالافعال، وبهذا جاءت الآثار عن أئمة الهدى من آل محمد (عليهم السلام) وهو مذهب سائر الإمامية إلا من شذّ منها عن قرب، وفارق ما كان عليه الأسلاف)[56].
وقال الشيخ المفيد أيضاً: من قال بالقدم خارج عن الملّة[57].
وذهب السيد المرتضى إلى: أنْ لا قديم سوى الله، وما سواه حادث ذو بداية[58].
· وفي القرن الخامس الهجري، قال الشيخ أبو صلاح التقي بن نجم بن عبيد الله الحلبي في رسالته (البرهان على ثبوت الايمان): (وبعلمه سبحانه مريداً لوقوع أفعاله على وجه دون وجه، وفي حال دون اخرى) وقال: (وإرادته فعله)[59].
وقال الشيخ أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجُكي الواسطي في رسالته (البيان عن جُمل اعتقاد أهل الايمان): (اعلم ان الواجب على المكلف أن يعتقد حُدُوث العالم بأسره، وأنّه لم يكن شيئاً قبل وجوده، ويعتقد أنّ الله تعالى هو محدث جميعه)[60]، وقال: (فإرادته لفعل هي الفعل المُراد بعينه، وإرادته لفعل غيره هي أمره بذلك الفعل، وليس تسميتها بالإرادة حقيقةً وإنما هي على مجاز اللغة)[61].
وقال الشيخ أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي المجد الحلبي في رسالته (إشارة السبق): (وعلى كونه فاعلاً مختاراً، لأن الموجب يستحيل تخلف معلوله عنه)[62].
وقال الشيخ ابي أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في رسالته (ثلاثون مسألة في معرفة الله تعالى): (الله تعالى قادر مختار، بمعنى أنَّه إنْ شاء فعل وإن شاء ترك، بدليل أنه ترك إيجاد هذا العالم في وقتٍ وصنعه في آخر)[63].
· في القرن السادس الهجري، قال الشيخ سديد الدين محمود بن علي الحُمّصي الرازي في رسالته (المعتمد من مذهب الشيعة الامامية): (أنّه تعالى أثّر على سبيل القدرة والإختيار لا على سبيل الإيجاب)[64].
· في القرن السابع الهجري، قال العلامة الخواجة نصير الدين الطوسي في كتابه تجريد الاعتقاد: (الثاني في صفاته: وجود العالم بعد عدمه ينفي الايجاب)[65]. وقال: (وتخصيص بعض الممكنات بالايجاد في وقت يدلّ على إرادته تعالى)[66].`
وقال في رسالته (قواعد العقائد): (كل حادث مسبوق بعدم أزلي، ولو كان في الأزال حادث موجوداً لأجتمع وجوده مع عدمه وذلك محال، فإذن يكون في الأزل جميع الحوادث معدومة)[67]. وقال ايضاً: (لا يجوز ان يكون جسم من الاجسام أزلياً لأنه في الازل اما ان يكون متحركاً أو ساكناً وكلاهما محال. أما كونه متحركاً: فلأن الأزل عبارة عن نفي المسبوقية بالغير، والحركة عبارة عن كون المسبوقية بالغير، وهما لا يجتمعان. واما كونه ساكناً فمحال، لأن السكون مع أنّه يقتضي أيضاً المسبوقية، يكون مثله ليس بواجب الوجود، وإذ كان ممكناً كان مسبوقاً بالعدم)[68].
وقال ايضاً: (كل ما سوى الواجب ممكن، وكل ممكن مُحدَث، فكل ما سوى الواجب مُحدَث، سواء كان جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو غيرذلك)[69].
وقال العلامة الحلي في كتابه (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد): (والدليل على انه تعالى قادر أنّا قد بيّنا أنّ العالم حادث، فالمؤثر فيه إن كان موجباً لزم حدوثه أو قدم ما فرضناه حادثاً أعني العالم والتالي بقسميه باطل، بيان الملازمة أنّ المؤثّر الموجب يستحيل تخلف أثره عنه، وذلك يستلزم إمّا قدم العالم وقد فرضناه حادثاً أو حدوث المؤثّر ويلزم التسلسل، فظهر أنّ المؤثّر للعالم قادر مختار)[70].
وقال في (الباب الحادي عشر): (كونه تعالى قادراً مختاراً،... مختارٌ، ولأنه لو كان موجباً لم يتخلف أثره عنه بالضرورة، ويلزم منه: إما قِدَم العالم أو حدوث الله تعالى، وهما باطلان)[71].
"واعتبر العلامة الحلي كلّ ما سوى الله حادثاً"[72]، وقال أيضاً في أجوبة المسائل المهنائية: (من اعتقد قِدم العالم فهو كافرٌ بلا خلاف؛ لأن الفارق بين المسلم والكافر ذلك، وحكمه في الآخرة حكم باقي الكفّار بالإجماع)[73].
· في القرن الثامن الهجري، قال الشهيد الاول الشيخ ابو عبد الله جمال الدين بن محمد بن مكي الدمشقي العاملي الجزيني في رسالته (الطلائعية): (ويجب كونه تعالى قادراً مختاراً للزوم قِدَم العالم لو كان موجباً)[74].
وقال المحقق محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي في رسالته (العقائد الفخرية): (واعتقادنا ان جميع ما سوى الله سبحانه حادث عن العدم، جوهراً كان أو عرضاً بسيطاً أو مركباً. وأنّه لا قديم إلا هو وأنّه واجب الوجود لذاته. وانّه قادرٌ حيّ سميعٌ بصيرٌ غنيٌ أزليٌ أبديٌ مريدٌ كاره متكلم صادق، منزّه عن الجوهرية والعَرَضية وجميع لوازمهما)[75].
وقال في رسالته (ارشاد المسترشدين): (ويجب ان يعتقد أنّه تعالى قادر لا موجب، ونعني بالقادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل وإذا لم يشأ لم يفعل، ونعني بالموجب هو الذي صدور أثره عنه، كالنار فإنه لا يعقل وجود نارٍ بلا إحراق، بل متى وجدت النار وجب الاحراق. وكل مؤثر صدر عنه أثره: إمّا أن يصدر على سبيل الايجاب أو الاختيار، لأنّه: إمّا أن يتمكن من تركه أو لا، فإن تمكن من ترك الفعل فهو القادر، وإلا فهو الموجب. فإذا عرفت ذلك فنقول: لمّا عرفت الموجب ما هو، عرفت أنّه يستحيل أن يوجد الموجب وأثره الذي هو موجبٌ له لذاته معدوم، بل إنما يعدم المعلول لعدم علّته. فلو كان واجب الوجود موجباً لزم من عدم أي شيء كان من العالم بعد وجوده، عدم واجب الوجود وهو ظاهر البطلان. فدل على انه قادر)[76].
وقال الشيخ احمد بن عبد الله بن المتوّج البحراني: (يجب على المكلّفين أن يعلم أنّ العالم حادث لعدم خلوّه عن الحركة والسكون الحادثين،...، وأن يعلم أنّه قادر مختار وإلا لزم قِدَم العالم لقِدَمِهِ، أو حدوثه تعالى لحدوث العالم ومعلوم بطلانهما لما بيّناه)[77].
· في القرن التاسع الهجري، كتب السيد علي بن محمد دقماق الحسيني في رسالته (غاية المأمول الجامعة بين المعقول والمنقول): (لما ثبت أنّ العالم حادث وانّه أثر الباري تعالى، ثبت أنّه قادر مختار، لإستحالة تأخير الأثر عن الموجب وإلا لم يكن علّة تامّة. آخر: لمّا ثبت أنّ الترجيح من غير مرجح محال، وثبت أن العالم ممكن لسبق العدم عليه، نتج أنّه لا بدّ له من موجد: فأمّا حال وجوده فيلزم تحصيل الحاصل وهو محال، أو حال عدمه فيكون الفاعل فيه مختار)[78].
وكتب الشيخ عبد السميع بن فيّاض الاسدي في رسالته (رسالة في أصول الدين): (والدليل العقلي على كونه سبحانه قادراً: حدوث الممكنات وتجدّدها في كلّ آنٍ، ونعني بالقادر هو الذي يمكنه الفعل والترك بخلاف الفاعل الذي يفعل ولا يتمكّن من ترك أثره كالإحراق اللّازم لذات النار، والإشراق الذي لا ينفك عن ذات الشمس، وهذا هو المسمّى بالموجب)[79].
· في القرن العاشر الهجري، كتب المحقق الكركي وهو الشيخ علي بن حسين بن عبد العال، في رسالته (النجميّة في علمي الكلام والفقه على قدر ما لا يسع لأحدٍ جهله): (وبأنّه قادر مختار)[80].
وكتب الشريف النقيب زين الدين علي بن حسن بن علي بن شدقم المدني الحسيني في رسالته (الاعتقادات): (قادر على كل شيء، بدليل أنّ كل ما سواه من السماوات الارض وما بينهما حادث لا قديم، فالله سبحانه خالقه ومُحدِثه)[81].
وكتب شيخ الاسلام عز الدين الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي في رسالته (الواجبات الملكية): (أمّا الثبوتية: فهي أنه حي عالم خالق قادر مختار لإيقاعه أفعاله على نهج السداد بحسب اختياره وإرادته)[82].
· في القرن العاشر الهجري، كتب الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي في رسالته (الاسطنبولية في الواجبات العينية): (ان العالم هو ما سوى الله تعالى حادث ممكن،...، ولزم كونه قادراً مختاراً)[83].
وكتب الشيخ محمد بن الحارث المنصوري الجزائري في رسالته (السيفية، "العقائد المنصورية"): (ويجب ان يعلم ان خالقه قادرٌ مختارُ، لأنه لو كان عاجزاً لم يصدر عنه، ولو لم يكن مختاراً – أي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل – لزم كون أفعاله لازمة له أزلاً، فيكون العالم قديماً، وهو محال، لأن الممكن يستحيل قدمه)[84].
· في القرن الحادي عشر الهجري، كتب الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد العاملي في رسالته (اعتقادات الشيخ البهائي): (فنعتقد ان العالم، أي جميع ما سوى الله سبحانه، حادثٌ عن العَدَم، جوهراً كان أو عَرَضاً، بسيطاً أو مركباً، وأنَّه لا قديم إلا الله)[85].
وكتب ابن ابي جمهور المتوفى حدود القرن العاشر الهجري، في رسالته (مختصر التحفة الكلامية): (مسألة: واجب الوجود قادر مختار، بمعنى أنه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وليس شيء منهما لازماً له، ويقابله الموجب وهو الذي يلزمه الفعل ولا يمكنه الترك كالنار في الإحراق والشمس في الإشراق. فنقول: لو لم يكن قادراً لكان موجباً، وكلّما كان موجباً كان العالم الذي هو اثره لازماً له، وكلّ ما كان العالم لازماً وهو قديم كان العالم قديماً. ينتج لو لم يكن قادراً مختاراً كان العالم قديماً، لكن قِدم العالم محال لأن العالم يتغيّر وكلّ متغيّر ممكن وكل ممكن محتاج الى الغير في الوجود، وكل محتاج الى الغير لا يوجد بنفسه، وكل ما لا يوجد بنفسه يستفيد الوجود من الغير وكلّ ما يستفيد الوجود من الغير كان قبل الوجود معدوماً، وكلّ ما كان قبل الوجود معدوماً فوجوده مسبوق بالعدم، وكل ما كان وجوده مسبوقاً بالعدم فهو حادث، ينتج أنَّ العالم حادث)[86].
وقال القاضي الفيلسوف محمد سعيد القمي: (اعلم ان حدوث الارادة والمشيئة من مقررات طريقة أهل البيت، بل من ضروريات مذهبهم صلوات الله عليهم)[87]. وهذا الكلام مهم لأنه يصدر عن فيلسوف ومع ذلك آثر اتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على فلسفته.
- وفي حوالي نهاية القرن الثاني عشر الهجري عدَّ الشيخ جعفر الجناحي النجفي (1156 - 1227)هـ الاعتقاد بقِدَم العالم وقدم المجرّدات من الكفر حيث قال وهو يعدد النجاسات في كتابه (كشف الغطاء): (ما يترتب عليه الكفربطريق الاستلزام كإنكار بعض الضروريات الإسلامية والمتواترات عن سيّد البريّة، كالقول بالجبر والتفويض والإرجاء والوعد والوعيد وقِدَم العالم وقِدَم المجردات والتجسيم والتشبيه بالحقيقة والحلول والاتحاد، ووحدة الوجود أو اتلموجود أو الاتحاد، أو ثبوت الزمان والمكان أو الكلام النفسي. أو قِدَم القرآن) إلخ[88].
وقد لامَ الفيلسوف المعروف في القرن الثاني عشر إسماعيل الخواجوئي على الحكيم الكبير الميرداماد ربطه بين حديث: وكان عرشه على الماء وبين مسألة الحدوث والقدم[89].
· وفي القرن الثالث عشر، يورد الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 - 1281)هـ في باب القطع: (إجماع جميع الشرائع على حدوث العالم زمانا)[90].
وعدَّ الشيخ محمد حسن النجفي (1192-1266)هـ صاحب الجواهر حين تعداده لكتب الضلال: (ككتب القدماء من الحكماء القائلين بقِدَم العالم)[91].
وفي عالمنا المعاصر: وفي معرض ابطال مذهب ملا صدرا واتباعه القائل بأنًّ (الله مريد غير مختار) – آنف الذكر – تصدى العديد من العلماء والمفكرين لبيان تهافت القول بقدم العالم، وقد نقلنا آنفاً كلام السيد قاسم علي الاحمدي.
كتب الشيخ حسن الميلاني عن عقيدة الشيعة في انَّ إردة الله سبحانه هي فعله، ما نصّه: (فإرادة الله تعالى التكوينية هي نفس فعله وتكوينه وإيجاده للأشياء، وهي نفس إعمال قدرته وإحداثه لما سواه، فبما أنَّ الإرادة والإيجاد والإحداث هي معنى مصدري ومحدث بالذات، فيمتنع أن تكون قديمة وصفة أزليّة لشيءٍ مطلقاً)[92].
وتحدث السيد عزّ الدين الحكيم عن تهافت استدلالهم على قِدَم العالم قائلاً: (قيل ان أقوى أدلتهم في هذا المقام وأهمها هو: انه إذا لاحظنا الواجب أزلاً في طرف وجميع ما عداه – بحيث لا يشذ عنه شيء في طرف آخر، فحينئذٍ إما أن يكون الواجب سبحانه علّة تامة لشيء ما أم لا، وعلى الأول يلزم قدم ذلك الشيء المعلول ضرورة استحالة تخلف المعلول عن علته التامة، وعلى الثاني توقف وجود الأثر – وهو العالَم – على شيء آخر، فهذا – مع كونه خلفاً، لأن المفروض إنا أخذنا العالم بحيث لا يشذ عنه شيء – يرد عليه: أن هذا الشيء إن كان قديماً فقد ثبت أيضاً قدم العالم، وإن كان حادثاً فلا بد له من مرجح حادث وإلا لكان الحادث غير حادث، ثم ننقل الكلام الى ذلك المرجح الحادث في احتياجه الى مرجح آخر حادث، وهكذا الى غير النهاية، فيلزم قدم العالم من وجود حوادث لا أول لها!! وإنْ شئت فقل: إن العالم بما له من الشروط الحادثة المذكورة بحيث لا يشذ عنها شيء إذا لاحظنا الواجب إليه فهو إما علة تامة له أو لا! الأول يثبت المطلوب، والثاني يوجب نفي وجود العالم ازلاً وابداً. مناقشة الاستدلال: وانت ترى أن الاستدلال بهذه الطريقة كما يجري في العالم بجملته بحيث لا يشذ عنه شيء كما قالوا، كذلك يجري في كل جزء من أجزاء الكون، كزيد أو عمرو، وهذه الشجرة أو هذا الحجر أو نحو ذلك، فإننا إذا لاحظناه بمفرده نسبة الى العلة الأولى فإما أن تكون تامة بالنسبة إليه فيلزم قدمه، أو يتوقف على شيء غيره فينتقل الكلام إليه، وهكذا. فهو يؤدي في النتيجة الى القول بقدم كل هذه الموجودات، وليس العالم بمجموعه فقط، ولكن ذلك كما هو واضح مناف لصريح الوجدان الذي لا يقبل الشك في أن هذه الموجودات في عالمنا الذي نعيش فيه حادثة، وأنها كلها كذلك، لا يفرق فيها بين أولها وآخرها، وانها كلها بالنسبة إلى العلة الأولى على حد سواء. والجواب على الاشكال المذكور.. أنه لا شك ولا ريب في أن الخالق الأعظم (جلَّ شانه) تام القدرة منذ الأزل، غني لا يحتاج في ايجاد الموجودات وخلق المخلوقات الى شيء، إلا أن وصف (العلة التامة) لا يصح انتزاعه إلا من حال ما بعد وجود المعلول، لأن الشيء لا يكون علّة إلا إذا كان كذلك بالفعل، ولا يكون كذلك إلا إذا أوجِدَ المعلول. ونظير ذلك ما ورد من ان صفات الخالق والرازق ونحوها هي من صفات الفعل، إذ لا يوصف بصفة الخالق إلا من كان خالقاً بالفعل، وليست من صفات الذات. وكذلك صفة العلة فهي بمنزلة الخالق والرازق، لا يمكن اعتبارها من صفات الذات الأزلية، نعم صفة القدرة التامة من صفات الذات الأزلية، وهي مما لا مانع من أن يتخلف عنها المعلول)[93].
وننقل فيما يلي ما كتبه الشيخ ماجد الكاظمي قال: (هل انَّ ارادة الله جلّ وعلا ذاتية فلا يتخلف المراد عن الارادة؟ ام ان ارادته صفة من صفات الافعال لا من صفات الذات وانه فاعل بالاختيار؟ اقول: هذه احدى نقاط الخلاف بين الفلاسفة والاخرين حيث ان الفلاسفة تبنّوا ان ارادته تعالى عين ذاته وعليه فلا ينفك المراد عن الارادة وحاصله قدم العالم لقدم الذات المقدسة الالهية)، وقال: (ويلاحظ عليه: ان الله جل وعلا مريد مضافاً لكونه مختاراً فليست ارادته منفكة عن اختياره فلا يمتنع ان تكون الارادة "بالمعنى الاتي من العلم" عين الذات وقديمة لكن متعلقها "يعني المراد" يحصل في وقت خاص فكون الارادة عين الذات لا ينافي تعلقها بمراد منفك زمناً عن الارادة فالذات الالهية حسب ما تقدم من الدليل العقلي القاطع قاهرة لا مقهورية ولا مغلوبية فيها. واما اعتبار ان المراد لا ينفك عن الارادة زماناً ووجوداً فمعناه حذف الاختيار عن الذات المقدسة وهو باطل عقلاً وهل يصح ان يكون لنا اختيار ونحن لا نملك من امرنا شيئاً الا ما ملّكنا الله اياه وربنا لا يملك قدرة الاختيار. ! والحاصل فسواء قلنا ان الارادة من صفات الذات ام من صفات الافعال فذلك لا يستلزم صدور الخلائق عنه تعالى بالايجاب لا بالاختيار ولذا ارجع العلماء ارادته تعالى الى صفة العلم وقالوا: "ارادته لأفعال ذاته عبارة عن علمه الموجب لوجود الفعل في وقت دون وقت بسبب اشتماله على مصلحة داعية الى الايجاد في ذلك الوقت دون غيره". هذا الى ان الفاعل بالايجاب لا يسمى مريداً وذلك لأنه مضطر ومقهور على صدور الفعل منه)[94].
وفرّق السيد محمد جعفر المروّج الجزائري بين الفاعل بالايجاب فخصه بأسم العلّة وبين الفاعل بالاختيار حيث قال في ضمن كلام له: (لعدم كونه تعالى علة للكائنات بل هو موجد لها بالارادة والاختيار ولا سنخية بين الواجب والممكن حتى يكون وجود الممكن من مراتب وجوده جلّ وعلا)[95].
القول بقِدَم العالم وتأسيس أفكار شركية
من المؤسف ان القول بقِدَم العالم له لوازم شركية خطيرة قد تكون خفية. فعلى سبيل المثال نقرأ الشبهة المتضمنة في هذا السؤال وهو: أنَّ"هناك من يقول: إن الخلق كله عبارة عن فيض من الباري عز وجل، وهذا الفيض هو من صفات الكمال للذات الإلهية، فلو لم يكن فيض لاستلزم منه النقص في الذات، وبالتالي فإنه لا يُتصور ألوهية من دون وجود خلق، مما يعني - بحسب قولهم وتصريحهم - أن الخلق قديم قِدَم الله عز وجل ـ إن صح التعبير! ويقصدون بالخلق القديم خصوص النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، لأنهم هم المستحقون والمستعدون دائماً لاستقبال الفيض والفضل، وقد تفضل الله وأفاض عليهم الوجود مذ كان إلهاً، فبهم تتحقق ألوهيته تعالى. غاية الأمر أن التقدم بين ألوهيته تعالى، وبين وجودهم عليهم السلام رتبي على حد تعبيرهم، فهو كتقدم حركة اليد على حركة المفتاح وهي تمسك به"[96]. ثم ان الاعتقاد بأن الواحد لا يصدر عنه الا واحد يعني ان الله تبارك تعالى قد صدر عند الصادر الاول وهو الحقيقة المحمدية ومن خلالها صدرت جميع الكائنات، وحيث ان الحقيقة المحمدية قديمة لأنها الفيض الاول والدائم، فتكون الحقيقة المحمدية هي التي خلقت العالم، وتكون عقيدة قدم العالم تعني قدم الحقيقة المحمدية وانها هي التي خلقت العالم!! هذا هو ملخص شبهتهم. وهي افكار شركية واضحة وجليّة تخالف عقيدة وتعاليم الاسلام العظيم بكل وضوح.
وقد أجاب السيد جعفر مرتضى العاملي عن هذه الشبهة ببيان واضح وشافي حيث قال:
(أولاً: إن ما هو من صفات الكمال للذات الإلهية ليس هو فعلية الفيض، بل هو نفس كونه فياضاً بذاته، بالمعنى الذي ذكرناه في إجابتنا على السؤال السابق. سواء أكان هناك فيض فعلاً، أم لم يكن، فإن الفيض قد يحجب بسبب عدم الاستعداد لدى القابل، فعدم الفيض الفعلي دليل عدم توفر شرائطه الوجودية، مما أوجب قصوراً في القابل، لا في الفاعل..
ثانياً: إن الله تعالى قد قدر الأشياء وفق سنن وضوابط. وكل شيء يتطلب الوجود، فإنما يتطلبه وفق ما رسمه الله تعالى، وعلى طبق ما حده له من شرائط وحالات، وما دعت إليه المقتضيات، والمقارنات الزمانية، والمكانية، وغيرها من الشرائط والحالات.. وهذا معناه: أن الموجودات العالية الشريفة لأهل البيت عليهم السلام حين تطلبت التشرف بالفيض الإلهي، فإنما تطلبت ذلك في نشآتها المختلفة، وبحسب ظرفها الخاص بها، ووفق ما لها من شرائط وحالات في ذاتها، أو مع ما هو خارج عنها في امتداد وتعاقب نشآتها، كالخصوصية الزمانية أو المكانية أو غيرها.. ودعوى تحقق هذا الاقتضاء، وحصول تلك الشرائط والحالات لهم عليهم السلام، من حين كان الله جلت عظمته إلهاً، فياضاً، منعماً متكرماً، بحيث، يكون تقدم ألوهيته على وجودهم عليهم السلام رتبياً، تبقى مجرد دعوى، بلا دليل وبلا شاهد، بل الأدلة على خلافها. ولأجل ذلك، فنحن نطالب السائل الكريم بالدليل على ما يدّعيه، من أنهم عليهم السلام مستحقون لهذا الفيض القديم بحيث أن ألوهيته تعالى لا تتحقق إلا بهم، وكيف يمكنه أن يثبت توفر جميع المقتضيات والحالات والشرائط والخصوصيات وغيرها لهم عليهم السلام من حين كان الله تعالى إلهاً.. فإنه إنما يدّعي أمراً لم يشهده، ولا يصح الحدس والتخمين فيه..
ثالثاً: إن الالتزام بتعدد القديم، وبأن التقدم رتبي، مع كون المقصود هو مرحلة الوجود الفعلي، والتحقق العيني الخارجي كما يظهر من سياق السؤال ـ إن ذلك ـ يختزن ـ على أقل تقدير ـ الاقتراب من محذور الشرك، والعياذ بالله، و{..إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وهذا أمر في غاية الوضوح والبداهة.. إذ لا يمكن تفسير ذلك في مرحلة التحقق العيني الخارجي، في ظرف الزمان والمكان إلا على أحد وجهين، كل منهما شرك أو كفر: أحدهما: أن يقال: إن وجود النبي صلى الله عليه وآله، والأئمة عليهم السلام الفعلي الحقيقي، وفي ظرف التحقق الخارجي، إذا انضم إلى حقيقة أن النبي والأئمة عليهم السلام، مُحْدَثون، وبأن لوجودهم في ظرف الخارج بداية، فإنه ينتج: أن الله سبحانه وتعالى مُحْدَث، ولوجوده بداية أيضاً. لأنهم يدَّعون: أنه تعالى مذ كان إلهاً، كان مقتضياً للفيض، وهم عليهم السلام أهل لهذا الفيض، فوجودهم مقارن لتحقق ألوهيته، بل هو ـ حسب دعواهم ـ من موجبات تحقق اتصاف ذاته تعالى بصفات الألوهية، وسبب وجدانها لكمالاتها. والفرق بينهما رتبي كالفرق بين حركة المفتاح وحركة اليد التي تمسك به، لأن ألوهيته من حين تحققها قد تحققت مفيضة للوجود الفعلي الخارجي عليهم صلوات الله عليهم، إفاضة فعلية عينية، فإذا كانت ألوهيته تعالى مقارنة لوجودهم، لأنها متوقفة عليه، وكان لوجودهم بداية لأنهم مُحْدَثون، فلألوهيته تعالى بداية، وتصير مُحْدثة أيضاً، وتصير الألوهية مسبوقة بالعدم، وقد مر زمان لم يكن هناك إله أصلاً.. فاتضح أن اتصاف الله سبحانه وتعالى بصفات الكمال، وبأسمائه الحسنى، لا يتوقف على مخلوقاته، وإن القول بتوقفه عليها هو الكفر الصريح.. الثاني: إن القول بأن للنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام وجوداً عينياً حقيقياً مع الذات الإلهية، وقديماً بقدمها، قبل خلق الزمان وبعده، بحيث إنه لولا وجودهم لم تتصف الذات الإلهية بصفاتها، ولا بأسمائها، مما يعني أنهم عليهم السلام لا أول لهم، ـ ان القول بذلك، معناه: أنهم عليهم السلام غير مُحْدَثين، وغير مخلوقين له تعالى.. فيلزم من ذلك تعدد القديم بالذات، وهذا شرك صريح؛ لأنه ليس فقط يكون هذا القديم غنياً عن الله تعالى، بل يصبح اتصاف الذات الإلهية بصفاتها، وبأسمائها موقوفاً عليه حسبما صرحت به كلماتهم.. فادعاء أن الله هو المفيض للوجود عليهم، وأن الفرق بينهم وبينه، أنهم موجودون بالغير، وهو موجود بالذات.. يصبح هذا الادعاء بلا معنى، ولا مبرر، بل إن القول بأن ألوهيته تعالى إنما تتحقق بهم، يستبطن إبطال القول بأنه تعالى هو المُوْجِد لهم.
رابعاً: إن الروايات الكثيرة تدل على أنهم عليهم السلام إنما استحقوا الفيض الإيجادي[97] في وقت بعينه، وقد صرحت بذلك الروايات الشريفة وحددته بتحديدات، وهي وإن كانت مختلفة، لكنها مع اختلافها هذا، متفقة على أن بدء تدرجهم في مراتب الوجودات والنشآت المختلفة قد كان في وقت بعينه. وفي تلك النصوص أرقام، لوحظت قبل خلق العرش تارة، وقبل خلق النبي آدم عليه السلام أخرى، وقبل الدنيا ثالثة، وقبل الملائكة رابعة، وقبل الخلق خامسة، وهكذا.. ولعل سبب اختلاف تلك الأرقام هو اختلاف النشآت، والتقلبات فيها، وفي مراتبها الكثيرة والمتنوعة.. ونحن نذكر فيما يلي طائفة من تلك النصوص.. فنقول:
1 ـ قد ذكرت بعض الروايات عن الإمام علي عليه السلام: أن الله سبحانه كان ولا شيء معه، فأول ما خلق نور نبيه قبل خلق الماء، والعرش، والكرسي، والسماوات، والأرض، واللوح، والقلم، والجنة، والنار.. وقبل خلق الأنبياء كلهم بأربع مائة ألف سنة وأربع وعشرين ألف سنة، وخلق عز وجل معه اثني عشر حجاباً: حجاب القدرة، الخ.
2 ـ وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام: كنا أشباح نور حول العرش، نسبح الله قبل أن يخلق آدم عليه السلام بخمسة عشر ألف عام.
3 ـ وفي نص آخر عن النبي صلى الله عليه وآله: خلقني الله نوراً تحت العرش، قبل أن يخلق آدم باثني عشر ألف سنة.
4 ـ وفي نص آخر: أنهم عليهم السلام قبل آدم: «موجودون في غامض علم الله، قبل أن يخلق بأربعة آلاف سنة».
5 ـ عنه صلى الله عليه وآله، أنه قال: إن الله خلقني، وعلياً، وفاطمة، والحسن، والحسين، من قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام.
6 ـ عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: إن الله تبارك وتعالى خلق أربعة عشر نوراً، قبل خلق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا الخ..
وروي ذلك عن الإمام الباقر عليه السلام أيضاً...
7 ـ عن أبي ذر، عنه صلى الله عليه وآله: خلقت أنا وعلي بن أبي طالب، من نور واحد، نسبح الله يمنة العرش، قبل أن خلق آدم بألفي عام..
وهناك رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله بهذا المعنى..
ورواية ثالثة عن أبي سعيد الخدري، عنه صلى الله عليه وآله، وهي تارة تقول: قبل خلق آدم.. وأخرى قبل خلق العرش، وثالثة قبل المخلوقات.
8 ـ عن الصادق عليه السلام، أنه قال: إن محمداً، وعلياً صلوات الله عليهما، كانا نوراً بين يدي الله جل جلاله، قبل خلق الخلق بألفي عام[98].
9 ـ وعن أبي جعفر الثاني عليه السلام قال: إن الله تعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً، وعلياً، وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها.. الخ.
10 ـ وروي عنهم عليهم السلام: إن الله خلقنا قبل الخلق بألفي عام، فسبحنا، فسبحت الملائكة لتسبيحنا.
11 ـ وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وآله: إن علياً خلق قبل آدم بأربعين ألف سنة.
ومن جهة أخرى: فقد دلت الروايات على أنه قد كان الله ولا شيء معه، وأنه لا شيء معه في بقائه، فلاحظ بالإضافة إلى ما تقدم من أنه تعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً.. الخ. الأحاديث التالية:
12 ـ في إجابة على سؤال عن أسمائه تعالى، قال أبو جعفر الثاني عليه السلام: إن قلت: إنها لم تزل في علم الله، وهو مستحقها، فنعم. وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها، وتقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره. بل كان الله، ولا معه خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرعون بها إليه.
13 ـ وهناك حديث: كان الله ولا شيء غيره، ولا معلوم ولا مجهول..
وهذا المعنى متكرر في الأحاديث الشريفة.
14 ـ عن الإمام الرضا عليه السلام: إن الله قديم، والقدم صفة دلت العاقل على أنه لا شيء قبله، ولا شيء معه في ديموميته.. فقد بان لنا بإقرار العامة: أنه لا شيء قبل الله، ولا شيء مع الله في بقائه.
15 ـ سئل الإمام العسكري عليه السلام عن التوحيد، فقال: لم يزل الله وحده، لا شيء معه، ثم خلق الأشياء، الخ...
16 ـ سئل أبو الحسن علي بن محمد عليهما السلام، فقيل: لم يزل الله وحده، لا شيء معه، ثم خلق الأشياء بديعاً به، واختار لنفسه أحسن الأشياء، أو لم تزل الأسماء والحروف معه ؟! فكتب عليه السلام: لم يزل موجوداً، ثم كوَّن ما أراد...
17 ـ عن الإمام الباقر عليه السلام: كان الله، ولا شيء غيره، نوراً لا ظلام فيه.. وروي نحوه في رواية أخرى أيضاً...
وحسبنا ما ذكرناه، فإن الأحاديث التي تدخل في هذا السياق كثيرة ومتنوعة..)[99].
((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))
الآية (29) من سورة الرحمن (جلَّ جلاله) تكشف لنا بعداً ربما لم يلحظه القائلون بقدم العالم. حيث إننا نعلم أنَّ علم الله سبحانه ليس له حد، وكذلك قدرته العظيمة في كل شؤون الألوهية. ونحن كبشر تعودنا على التفكير بعقلنا المادي، ولذلك يظن البعض أنَّ الخلق هو أول فعل من أفعاله سبحانه وتعالى! نعم ربما يكون أول فعل فيما يخص عالمنا المادي، ولكن بعض البشر بعقلهم القاصر لا يمكن أن يتصوروا أن هناك شؤوناً إلهية غير الخلق لا يمكن أن ندركها بعقولنا، دلَّ عليها علمه اللامحدود سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن نعرف كنهها، ولا يمكن لنا حتى تصورها. فعقل الانسان على سبيل المثال لا يمكن أن يتصور وجوداً بدون خلق! كما لا يمكنهم تصور وجود بدون مكان وزمان! ولذلك يذهب بعض الملاحدة الى السؤال الخطأ الذي يقول: (مَنْ خَلَقَ اللهَ) والذي أجبنا عنه وبيّنا خطأه في كتابنا المطبوع (نشوء الكون وحقيقة الخلق) ومختصره أنَّ هذا السؤال الخطأ ظهر لأنَّهم لم يتمكنوا ان يتصوروا وجوداً بلا "خلق"، فالله سبحانه بقدرته العظيمة هو الذي أوجد معجزة الخلق كما أنَّ له شؤوناً أخرى متعلقة بعلمه غير المحدود، لا نعلمها ولا يمكننا ذلك بحدود ادراكاتنا الماديّة المحدودة التي خلقها الله تعالى لنا. ففي عالم الألوهية لم يكن هناك خلق ولا مادة ولا مكان ولا زمان. وكذلك هؤلاء يظنون أن الله سبحانه إذا كان موجوداً بدون خلق الأشياء فذلك يعني التعطيل له تعالى عمّا يصفون. وهم بذلك لا يدركون أنَّ شأن الخلق ليس هو الشأن الوحيد له تبارك وتعالى، فالإله قديم وأزلي، وقبل أن يخلق أي شي هو موجود وله شؤون دلَّ عليها علمه اللامحدود، فما أدرانا بشؤونه التي لا يمكن لنا تصورها ولا تعقلها بعقلنا المادّي! والله العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] أضواء على النافع يوم الحشر في شرك الباب الحادي عشر / الشيخ حيدر الوكيل / الناشر باقيات في قم المقدسة، 2013م – ص43.
[2] أزلية العالم ودور الإله عند أبن رشد / الدكتور حسام محي الدين الآلوسي / المركز العلمي العراقي في بغداد / دار ومكتبة البصائر في بيروت / الطبعة الأولى، 2010م – ص73.
[3] المصدر السابق – ص74.
[4] وللإنصاف نذكر انَّ أبن رشد لم يكن يقبل بنظرية الصادر الأول (الواحد لا يصنع الا واحداً)، ومع ذلك فهو من القائلين بقِدَم العالم! أنظر: المصدر السابق – ص82.
[5] المصدر السابق.
[6] وجود العالم بعد العدم عند الإمامية / السيد قاسم علي الأحمدي – ص28 و29.
[7] المصدر السابق – ص24.
[8] المصدر السابق – ص25 و26.
[9] الافاضة او الفيض تعبير فلسفي صوفي يطلقونه لتجنب الاعتراف بالخلق، لأن الخلق يحمل معنى المباينة بين الخالق والمخلوق، وهو الحق، في حين معنى الافاضة او الفيض أن ذات الخالق ينبع منها المخلوق تناغماً مع مفهومهم بوحدة الوجود!!
[10] محي الدين بن عربي / الدكتور محسن جهانگيري – ص346.
[11] المصدر السابق.
[12] محي الدين بن عربي / الدكتور محسن جهانگيري – ص349 و350.
[13] سورة ق، الآية (38).
[14] سورة الانسان، الآية (28).
[15] سورة الرعد، الآية (39).
[16] سورة الزمر الاية (62).
[17] سورة الزمر، الآية (68).
[18] سورة البروج، الآية (16).
[19] سورة الفرقان الآية (2).
[20] سورة الانسان، الآية (28).
[21] التوحيد / الشيخ الصدوق / تحقيق هاشم حسيني طهراني / جماعة المدرسين فى الحوزة العلمية – قم المشرّفة / الطبعة الاولى - ص١٤٦.
[22] المصدر السابق – ص147.
[23] المصدر السابق – ص148.
[24] أزلية العالم ودور الإله عند أبن رشد / الدكتور حسام محي الدين الآلوسي – ص51.
[25] الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة / ابن رشد / الناشر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت / الطبعة الاولى 1998م –ص114.
[26] درء تعارض العقل والنقل / ابن تيمية / تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم / جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية / الطبعة الثانية 1991م – ج3 ص11.
[27] تراث الاسلام / د. حسن نافعة وكليفورد بوزورث / ترجمة د. حسين مؤنس و د. إحسان صدقي العمد / مراجعة د. فؤاد زكريا / منشورات عالم المعرفة يونيو 1998م – ج2 هامش رقم (30) ص236.
[28] الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة / ابن رشد – ص138.
[29] الصحيح هو أن يقول: لا من شيء.
[30] أزلية العالم ودور الإله عند أبن رشد / الدكتور حسام محي الدين الآلوسي – ص56.
[31] اسرار الآيات / صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازي ت1050هـ / تعليقات حكيم مولى علي نوري - ص89.
[32] المصدر السابق - ص91 و92.
[33] وجود العالم بعد العدم عند الإمامية / السيد قاسم علي الأحمدي – ص34 و35.
[34] وجود العالم بعد العدم عند الإمامية / السيد قاسم علي الأحمدي – ص36 و37.
[35] بحار الأنوار / العلامة المجلسي / تحقيق محمد تقي اليزدي ، محمد الباقر البهبودي / دار إحيار التراث العربي في بيروت / الطبعة الثالثة المصححة، 1983م - ج54 هامش ص٢٤٦.
[36] الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة / صدر الدين الشيرازي – ج5 ص212 و213.
[37] المصدر السابق – ج5 ص216.
[38] المصدر السابق – ج5 ص222.
[39] المصدر السابق – ج5 ص223.
[40] المصدر السابق – ج5 ص232.
[41] مقال بعنوان (إعادة النصاب، قراءة نقديّة لمقالة – العقل والدين بين المحدّث والحكيم) بقلم الشيخ علي ملكي الميانجي، ترجمة محمد عبد الرزاق، منشور في موقع نصوص معاصرة الالكتروني بتاريخ 16 اغسطس 2014م. وأيضاً المقال منشور في مجلة نصوص معاصرة، العدد 7.
[42] علّق احد الاخوة قائلاً: (هنالك أمر يتعلق بمسألة القدم وهي تصور أن سهم الزمان يسير باتجاه واحد فقط، أي لا بد من بداية له ويتجه نحو نهاية، وهو ما اعتاد عليه البشر. ولكن بلحاظ أن الزمن خلق من خلق الله تعالى وأنه سبحانه محيط إحاطة تامة به، والزمن نسبي (بناء على مفاهيم الإسلام والعلم الحديث) وليس مطلقاً فإنه يمكن تصور الزمن أمام الله تعالى كتصور الأماكن عندنا ونسبية بعدها وقربها عنا. فما يكون قريبا علينا يكون بعيدا على غيرنا والعكس صحيح، أي لا يوجد مكان أول بصورة مطلقة أو مكان أخير كذلك. ولهذا فإن الزمان كله هو بمرأى من الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً ولا يوجد عنده أزمنة ماضية وحاضرة ومستقبلة ولا زمان قريب وآخر بعيد ولا بداية ونهاية حقيقية للزمان أمامه سبحانه وتعالى، بل هي نسبية متعلقة بالمخلوقات. وبهذا سيسقط القول بضرورة قدم العالم لأنه مبني على حاكمية الزمان أو ضرورة وجود حقيقي لسهم الزمان الذي له بداية ويسير باتجاه واحد نحو النهاية. أي حتى لو قيل بضرورة قدم الفيض الإلهي أو قدم الخلق فهو مبني أيضاً على تصور وجود بداية حقيقية للزمان عند الله تعالى، وهذا ما لا نقبل به.).
[43] رسائل في الفلسفة / ضبط وتصحيح الشيخ عمار التميمي – ص185.
[44] المصدر السابق – ص190.
[45] هكذا في المصدر، وربما الاصح: فلو.
[46] المصدر السابق – ص192 و193.
[47] المصدر السابق.
[48] اعتبروا تجرّد النفس تجرّد ناقص وتجرّد العقل تجرّد تام! وقسّموا مراتب العقل الى أربعة مراتب أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ بِحَسَبِ مَرَاتِبِ تَجَرُّدِهِ مِنْ الأَدْنَى إِلَى الأَعْلَى: العَقْلُ الهَيُولِيُّ - العَقْلُ بِالمَلَكَةِ - العَقْلُ بِالفِعْلِ - العَقْلُ المُسْتفَادُ. {المصدر: الموقع الالكتروني مركز الرصد العقائدي، تحت عنوان (مَصَادِيقُ المُجَرَّدَاتِ)}!!
[49] الموقع الالكتروني المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية، التابع للعتبة العباسية المقدسة / مقال بعنوان (الحدوث والقدم عند ملا صدرا وابن ميمون؛ دراسة مقارنة)، بقلم د. فاطمة العقيلي، منشور عبر الرابط:
https://www.iicss.iq/?id=40&sid=382#_ftn41
[50] موجَب: لفظ استخدمه الفلاسفة للتعبير عن أمور يفعلها الإله بدون إختيار منه بل هي واجبة الحدوث عليه بزعمهم!! تعالى الله عمّا يصفون علواً كبيراً.
[51] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص147.
[52] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص149.
[53] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص95، نقلاً عن الرسالة الاعتقادية الثالثة للشيخ الصدوق والمعروفة بـ (اعتقادات الصدوق).
[54] مقال بعنوان (إعادة النصاب، قراءة نقديّة لمقالة – العقل والدين بين المحدّث والحكيم) بقلم الشيخ علي ملكي الميانجي، ترجمة محمد عبد الرزاق، منشور في موقع نصوص معاصرة الالكتروني بتاريخ 16 اغسطس 2014م. وأيضاً المقال منشور في مجلة نصوص معاصرة، العدد 7.
[55] التوحيد / الشيخ الصدوق / صححه وعلّق عليه السيد هاشم الحسيني الطهراني / دار المعرفة – ص223، كلامه في نهاية باب (أسماء الله تعالى ، والفرق بين معانيها وبين معاني أسماء المخلوقين).
[56] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص206 و207.
[57] مقال بعنوان (إعادة النصاب، قراءة نقديّة لمقالة – العقل والدين بين المحدّث والحكيم) بقلم الشيخ علي ملكي الميانجي، ترجمة محمد عبد الرزاق، منشور في موقع نصوص معاصرة الالكتروني بتاريخ 16 اغسطس 2014م. وأيضاً المقال منشور في مجلة نصوص معاصرة، العدد 7.
[58] المصدر السابق.
[59] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص279.
[60] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص295.
[61] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص296.
[62] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص307.
[63] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص347.
[64] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص371.
[65] كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلامة الحلي – ص393.
[66] كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلامة الحلي – ص401.
[67] عقيدة الشيعة / جمع الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص423.
[68] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص423 و424.
[69] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج1 ص424.
[70] كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلامة الحلي – ص393.
[71] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص590 و591.
[72] مقال بعنوان (إعادة النصاب، قراءة نقديّة لمقالة – العقل والدين بين المحدّث والحكيم) بقلم الشيخ علي ملكي الميانجي، ترجمة محمد عبد الرزاق، منشور في موقع نصوص معاصرة الالكتروني بتاريخ 16 اغسطس 2014م. وأيضاً المقال منشور في مجلة نصوص معاصرة، العدد 7.
[73] أجوبة المسائل المهنائية / العلامة الحلّي / مطبعة الخَيام في قم المقدسة 1401هـ - مسألة (138)، ص88.
[74] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص543.
[75] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص653.
[76] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص667.
[77] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص707.
[78] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص733.
[79] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص754.
[80] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص904.
[81] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص910.
[82] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص923 و924.
[83] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص932.
[84] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص947.
[85] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص937.
[86] عقيدة الشيعة / جمع وتحقيق وتقديم الشيخ محمد رضا الانصاري – ج2 ص957 و958.
[87] شرح المشاعر / الشيخ احمد الاحسائي – ج1 كلمة التحقيق ص9 نقلاً عن شرح العرشية.
[88] كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء / جعفر بن خضر بن يحيى الجناحي الحلّي النجفي المعروف بكاشف الغطاء / مؤسسة بوستان كتاب، 1422هـ - ج2 ص356.
[89] مقال بعنوان (إعادة النصاب، قراءة نقديّة لمقالة – العقل والدين بين المحدّث والحكيم) بقلم الشيخ علي ملكي الميانجي، ترجمة محمد عبد الرزاق، منشور في موقع نصوص معاصرة الالكتروني بتاريخ 16 اغسطس 2014م. وأيضاً المقال منشور في مجلة نصوص معاصرة، العدد 7.
[90] فرائد الاصول / الشيخ مرتضى الانصاري / تحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم / مطبعة گل وردى في قم المقدسة / الطبعة الثالثة والعشرون، 1438هـ - ج1 ص57.
[91] جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام / الشيخ محمد حسن النجفي / تحقيق علي آخوندی / دار إحياء التراث العربي - ج22 ص59.
[92] معرفة الله تعالى بالله / الشيخ حسن الميلاني / مكتبة الامام الحسين (عليه السلام) التخصصية / الطبعة الثالثة، 2014م – 385.
[93] بحوث في الفكر والعقيدة / السيد عز الدين الطباطبائي الحكيم / دار الهلال / الطبعة الاولى 2016م – ص256- 258.
[94] الرؤية الفلسفية / الشيخ ماجد الكاظمي - ص156 و157.
[95] منتهى الدراية في شرح الكفاية / السيد محمد جعفر الجزائري المروج – ج7 ص291.
[96] مختصر مفيد.. ( أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة )، السيد جعفر مرتضى العاملي، «المجموعة الثامنة»، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1424 هـ ـ 2004 م، السؤال (433). ج8 ص20
[97] لا اعرف لماذا استخدم سيد جعفر مرتضى العاملي هنا تعبير (الفيض الايجادي) ولم يستخدم تعبير (الخلق)! مع إنَّه من تعابير مدرسة ملا صدرا الصوفيّة!
[98] وجدت هذه الرواية في بحار الانوار ينقلها عن معاني الاخبار، وعندما راجعت النسخة المطبوعة من معاني الاخبار لم اعثر عليها!!
[99] الموقع الالكتروني للسيد جعفر مرتضى العاملي، السؤال (433) تحت عنوان (القول بالتقدم الرتبي اقتراب من الشرك)، عبر الرابط: http://www.al-ameli.com/edara/subject.php?id=633
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat