ضمن سلسلة (افانين بصرية) التي يصدرها مركز تراث البصرة ، صدر الكتاب الثالث الذي حمل عنوان ( درر من درة الغواص – جوانب من التصويت اللغوي في التراث البصري) – للدكتور عامر السعد .
والكتاب الذي يقع في 66 صفحة من القطع المتوسط ، توزع على ثلاثة محاور هي :
درر في سلامة التراكيب ، درر في سلامة المفردات ، درر في سلامة الأبنية الصرفية .
وقد جاء في مقدمة الكتاب ان العربية هندست ابنيتها في ابهى صورة من الغنج والدلال ، وحاكت قوانينها في غاية الدقة والجمال ، حتى بدت ثوبا متقن النسج والطراز كالذي اطراه شاعره قائلا :
(حيكت على نيرين اذ تحاك تختبط الشوك ولا تشاك)
ويسهب المؤلف معرفا بأدوار العربية ومراحلها وجمالها والقها .. وكل ذلك الجمال معقود بسلامتها من الحوشي والغريب والزاحف ، حتى وصف ان في حالة ان تخدش انملة من اناملها يتعكر مزاج الحسن في ملامحها ! وهي الحقيقة التي ادركها علماء اللغة ، فراحوا يجاهدون في رعايتها وحمايتها من كل ما يعل عافيتها .
ويؤكد المؤلف على ان للبصرة قصب السبق والرفد والعطاء في هذا المجال ، اذ تهيأت لها بعد تمصيرها وسائل جذب كانت سببا في ان يقصدها الكثيرون ، فتأثرت الفصحى من جراء ذلك ، وتفشى اللحن في السنة الناس . ويستعرض المؤلف جانبا من تاريخ اللغة في البصرة ، واثر هذه المدينة الاستقطابي ، وكيف توجه الناس اليها كمحاربين ومقاتلين . فضلا عن موقعها الجغرافي الذي يجعل الآخر يحط الرحال بربوعها ، وكيف ان الامام علي (عليه السلام) وبعد ان حل بها واخمد فتنة الجمل ، اشار الى ابي الأسود الدؤلي ان يكتب للناس نحوا يعصم السنتهم من الزلل ، ويقيها من اللحن . وراح (عليه السلام) يضع الأسس التي يقوم عليها هذا العلم .
وكيف استكمل اهل البصرة هذا الحرص على سلامة لغتهم ، فتصدوا من خلال مؤلفاتهم ومشاريعهم اللغوية الى تطوير هذه اللغة ، والكتابة في اصنافها وفنونها .. ويذكر هنا دور ابو عمرو بن العلاء (154 هجرية) وكان من كبار علماء اللغة ، وقد عرف بعلمه الواسع بكلام العرب ولغاتهم الذي يقول فيه الفرزدق :
(ما زلت افتح ابوابا واغلقها حتى اتيت ابا عمرو بن عمار)
وكان هذا العالم يتخفى ويتستر خوفا من بطش الحجاج . ويروي ابن العلاء حادثة لعلها لصيقة بنشيد الكتاب اذ يقول : خرجت في الغلس ( والغلس هو آخر ظلمة الليل ) اريد التنقل من الموضع الذي كنت فيه الى غيره ، فسمعت منشدا ينشد :
(ربما تكره النفوس من الام ر له فرجة كحل العقال)
وسمعت امرأة تقول : مات الحجاج ، فما ادري بايها كنت اسر ، بقول المنشد (فرجة) بالفتح ، ام بقول العجوز : مات الحجاج ؟ ثم يذكر لنا مستشهدا الكثير من أخطاء الخواص . وهنا يبين المؤلف ان مادة هذا الكتاب الرئيسة تتأكد في اتجاهات هي : التعريفي والتعليمي والنقدي التقويمي .بعدها يتطرق الى المسائل ، وهي موزعة على الابواب الثلاثة التي حملها الكتاب . فيذكر في مسائله اوهاما واشكاليات في عدة مسائل ، ويعززها بالحسم القرآني ، او القول المأثور ، او القصيدة الشعرية . مثل : (قط) و ( ابدا) وهي من أوهام القول ذلك ان العرب تستعمل قط فيما مضى من الزمان ، كما تستعمل ابدا فيما يستقبل منه قال تعالى : (انا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها. و ( خالدين فيها ابدا) .
و ( همزة التعدية) و (باء التعدية) اذ يقول الحريري : ادخل باللص السجن ، فيخلطون فيه ، والصواب ان يقال : ادخل اللص السجن مستشهدا بقوله تعالى : (ذهب الله بنورهم) .
و ( بعث ) و ( ارسل ) وهنا يقول الحريري : بعثت اليه بغلام وارسلت اليه هدية ) مستشهدا بقوله تعالى : ( ثم ارسلنا رسلنا ) . و ( واني مرسلة اليهم بهدية ) . ذاكرا قول المتنبي :
(فاجرك الاله على عليل بعثت الى المسيح به طبيبا )
و (كم الاستفهامية ) ويشكل الحريري هنا بلعل التي تفيد التوقع فبلا تكون لما مضى ، وانما لما هو مرجو . والصواب ان يقال : ( لعله يفعل او (لعله لا يفعل) . قال الله تعالى : ( لعلي ابلغ الأسباب أسباب السماوات والأرض) .
قول امرء القيس : (وبدلت قرحا داميا بعد صحة لعل منايانا تحولن ابؤسا)
و ( آخر ) و ( أخرى ) اذ (يقولون : ابتعت عبد وجارية أخرى ، فيوهمون / لان العرب لم تصف بلفظتي (آخر) و ( أخرى ) الا ما يجانس المذكور قبله ) .
و ( بكم ثوبك مصبوغا ) وهذا السؤال من الممكن ان يأتي في صورة أخرى هي ( بكم ثوبك مصبوغٌ ) ويؤكد ان هناك فرق في المعنى بين الصورتين .
و ( خلف الله عليك .. ) ا يذكر الحريري ان الناس لا يفرقون بين ( خلف الله عليك) و ( اخلف الله عليك) اذ ان بينهما فرقا يفترض الالتفات اليه .
ثم يعرض عدد من المسائل برأي العالمين الحريري والخفاجي وهو الشاعر والفقيه المصري شهاب الدين احمد بن محمد الخفاجي ( ت 1071)والذي كان قاصدا بكتابه الى السلطان العثماني ، لينتهي به التعريف الى صاحب الكتاب :( واعلم ان مصنف هذا الكتاب ، ابو محمد القاسم بن علي الحريري من اهل البصرة ، وهو اديب بليغ له كتب فائقة ورسائل واشعار عذبة ) ويعزز قوله : ( ان كتاب درة الغواص احتوى على درر مستخرجة من لجة البراعة ، وفرائد فرائد نظمته فكرته الثاقبة ) . ويشير المؤلف هنا الى ان الحريري حين أشار في درته الى تلك الأوهام ، كان قد استند الى حجج وشواهد من كلام العرب الموثوق بفصاحتهم ، واذا ما ظهر هناك ما يخالف بعض ما ذهب اليه ، فذلك ناتج عما يمتلكه المبدع من فسحة في التصرف في الاستعمال ، ولعل التأويل يحاول ان يوجد لها مسوغا ، الا ان هناك من يتشدد من النحاة ، فلا يجيز ذلك الاتساع ، ويقف الحريري في هذا الاتجاه ، لكونه يريد لقوانين اللغة ان تبقى قارّة في الصورة التي وضعها الاصلاء ، وما على مستعملي اللغة الا ان يحترموا تلك القواعد ، ان الخروج عليها يعد خروجا على اللسان العربي السليم . اما عن ما عرضه المؤلف من المسائل بين الحريري والخفاجي في شرحه لهذه المسائل فتمثلت في المسائل الآـية :
الاولى : ( قدم سائر الحاج ) ويضعها الحريري ضمن الاوهام الفاضحة مستدلا على قول سيبويه :
(ترى الثور في مدخل الظل راسه وسائره بادٍ الى الشمس اجمعُ)
وقول الشنفرى :
(ولا تقبروني ان قبري محرم عليكم ولكن ابشري ام عامر
اذا احتملت رأسي وفي الرأس اكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري)
والثانية : ( زيد افضل اخوته ) فيخطئون لان افعل الذي للتفضيل لا يضاف الى ما هو داخل فيه . ويعلل ذلك بان اسم التفضيل فيه نوع من المضاف الى معرفة / وارتباطه بقصدية التفضيل / وهذا ما ذهب اليه الرضي (ت688 هجرية) والاشموني ( ت 900 هجرية) في شرحه على الالفية .
الثالثة : ( فعل الغير ذلكم ) . أي يدخلون (غير ) على آلة التعريف مستشهدا بالآية القرآنية الشريفة : ( ام لهم اله غير الله ) ويعزز ذلك بقول المبرد (ت 286 هجرية ) في كتابه ( المقتضب) : ( فأما مررت برجل غيرك ، فلا يكون الا نكرة ، لأنه مبهم في الناس اجمعين ) وابن يعيش ( ت 643 هجرية ) في شرح المفصّل : ( وقد جاءت أسماء أضيفت الى معارف ولم تتعرف بذلك ، للإبهام الذي فيها ، وانها لا تخص واحدا بعينه ، وذلك ( غير ، ومثل ، وشبه ) فهذه نكرات وان كن مضافات الى معرفة ، وانما نكرهن معانيهن ، وذلك لان هذه الأسماء لمّا لم تنحصر مغايرتها ، ومماثلتها ، لم تتعرف ، الا ترى ان كل من عداه فهو غيره ) .
والرابعة : (حكني جسدي ) و ( أحكني جسدي) .وهم حسب راي الحريري يجعلون الجسد هنا هو الحاك ، وعلى التحقيق هو المحكوك ، والصحيح ان يقال : ( احكني جسدي ) أي : الجأني الى الحك . ولا يجد الخفاجي فرقا بين التركيبين ويستشهد بصاحب القاموس قوله : ( احتك رأسي وحكني واحكني واستحكني ، دعاني الى الحك ) .
والخامسة : (الحمد لله الذي كان كذا وكذا ..) . وهو خطأ على رأي الحريري الذي يقول : ( ان حذف الضمير العائد الى اسم الله تعالى في مثل هذه الجملة خطأ لان الكلام يتم به . والصواب ان يقال : ( الحمد لله الذي كان كذا وكذا منه ) .
والسادسة : (صلى الله على نبيه محمد وذويه) .ويراه الحريري لحنا وحجته ان (ذو) التي تعني (صاحب) لا تضاف الا الى اسم جنس . في حين يقول الخفاجي : ( ليس هذا بلازم ، وان كان الأكثر في الاستعمال ، لأنها وضعت ليتوصل بها الى الوصف بأسماء الاجناس ، والمشتقات تقع صفة ، فهي غير محتاجة الى التوصل ، والضمائر لا يوصف بها ) .
ثم ينتقل الى القسم الثاني من الكتاب ليستعرض مائل : ( التتابع والتواتر ) و (خُوان – مائدة) و (ذاعر – داعر ) و (جلس – قعد )و مأتم ) و (السوقة والسوقيون ) و (هوى) و (البِشارة والبُشارة والبَشارة ) و (اخطأ – مخطئ) (خطئ – خاطئ))
ثم ينتقل الى القسم الثالث والأخير من الكتاب ويستعرض مسائل : (احمر واحمار ) و ( اصفر واصفار ) و (ما ابيض) و ( ما اعور ) و (احازة ) و (حيازة) و النسب الى (دنيا ) و ( فاكهة) و ( النسب الى الجمع و (مطرد ومبرد ) وتصغير (عقرب) و ( صيغ المبالغة ) و (سَداد) و (سِداد) و ( امرأة شكور ولجوجة وصبور وخؤونة) و أخيرا ( تذكار) .
ويضع لها المتضادات والتأييدات ، ويعززها بالشواهد والاستشهادات التي نجد اننا لا نتفضل على القارئ الكريم الا بنقلها وتنظيمها فقط ! ولكن مؤلف الكتاب الدكتور عامر السعد (رحمه الله) حاول وبجهد جهيد ان يقرب المعنى والصورة ، ويتحفها برأيه الثاقب ، ونظرته الفاحصة المتفحصة التي اضافت الى هذه الدرة دررا ولآلئ ، لاسيما وقد استثمر طرق الحداثة في تقريب المعنى ، وكان الخطاب القرآني والمثل والشعر شاهدا على حذاقة وبراعة الدكتور عامر السعد ، الذي عودنا على مثل هذه الكتابات التي توغل بالدقة المتأنية ، والتشريح الموضوعي ، والتفكيك العلمي .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat