صفحة الكاتب : عادل علي عبيد

قراءة في كتاب : دُرر من درّة الغَواص تأليف : الدكتور عامر السعد
عادل علي عبيد

ضمن سلسلة (افانين بصرية) التي يصدرها مركز تراث البصرة ، صدر الكتاب الثالث الذي حمل عنوان ( درر من درة الغواص – جوانب من التصويت اللغوي في التراث البصري) – للدكتور عامر السعد .
والكتاب الذي يقع في 66 صفحة من القطع المتوسط ، توزع على ثلاثة محاور هي :
درر في سلامة التراكيب ، درر في سلامة المفردات ، درر في سلامة الأبنية الصرفية .
وقد جاء في مقدمة الكتاب ان العربية هندست ابنيتها في ابهى صورة من الغنج والدلال ، وحاكت قوانينها في غاية الدقة والجمال ، حتى بدت ثوبا متقن النسج والطراز كالذي اطراه شاعره قائلا :
(حيكت على نيرين اذ تحاك تختبط الشوك ولا تشاك)
ويسهب المؤلف معرفا بأدوار العربية ومراحلها وجمالها والقها .. وكل ذلك الجمال معقود بسلامتها من الحوشي والغريب والزاحف ، حتى وصف ان في حالة ان تخدش انملة من اناملها يتعكر مزاج الحسن في ملامحها ! وهي الحقيقة التي ادركها علماء اللغة ، فراحوا يجاهدون في رعايتها وحمايتها من كل ما يعل عافيتها .
ويؤكد المؤلف على ان للبصرة قصب السبق والرفد والعطاء في هذا المجال ، اذ تهيأت لها بعد تمصيرها وسائل جذب كانت سببا في ان يقصدها الكثيرون ، فتأثرت الفصحى من جراء ذلك ، وتفشى اللحن في السنة الناس . ويستعرض المؤلف جانبا من تاريخ اللغة في البصرة ، واثر هذه المدينة الاستقطابي ، وكيف توجه الناس اليها كمحاربين ومقاتلين . فضلا عن موقعها الجغرافي الذي يجعل الآخر يحط الرحال بربوعها ، وكيف ان الامام علي (عليه السلام) وبعد ان حل بها واخمد فتنة الجمل ، اشار الى ابي الأسود الدؤلي ان يكتب للناس نحوا يعصم السنتهم من الزلل ، ويقيها من اللحن . وراح (عليه السلام) يضع الأسس التي يقوم عليها هذا العلم .
وكيف استكمل اهل البصرة هذا الحرص على سلامة لغتهم ، فتصدوا من خلال مؤلفاتهم ومشاريعهم اللغوية الى تطوير هذه اللغة ، والكتابة في اصنافها وفنونها .. ويذكر هنا دور ابو عمرو بن العلاء (154 هجرية) وكان من كبار علماء اللغة ، وقد عرف بعلمه الواسع بكلام العرب ولغاتهم الذي يقول فيه الفرزدق :
(ما زلت افتح ابوابا واغلقها حتى اتيت ابا عمرو بن عمار)
وكان هذا العالم يتخفى ويتستر خوفا من بطش الحجاج . ويروي ابن العلاء حادثة لعلها لصيقة بنشيد الكتاب اذ يقول : خرجت في الغلس ( والغلس هو آخر ظلمة الليل ) اريد التنقل من الموضع الذي كنت فيه الى غيره ، فسمعت منشدا ينشد :
(ربما تكره النفوس من الام ر له فرجة كحل العقال)
وسمعت امرأة تقول : مات الحجاج ، فما ادري بايها كنت اسر ، بقول المنشد (فرجة) بالفتح ، ام بقول العجوز : مات الحجاج ؟ ثم يذكر لنا مستشهدا الكثير من أخطاء الخواص . وهنا يبين المؤلف ان مادة هذا الكتاب الرئيسة تتأكد في اتجاهات هي : التعريفي والتعليمي والنقدي التقويمي .بعدها يتطرق الى المسائل ، وهي موزعة على الابواب الثلاثة التي حملها الكتاب . فيذكر في مسائله اوهاما واشكاليات في عدة مسائل ، ويعززها بالحسم القرآني ، او القول المأثور ، او القصيدة الشعرية . مثل : (قط) و ( ابدا) وهي من أوهام القول ذلك ان العرب تستعمل قط فيما مضى من الزمان ، كما تستعمل ابدا فيما يستقبل منه قال تعالى : (انا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها. و ( خالدين فيها ابدا) .
و ( همزة التعدية) و (باء التعدية) اذ يقول الحريري : ادخل باللص السجن ، فيخلطون فيه ، والصواب ان يقال : ادخل اللص السجن مستشهدا بقوله تعالى : (ذهب الله بنورهم) .
و ( بعث ) و ( ارسل ) وهنا يقول الحريري : بعثت اليه بغلام وارسلت اليه هدية ) مستشهدا بقوله تعالى : ( ثم ارسلنا رسلنا ) . و ( واني مرسلة اليهم بهدية ) . ذاكرا قول المتنبي :
(فاجرك الاله على عليل بعثت الى المسيح به طبيبا )
و (كم الاستفهامية ) ويشكل الحريري هنا بلعل التي تفيد التوقع فبلا تكون لما مضى ، وانما لما هو مرجو . والصواب ان يقال : ( لعله يفعل او (لعله لا يفعل) . قال الله تعالى : ( لعلي ابلغ الأسباب أسباب السماوات والأرض) .
قول امرء القيس : (وبدلت قرحا داميا بعد صحة لعل منايانا تحولن ابؤسا)
و ( آخر ) و ( أخرى ) اذ (يقولون : ابتعت عبد وجارية أخرى ، فيوهمون / لان العرب لم تصف بلفظتي (آخر) و ( أخرى ) الا ما يجانس المذكور قبله ) .
و ( بكم ثوبك مصبوغا ) وهذا السؤال من الممكن ان يأتي في صورة أخرى هي ( بكم ثوبك مصبوغٌ ) ويؤكد ان هناك فرق في المعنى بين الصورتين .
و ( خلف الله عليك .. ) ا يذكر الحريري ان الناس لا يفرقون بين ( خلف الله عليك) و ( اخلف الله عليك) اذ ان بينهما فرقا يفترض الالتفات اليه .
ثم يعرض عدد من المسائل برأي العالمين الحريري والخفاجي وهو الشاعر والفقيه المصري شهاب الدين احمد بن محمد الخفاجي ( ت 1071)والذي كان قاصدا بكتابه الى السلطان العثماني ، لينتهي به التعريف الى صاحب الكتاب :( واعلم ان مصنف هذا الكتاب ، ابو محمد القاسم بن علي الحريري من اهل البصرة ، وهو اديب بليغ له كتب فائقة ورسائل واشعار عذبة ) ويعزز قوله : ( ان كتاب درة الغواص احتوى على درر مستخرجة من لجة البراعة ، وفرائد فرائد نظمته فكرته الثاقبة ) . ويشير المؤلف هنا الى ان الحريري حين أشار في درته الى تلك الأوهام ، كان قد استند الى حجج وشواهد من كلام العرب الموثوق بفصاحتهم ، واذا ما ظهر هناك ما يخالف بعض ما ذهب اليه ، فذلك ناتج عما يمتلكه المبدع من فسحة في التصرف في الاستعمال ، ولعل التأويل يحاول ان يوجد لها مسوغا ، الا ان هناك من يتشدد من النحاة ، فلا يجيز ذلك الاتساع ، ويقف الحريري في هذا الاتجاه ، لكونه يريد لقوانين اللغة ان تبقى قارّة في الصورة التي وضعها الاصلاء ، وما على مستعملي اللغة الا ان يحترموا تلك القواعد ، ان الخروج عليها يعد خروجا على اللسان العربي السليم . اما عن ما عرضه المؤلف من المسائل بين الحريري والخفاجي في شرحه لهذه المسائل فتمثلت في المسائل الآـية :
الاولى : ( قدم سائر الحاج ) ويضعها الحريري ضمن الاوهام الفاضحة مستدلا على قول سيبويه :
(ترى الثور في مدخل الظل راسه وسائره بادٍ الى الشمس اجمعُ)
وقول الشنفرى :
(ولا تقبروني ان قبري محرم عليكم ولكن ابشري ام عامر
اذا احتملت رأسي وفي الرأس اكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري)
والثانية : ( زيد افضل اخوته ) فيخطئون لان افعل الذي للتفضيل لا يضاف الى ما هو داخل فيه . ويعلل ذلك بان اسم التفضيل فيه نوع من المضاف الى معرفة / وارتباطه بقصدية التفضيل / وهذا ما ذهب اليه الرضي (ت688 هجرية) والاشموني ( ت 900 هجرية) في شرحه على الالفية .
الثالثة : ( فعل الغير ذلكم ) . أي يدخلون (غير ) على آلة التعريف مستشهدا بالآية القرآنية الشريفة : ( ام لهم اله غير الله ) ويعزز ذلك بقول المبرد (ت 286 هجرية ) في كتابه ( المقتضب) : ( فأما مررت برجل غيرك ، فلا يكون الا نكرة ، لأنه مبهم في الناس اجمعين ) وابن يعيش ( ت 643 هجرية ) في شرح المفصّل : ( وقد جاءت أسماء أضيفت الى معارف ولم تتعرف بذلك ، للإبهام الذي فيها ، وانها لا تخص واحدا بعينه ، وذلك ( غير ، ومثل ، وشبه ) فهذه نكرات وان كن مضافات الى معرفة ، وانما نكرهن معانيهن ، وذلك لان هذه الأسماء لمّا لم تنحصر مغايرتها ، ومماثلتها ، لم تتعرف ، الا ترى ان كل من عداه فهو غيره ) .
والرابعة : (حكني جسدي ) و ( أحكني جسدي) .وهم حسب راي الحريري يجعلون الجسد هنا هو الحاك ، وعلى التحقيق هو المحكوك ، والصحيح ان يقال : ( احكني جسدي ) أي : الجأني الى الحك . ولا يجد الخفاجي فرقا بين التركيبين ويستشهد بصاحب القاموس قوله : ( احتك رأسي وحكني واحكني واستحكني ، دعاني الى الحك ) .
والخامسة : (الحمد لله الذي كان كذا وكذا ..) . وهو خطأ على رأي الحريري الذي يقول : ( ان حذف الضمير العائد الى اسم الله تعالى في مثل هذه الجملة خطأ لان الكلام يتم به . والصواب ان يقال : ( الحمد لله الذي كان كذا وكذا منه ) .
والسادسة : (صلى الله على نبيه محمد وذويه) .ويراه الحريري لحنا وحجته ان (ذو) التي تعني (صاحب) لا تضاف الا الى اسم جنس . في حين يقول الخفاجي : ( ليس هذا بلازم ، وان كان الأكثر في الاستعمال ، لأنها وضعت ليتوصل بها الى الوصف بأسماء الاجناس ، والمشتقات تقع صفة ، فهي غير محتاجة الى التوصل ، والضمائر لا يوصف بها ) .
ثم ينتقل الى القسم الثاني من الكتاب ليستعرض مائل : ( التتابع والتواتر ) و (خُوان – مائدة) و (ذاعر – داعر ) و (جلس – قعد )و مأتم ) و (السوقة والسوقيون ) و (هوى) و (البِشارة والبُشارة والبَشارة ) و (اخطأ – مخطئ) (خطئ – خاطئ))
ثم ينتقل الى القسم الثالث والأخير من الكتاب ويستعرض مسائل : (احمر واحمار ) و ( اصفر واصفار ) و (ما ابيض) و ( ما اعور ) و (احازة ) و (حيازة) و النسب الى (دنيا ) و ( فاكهة) و ( النسب الى الجمع و (مطرد ومبرد ) وتصغير (عقرب) و ( صيغ المبالغة ) و (سَداد) و (سِداد) و ( امرأة شكور ولجوجة وصبور وخؤونة) و أخيرا ( تذكار) .
ويضع لها المتضادات والتأييدات ، ويعززها بالشواهد والاستشهادات التي نجد اننا لا نتفضل على القارئ الكريم الا بنقلها وتنظيمها فقط ! ولكن مؤلف الكتاب الدكتور عامر السعد (رحمه الله) حاول وبجهد جهيد ان يقرب المعنى والصورة ، ويتحفها برأيه الثاقب ، ونظرته الفاحصة المتفحصة التي اضافت الى هذه الدرة دررا ولآلئ ، لاسيما وقد استثمر طرق الحداثة في تقريب المعنى ، وكان الخطاب القرآني والمثل والشعر شاهدا على حذاقة وبراعة الدكتور عامر السعد ، الذي عودنا على مثل هذه الكتابات التي توغل بالدقة المتأنية ، والتشريح الموضوعي ، والتفكيك العلمي .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عادل علي عبيد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/01/18



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في كتاب : دُرر من درّة الغَواص تأليف : الدكتور عامر السعد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net