تأملات في ايات التبليغ في القصة القرآنية قصة نوح في سورة هود أنموذجاً
جعفر المحمدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جعفر المحمدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تحتل الآيات القرآنية ثقلاً كبيراً ومساحة كبيرة في اللغة العربية لان فصاحة اي نص وبلاغته تقاس بالآيات القرآنية بل يعد القران الكريم الحافظ للغة العربية من الانحلال والاضمحلال ولا ابالغ إذا قلت لم يبق مرتكز نعتمد عليه في حفظ اللغة الا القران الكريم واياته البينات لأن ابناء لغة الضاد ضاعوا بين اللهجات ونسوا لغتهم العربية –كما تشرذموا في الخلافات والنزاعات العقدية وهذا الامر سبب اخر في ضياع لغتهم- وبقي القرآن الكريم الجامع الوحيد لهم فحتى تأريخهم– واقصد الادبي والديني لما يشمل من معاني البلاغة والفصاحة- قد ضيعوه بالزور والتدليس بل وصل الامر الى الاحاديث النبوية الشريفة فقد ضعفوا بعضها عن البعض ورجحوا الاخر ولم يأخذوا بقياس قوة بلاغتها واصالة اسلوبها وصدق دلالتها- بل وصل الامر فيها الى التدليس فيها من اجل غايات حكامهم ونصرةً لمذاهبهم..
وليس هذا مورد مقالي وانما اردت التأكيد على ان القرآن الكريم هو الركيزة الاساس الباقية في حفظ اللغة العربية بل وفهم معانيها ومدلولاتها..
ونحن اليوم نعرض نموذجاً من قوة الطرح القراني والمتمثل في اسلوبه القصصي وقد اخذنا ايات التبليغ من خلال القصص القراني ولا يسعنا في هذا المقال الا استعراض قصة واحدة في سورة واحدة لبيان ايات التبليغ فيها الا وهي قصة نوح (ع) سورة هود (ع) واعتمدنا اساساً تفسير الكشاف للشيخ محمد جواد مغنية كما استعنا بمختصر الامثل الماخوذ من تفسير الامثل للشيخ مكارم الشيرازي وتفسير مجمع البيان للطبرسي...
سورة هود سورة مكية، نزلت بعد سورة يونس، وهي بعدها في ترتيب المصحف, وعدد آياتها 123 آية لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس ونزلت يونس بعد الإسراء وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها, وهي من أحرج الفترات وأشقها في تاريخ الدعوة بمكة فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة (عليهما السلام).
من ناحية اخرى تجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها إذ ضعفت شوكة النبي (ص) وذلك بسبب فقد الركنين الاساسيين في كل دعوة بل وكل حكومة منذ بدء الخليقة ولحد اليوم وهما ما يكوّن اليوم بالامن القومي واقصد بهما الجانب الاقتصادي والجانب الامني فقد كان ابو طالب (ع) يمثل الغطاء الامني بدبلوماسيته المعهوده وكانت السيدة خديجة تمثل الجانب المالي, لذا قل من يدعمه (ص) بموتهما إذ المدافع الابرز- على الساحة السياسية والامنية- عن دعوة الاسلام الذي قدم ذاته واولاده وناصر بكل ما أوتي من قوة بالطرق الدبلوماسية مما جعل منه حامياً للدعوة ولصاحبها (ص) قد رحل لذا كانت الخسارة كبيرة الوقع, وإليك بعض ما صرح به صادحاً في سبيل الدعوة:
واللهِ لن يَصلوا إليكَ بجمعِهمْ حتى أُوَسَّدَ في الترابِ دَفينا
فاصدَعْ بأمرِك ما عليكَ غَضاضــةٌ وأبشِرْ بذاكَ،وقرَّ منهُ عُيونا
ودَعَوْتَني، وزَعمتَ أنك ناصحٌ ولقد صدقْتَ،وكنتَ ثَمَّ أَمينا
وعَرضْتَ دِيناً قد علمتُ بأنَّهُ مِن خيرِ أديـــانِ البريَّةِ دِينا
لولا المَلامةُ أو حِذاري سُبَّةً لوجَدْتني سَـــمحاً بذاك مُبِينا
اما السيدة خديجة (ع) التي كانت اموالها توفر الجانب الاقتصادي للدعوة , إذ جعلت اموالها في خدمة النبي (ص) وتحت تصرفه هذا موقف مشرف يبين لنا مدى ثقل هذه الشخصية في الاسلام.
ورد في سورة هود في مطلعها قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)) «[1]»
أشارت الاية الاولى الى ان هذا القران احكمت اياته (( والمعنى ان هذا القرآن واضح المعاني محكم النظم , لانقص فيه ولا خلل, لانه ممن يقّدر الامور ويدبرها على اساس العلم والحكمة)) «[2]» ثم اشارت للتبليغ فالظاهر انها تقول يامحمد (ص) ما انت الا (( نذير بالعقاب على المعصية, وبشير بالثواب على الطاعة)) «[3]» فها هي مقدمة سورة هود تشير بوضوح على اهمية التبليغ من خلال ركني الانذار والتبشير مستنداً على الترغيب والترهيب, فمن يعمل صالحاً يتمتع في هذه الدنيا, وما ارى التمتع في الحياة الدنيا الا راحةً للضمير ونحن اليوم نشاهد من عمل صالحاً يكن ضميره مرتاحاً ما دام في الدنيا اما جزاؤه الاخروي (يؤتِ كل ذي فضل فضله) ولا ادري ما هو فضل الانسان حتى يؤتاه فكل النعم التي تحيط به هي من الله -سبحانه وتعالى- وهذا هو الترغيب في هذه الايات المباركة اما الترهيب فهو تخويفهم من شدة العذاب وطول امده إذ انه يشير الى ان طول امده يوم كما هو بين في قوله تعالى (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) «[4]» واليوم لم يكن بالحساب البشري فلو كان يوماً اعتيادياً لهان الامر لكن كلمة يوم في اللفظ القرآني تدل على قياس يقاس بالسنين الربانية قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) «[5]»
وذكرت سورة هود التبليغ بلفظ الانذار في الاية الثانية عشر قال تعالى (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) «[6]» يورد الفضل بن الحسن الطبرسي ومكارم الشيرازي في تفسيرهما روايتين في سبب نزول هذه الاية الاولى ((روي عن ابن عباس أن رؤساء مكة من قريش أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا يا محمد إن كنت رسولا فحول لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة فأنزل الله تعالى « فلعلك تارك » الآية )) «[7]»
والرواية الثانية ((عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لعلي (عليه السلام) إني سألت ربي أن يؤاخي بيني و بينك ففعل و سألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل فقال بعض القوم: و الله لصاع من تمر في شن بال أحب إلينا مما سأل محمد ربه فهلا سأله ملكا يعضده على عدوه أو كنزا يستعين به على فاقته فنزلت الآية))«[8]».
وما يهمني هنا هو الرواية الثانية فقد صدح النبي (ص) مبلغاً عن توليته لعلي (ع) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) «[9]».
ولا اغالي اذ اقول ان التبليغ ارتبط بالامام علي (ع) فأية التبليغ واضحة المعالم في الاشارة الى تولية امير المؤمنين (ع) ليكمل المسيرة بعد النبي الاكرم (ص) .
كما لا ننسى تبليغ سورة براءة إذ روى ((الترمذي في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ببراءة مع أبي بكر ، ثم دعاه فقال : لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا ، إلا رجل من أهلي ، فدعا عليا ، فأعطاه إياه )) «[10]».
وروي ايضاً ((إن علياً (ع) اخذ ما حمل رسول الله (ص) مع ابي بكر بإذن رسول الله (ص) من سورة براءة , وهو اربعون من صدرها , بعدما توجه الى مكة فكان اخذها منه بذي الحليفة , وان رسول الله (ص) قال : لا يبلغ عني غيري)) «[11]».
اما صاحب تفسير الكاشف يذهب الى يقول في تفسير هذه الاية (( كان النبي (ص) يتلو على المشركين آيات من القرآن داعيا الى الإيمان والوحدانية البعث, وكانوا يهزءون حيناً , وحيناً يقترحون عيه معجزات تعنتاً لا استرشاداً, وكان موقفهم هذا من دعوة النبي (ص) يحزنه ويؤلمه, فقال له المولى جل ثناؤه مخففاً عنه: إمضِ في دعوتك لاتبال فيما يقولون ويقترحون)) «[12]»
ونحن نؤيد ما ذهب إليه الشيخ محمد جواد مغنية ونبين كذلك ان دعوة النبي الكرم (ص) هي دعوة لها عمق تاريخي وهذه الايات اشارت الى انها دعوة غير مبتدعة ولا قولاً غير مسبوق فقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهم –عليهم صلوات من ربهم-, وكل هؤلاء الانبياء والرسل في مسار واحد ودليل ذلك هو عرض مواقف الانبياء والرسل (ع) وهم يتلقون الإعراض والتكذيب والسخرية والاستهزاء والتهديد والإيذاء بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق وايمانهم بتدمير مكذبين وبنجاة المؤمنين لكن النبي بعث رحمة فمهما حاولوا استفزازه تراه ينقلب الى ربه يدعو لهم بالهداية والصلاح..
وتجدر الإشارة أن سورة هود تحتوي على أطول قصة لسيدنا نوح في القرآن -حتى أنها أطول من سورة نوح نفسها-، وتظهر ان نبي الله نوح (ع) استمر في دعوة قومه دون أن يستجيبوا لـه، فيكون بذلك مثالاً وقدوة في الاستقامة وعدم اليأس رغم السنين الطوال التي قدرها الف سنة الا خمســـين عاماً كما عبر عن ذلك الامام الصادق (ع) إذ قال: ((عاش نوح (ع) الفي وخمســـــمائة سنة منها ثمانمائة وخمســـــون قبل ان يبعث , والف سنة الا خمســــين عامـــــاً وهو في قومه يدعوهم ....)) «[13]»
وهذا ظاهر الاية ان القصة القرانية في سورة هود اوحت الى ان التلبيغ هو المراد من القصة فالابتداء في سرد القصة هو الانذار –كما ابتدأت السورة بالانذار- قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) «[14]»
وهذا هو المراد الحقيقي من القصة القرانية ولم يكن القران الكريم كتاباً قصصياً لاجل الترفية او المطالعة كما هو حال باقي الكتب في الدنيا بل حتى ان الكتاب المقدسة في الديانتين اليهودية والمسيحية يكون سرد القصة مهماً لاجل القصة لا لاجل التبليغ والانذار وهذا ما اعطى للقران الكريم مميزات ورصانة في طرح القصة..
وتختم القصة بعد استعراض رائع لمراحل الدعوة والانذار بالعقاب للقوم المعرضين, والاهم هنا ان العقوبة لم تأتِ إلاّ بعد الإنذار والتحذير ، والله سبحانه وتعالى يرسل الرسل يعلمون الناس السبيل المستقيم ، ويخوفونهم الخروج عن الحق واتباع الأهواء وهذا ما حصل للاقوام الذين يعارضون دعوة الحق, مثيرين عدد من الشبهات ينقلها لنا القران بصورة موجزة في الاية السابعة والعشرين وهي:
الشبهة الاولى : (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا) هذا هو مستوى تفكيرهم إذ انهم لا يؤمنون بإرسال البشر من قبل البارئ -عز وجل- لهم بل كيف يتبعونه وهو رجل منهم!! وهذا الامر لا ينطبق على الرسالة والرسول فكل شخص يريد ان يصلح او من يواجهه ابناء جلدته ممن هم عشيرته – ولا اقصد بالعشيرة هنا القبيلة بل المقصود من عاشره في بيئته كما هو مدلولها اللغوي- وجيرانه بل قد يعارضه من كان في داره ومثال ذلك معارضة كنعان ابن النبي نوح (ع) لابيه قال تعالى يصف المشهد والمحاورة مابين نوح وابنه: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)) «[15]»
الشبهة الثانية: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) وما هي الان نظرة المتعاليين الى الاخرين إذ ينظرون الى الاخرين نظرة دونية بحيث يعتبرونهم ادنى منهم فقولهم (اراذلنا) دليل ذلك والرذل بمعنى الحقير او الموجود الحقير سواءً كان إنساناً او شيئاً اخر وتم نعتهم بأنهم (بادي الرأي) اي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة وتمحيص«[16]» وهذا نتاج الطبقات الاجتماعية حيث ينظرون نظرة كبرياء وزهو لانفسهم ونظرة دونية وتسفيه لمن هم اقل منهم, وهذا ما توكده الشبهة الثالثة
الشبهة الثالثة: ( وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين) التفاضْل حسب رايهم هو بالجاه والمال واما الاخرين ممن لا يملكون جاهاً او مالاً فهم لا يساوون شيئاً لانهم لا فضْل لهم !!
وجاء جواب النبي نوح (ع) على شبهاتهم بيناً متسلسلاً:
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) هنا يصف لهم ما عمله هو إذ تم اختياره للدعوة والتبليغ فهل يرفض الاوامر الالهية ويطلب من الله - عز وجل- ان يرسل بدلاً عنه ملك؟
وما هذا الكلام الا دعوة اخرى لتحفيز التفكير المنطقي لديهم ومخاطبة عقولهم عسى ان يفقهوا حديثه.
(فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) اي خفيت عليكم هذه الرسالة , وما انا بملزمها لكم وانتم مكرهين عليها لان الكره يعمي القلوب, ويجعلها لا تفقه الحقيقة ولا تبصر المنطق لذلك نرى القران الكريم يشدد على الإقناع في المسائل الدينية دون الاكراه قال تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)«[17]»
(وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) هنا ايضاً دعوة للتفكير المنطقي إذ ان الذين يتقولون على الله الاقاويل هم بذلك يطالبون بأجر عن انذارهم وابلاغهم- وما تعدد الالهه في الزمن الغابر إلا باب من ابواب الاستثمار- ان صح التعبير- ولازال كذلك حتى اليوم إذ ان الكثير من المظاهر التي تغزو المجتمع إدعاء ظهور المراقد للاولياء حتى قيل ان احدهم ادعى العثور على قبر احد الاولياء الصالحين في داره وقد رزق رزقاً كبيراً بعد انهيال الناس للتبرك على القبر المزعوم بعدما كان يعاني الفقر , وبعد ايام قلائل ادعى جار له نفس إدعاء صاحبنا الاول ثم إدعى ثالث نفس الدعوة ومن ثم صارت القرية عبارة عن مجمع لقبور الاولياء المزعومين!!!
ولو كان إدعاء البعض يتوقف على هذا الجانب لهان الامر!!
وهذه الدعوة الموجه من قبل النبي نوح (ع) هي توضح ان الدعوة التي إدعاها والتلبيغ الذي بلغه لا يطالبهم بأجر عليه او على جهوده في سبيل الدعوة كما هو شأن المدعين الاخرين, وبهذا ايقظ التفكير لدى ارباب العقول ولكن لا حياء لمن تنادي ممن ذكرهم الله عز وجل في قوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) «[18]»
(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) هذا هو شأن المتكبرين يحاولون ان يخادعوا النبي نوح (ع) فقد طلبوا منه ان يطرد الذين امنوا من (اراذل القوم) كما عبروا عن ذلك.. وحتى لو كانوا صادقين فهذا طلب غير منطقي فكان رده لست أطرد المؤمنين من عندي و لا أبعدهم على وجه الإهانة و قيل أنهم كانوا سألوه طردهم ليؤمنوا له أنفة من أن يكونوا معهم على سواء «[19]» ,فما هو المبرر لطردهم؟ ألانهم فقراء؟ فالفقر ليس عيباً انما هو ابتلاء , وكيف يمكن طردهم وهم قوم اظهروا الايمان؟ , وهل يطرد الله من اناب إليه وتاب عما كان يفعله؟..
فعلاً انه كان كلام محير وغير منطقي بل كان ينم عن طبيعة المجتمع الجاهل المتعنت, فكان ابلغ جواب لهم (أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) و قيل معناه تجهلون أن الناس إنما يتفاضلون بالدين لا بالدنيا و قيل تجهلون فيما تسألون من طرد المؤمنين «[20]».
(وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) هل تدفعون عني عذاب الله إن انا طردتهم ؟!!
وبما انكم لا تدفعون عني العذاب اذن عليكم ان تعقلوا الامور وان لا تتهوروا بكلام لا معنى له -اي بما انكم لا تستطيعوا اعطائي حلول اذن عليكم ان تكونوا اكثر حكمة- (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)
(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) الهدف من الدعوة هو اتباع طريق الهداية والصلاح وليس لدي خزائن حتى تتبعوني من اجلها كما انني لست من الملائكة لكي ارسل لتبليغ رسالة ربي , فقال تعالى في موضع اخر (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) «[21]»
( وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ) بما ان الخزائن والاموال ليست هي الاساس في نهج الرسالة وليس المرسل ارسل لطلب الاجر (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) اذن الدعوة هي دعوة خالصة لوجه الله بعيدة كل البعد عن المنافع الشخصية للمرسل ورغم ذلك كله لابد للذين امنوا ان يجدوا ما وعدهم الله من الخير الوفير والعطاء الجزيل, وهذه اطر احتجاج النبي نوح (ع) على قومه الذين قد يكون وصفهم (شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) «[22]»
والناظر للقصة القرآنية اجمالاً -اقصد قصة النبي نوح (ع) في سورة هود- لا يراها إلا دعوة في سبيل هداية المجتمع وتوجيه نحو السبب الرئيس من وجودهم في الحياة قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) «[23]» والتبليغ في هذه الايات الكريمة ظاهر كظهور الشمس في رابعة النهار وهذه المهمة الشاقة اتخذها النبي نوح (ع) بل كانت مهمة كل الانبياء واوصيائهم (عليهم السلام جميعاً) ولابد لنا أن نعي اهمية التبيلغ والدعوة واسسها المتينة في اصلاح المجتمع وتوجيه نحو العدل والحق ليعم الخير أرجاء المعمورة
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
..................
[1] سورة هود/ آيات 1-2-3.
[2] تفسير الكشاف / محمد جواد مغنية/ المجلد الرابع/ من سورة يونس الى سورة النحل/ ص53 .
[3] تفسير الكشاف / محمد جواد مغنية/ المجلد الرابع/ من سورة يونس الى سورة النحل/ ص54 .
[4] سورة هود/ آية 3 .
[5] سورة الحج/ آية 47 .
[6] سورة هود/ آية 12.
[7] ينظر: مختصر الامثل/مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر / بيروت لبنان/ الطبعة الاولى / 2012م-1432هـ/ ص247.كما ينظر: تفسير مجمع البيان/ الطبرسي, الفضل بن الحسن/ المصّدر المجمع العالمي لأهل البيت / من شبكة الملعومات العالمية , الانترنت/ المكتبة الشاملة /ج. (5/221)
[8] نفس المراجع اعلاه.
[9] سورة المائدة /الاية 67.
[10]الاربعينيات في القران والحديث والتاريخ والادب / علي محمود اكبر زادة الخراساني/ مؤسسة الطبع التابعة للاستانة الروية المقدسة/ الطبعة الاولى / 1420ق – 1378ش/ الجمهورية الاسلامية-مشهد /ص106/ نقلاً عن اثبات الهداة 2: 323.
[11]شبكة المعلومات العالمية , الانترنت / موقع شبكة الشيعة الامامية / محمد بيومي مهران /الإمامة وأهل البيت/ ج 2/ ص 153 نقلاً عن صحيح الترمذي 2 / 183 .
[12] تفسير الكشاف / محمد جواد مغنية/ المجلد الرابع/ من سورة يونس الى سورة النحل/ص59 .
[13] قصص الانبياء / نعمة الله الجزائري/ الطبعة الثانية / 1430هـ -2009م / دار القارئ للطباعة والنشر/ لبنان –بيروت / ص94.
[14] سورة هود / الاية 25.
[15] سورة هود / الاية 42-43.
[16] ينظر: مختصر الامثل/مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر / بيروت لبنان/ الطبعة الاولى / 2012م-1432هـ/ ص227.كما ينظر: تفسير الكشاف / محمد جواد مغنية/ المجلد الرابع/ من سورة يونس الى سورة النحل/ ص65-67
[17] سورة البقرة / الاية 256.
[18] سورة محمد / الاية 23.
[19] ينظر: تفسير مجمع البيان/ الطبرسي, الفضل بن الحسن/ المصّدر المجمع العالمي لأهل البيت / من شبكة المعلومات العالمية , الانترنت/ المكتبة الشاملة /ج. (5/236) , كما ينظر: مختصر الامثل/مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر / بيروت لبنان/ الطبعة الاولى / 2012م-1432هـ/ ص227, كما ينظر: تفسير الكشاف / محمد جواد مغنية/ المجلد الرابع/ من سورة يونس الى سورة النحل/ ص67.
[20] ينظر: : تفسير الكشاف / محمد جواد مغنية/ المجلد الرابع/ من سورة يونس الى سورة النحل/ ص67, كما ينظر: تفسير مجمع البيان/ الطبرسي, الفضل بن الحسن/ المصّدر المجمع العالمي لأهل البيت / من شبكتب الملعومات العالمية , الانترنت/ المكتبة الشاملة /ج. (5/236)
[21] سورة الكهف / الاية 110.
[22] سورة الانفال / الاية 22.
[23] سورة الذاريات/ الاية 56.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat