لعل تاريخ المدينة منعقد بجذرها ، وممتد بأعماقها ، وموغل بامتداداتها ، وهنا يتحقق للجاني اطيب الثمر ! فيجهد ويصعد ويرصد وينوش يانع القطاف ، عله يبلع حلو المذاق ،ويصل يانع القطاف ، ويلمس غرس الفصول ..
جادت لغتنا العربية العظيمة بأسماء ومسميات وصفات ، دللت على روعتها ، وتمكن ادواتها ، لتثبت حضورها ، وتؤكد على اصالتها كلغة حية انبثقت من دائرتها لغات ولهجات ولسانيات .. تحقق بفعل الزمن دورها ، وبان بفضله مكانها ، وأثبتت الازمان أدوارها ..فالمسمى قرين الاسم ، مثلما الموصوف متعلق بالصفة ، وكلهم يعتمدون الإشارة والعلاقة ، وينصهرون في جسد واحد يشير الى الوحدة المتكاملة . فالمعنى للاسم يدل على عافية اللغة الذي لا يتحدد ويختصر على مسمى ما ، بل يقفز ويجتاز القريب ليصل الى مراحل في تعدد الصفة والاسم والمسمى . وكأنه يحتوي كل الدلالات والمعاني ، وهذا ما يميز هذه اللغة التي حباها الله بالتجديد والتجدد ، وجعلها تنتج من ادواتها دلالات واشارات ومسميات وثقافات مختلفة .
هنا جند الراحل (عامر السعد) بحوثه ليشرح ويبحث ويفكك كلمة (بصرة) مدينته التي هام بها ، وعشقها ، واحبها حبا لم اجده بغيره ! فراح يكشف الغمام ، ويزيح اللبس والابهام ، ويتحرى علم الاعلام ، وصولا الى ان تستقر لديه قناعة في اسم هذه المدينة . الا ان نهمه في هذا المضمار لما يحسم ، وغادرنا الى جوار ربه (رحمه الله) وهو ما زال يبحث ويبحث ، حتى انني التقيت كاتبا طموحا قبل ايام قال لي : لديّ كتابين للدكتور عامر (رحمه الله) قيد التنضيد وهما عن البصرة !
بحث عامر السعد عن البصرة ، وساق لها الامثال ، واستشهد بالأشعار والقصائد ، واستعان بالقرآن الكريم كسيد للقول ، وحسم لنزاع اللغة ، فقرن كلمة (بصرة) بما جاءت به سورة طه الآية 96 (بَصُرْتُ بما لم يبْصروا به ) ويعتمد هنا معاني التأمل والتعرف والايضاح وسورة العنكبوت الآية 38 (وكانوا مستبصرين) .
ويؤكد السعد ان هذه المدلولات ليست ببعيدة عن اسم (البصرة) ، وان يكن الاسم الذي أُخذت منه معنويا ، اذا كان المعنى المادي المحسوس هو المقصود باللفظ . فهي ( البصرة) الحجارة الرخوة التي تميل الى البياض ، والحجارة الجص كما أشار ابن سيدة ، وجبل الجص عند ابن شميل . ملحوظة : خلف مقام الامام الرضا (عليه السلام) في العشار وهو ما يطلق عليه بـ ( الأمير ) منطقة تسمى الجبل . كما انك تنزل مجموعة درجات الى اسفل قبل وصولك شارع الكويت في العشار ! والبياض الجص هو الوضوح وهو ما ذهب اليه الفّراء بالحجارة البراقة .
وهي التي تختلف فيها حركات ( الصاد والباء) فيقال : البصْرّة والبَصرة والبِصرة) ويقال ايضا ( البَصرة والبِصرة والبُصرة ) لكن البصريين اختاروا (البَصْرَة) . وقد يقال : (البصرتان) ويراد بذلك (البصرة والكوفة) اما النسب الى البصرة فهو (بِصري) قال الشاعر : (بِصرية تزوجت بصريا يُطعمها المالح والطّريا)
ويقال للرجل بَصَّرَ اذا اتى الى البصرة ،وبَصَّرَ القومُ اذا اتوا الى البصرة . قال الشاعر :
( اُخبِرُّ مَنْ لاقيتُ أني مبصّرٌ وكائن ترى قبلي من الناسِ بَصّرَا )
و(البصرة) اللفظ العربي ، و(بصرياتا) الآرامية ، و(بصريا) الكلدانية ، و(تردم) اليونانية و(بس راه) الفارسية او ( هشتا باذأردشير) التي تعني العمارة المدهشة ، او الجنة ، او الفردوس ، او فردوس الملك اردشير ...جميعها تصب في معنى المسمى لهذه المدينة العريقة . مدينة المياه المتدفقة ، والطيور المغردة ، والأشجار الباسقة .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat