القراءات خالصة النية في حقيقة وبيان المقامة الصنعانية استنطاق الرؤية لدى الراحل عامر السعد
عادل علي عبيد
عادل علي عبيد
أربع قراءات خطها يراع الراحل الدكتور عامر السعد (رحمه الله) في رصده لمقامات الحريري، وجعل المقامة الصنعانية انموذجا .
يحرص السعد في هذا المحور على ان المقامة قد حملت اكثر من قراءة ، وهذه القراءات مرتبطة بالقناعة ، وهي مقاربة بين التلميذ والراوي ، والتلميذ هو الآن مستقبل النص الذي دائما ما يغلب سؤال الفضول البناء، لينتهي الى الحقيقة التي يستشرفها الراوي، ويحرص على تصديرها الى دائرة التلقي . لذلك يُقرب (السعد) استدلالاته هنا بالشعر ليحسم السؤال .
(ولو انصف الدهرُ في حُكمهِ لما ملمَ الحُكمَ أهلُ النّقيصة )
معززاً رأيه التعريفي بالشيخ :
(( هذا أبو زيد السروجي، سُراجُ الغُرباء ، وتاجُ الادباء) .
وهنا يعلل (السعد) ويثير تساؤلا مهما عند قارئ المقامة هو :
لماذا لم يبق الحريري بطله نقباً ، كما عرفه الناس؟
كيف ارتضى ان يجعل بطله منافقا؟
لماذا اعطى وظيفة الواعظ لشخصية تعاني من الازدواجيّة؟
كيف يكون رجل محتال (سراج الغرباء وتاج الادباء )؟
القراءة الأولى :
تبنت المقامة مشهدين هما (الثقافي والاجتماعي) وأكدت اصالة وبيان المشهد الاجتماعي، وسمو مكانته، وثقافة فكره، وسلامته وخلوه من اية شائبة . لكنه يضيف ( في حين لم يسلم المشهد الاجتماعي مما يشينه ، اذ تجلى التناقض السلوكي بين ما هو ظاهر، وما هو باطن في شخصية منتج الخطاب ) . معززا القول : ( ان المشهد الثقافي هو نتاج للمشهد الاجتماعي ) .
ولعلي هنا استحضر الفعل البنيوي في الخطاب واثره في النص ، بعدما ينتقل من دائرة صانع الخطاب الى مستقبله ، وهذا ما يجعل الكاتب يضع حاجزا بين المشهدين ، بعزل الخطاب عن المبدع . ( .. واذا ما احس المتلقيّ برقي النصّ وعلوّ مرتبته ، فذلك متأت من ناحيته لا من صاحبه ) . وهو ما يجعل الغرابة والدهشة مستنفرة بعدما يرجح ان الاستقامة الموجودة في الخطاب ، ليست موجودة عند صاحب الخطاب . وبغرابة وجرأة يعتمدها السعد هنا في افتراضين :
الأول : الجمهور الذي يجهل من يتحدث اليه ، فالسروجي رجل بصري جاب وطاف في اصقاع متعددة، وكانت صنعاء اول تلك الأماكن التي استقبلت خطابه واسمع أهلها أهدافه . ولو ان ثمة إشكالية في التلقي والفهم حدثت على ضوء الخطاب فان السروجي وبثقافته وحذاقته استطاع بقوة وذكاء استمالة نفوس الناس، والاستحواذ على قلوبهم، وهز مشاعرهم، واستدرار دموعهم . ولعله يرجح هنا سؤالا هو : هل يجوز ان تلقى الثقافة من دون معرفة مصادرها ؟ ويجزم ، على ان ما يعزز هوية هذه الثقافة هو ما يتحدد بنشيد وهدف المبدع .
الثاني : من المسلم به ان ثقة التلقي قائمة موجودة في ظل ما افصح عنه خطاب المبدع من ثقافة وقناعة، وهذا امر يتمم نشيد الخطاب، ويرسخ دلالته . وهنا يستشهد الكاتب ببعض ممن كانت لهم نزعات ورؤى سلبية، ولكنهم كتبوا عن الخير والسواء والاستقامة.. او انهم تعاطوا الخمر وكانت حياتهم ملآى بالسلب، لكنهم لم يغفلوا او يتغافلوا عن زرع المكرمات وتعزيز الاخلاق عند الآخرين .
(فانك لا تستطرد الهم بالمنى ولا تبلغ العلياء بغير المكارم )
القراءة الثانية :
وهي القراءة التي تخترق الخطاب وتستنطق النص، وصولا الى إعطاء النص مقبولية عالية وراسخة عن حقيقة الكاتب . ولعل الحريري هنا ارسل رسالة الى القارئ ان لا يكتفي بقراءة النص، بقدر ما يسعى الى تحليله وغربلته ومقارنته ، باعتماد التدبر والتثبت من المعلومة والمصدر ، وانه غرس حب التحري والتقصي وصولا الى تعزيز كامل المعلومة عند متلقية .وهو هنا ينتقل من دائرة الكاتب التي يترك تصه تائها مغتربا عن الاخر، ويحقق بحق رسالة الكتابة الهادفة، ومهنة الاديب الرسالي . وهو هنا ايضا لم يتعامل مع الكتاب كفعل رتيب ونمطي ، من دون ان يحقق أهدافه في التأثر والتأثير ، وينعت عكس هذا الامر بالثقافة المتدنية! لاسيما وان هذا الامر مرهون بالعمل الصالح الذي يتركه الفرد . وهنا يجسد الحريري رسالته التعزيزية من ان الثقافة لا تتعامل مع القارئ من جانب واحد، بقدر ما تبعث اليه آفاقا جديدة حري به اعتماد سبلها، والاهتداء الى مسالكها .
القراءة الثالثة :
قد يحمل البطل شخصية مزدوجة ، وهنا يثير الكاتب الإشكالية في دائرة المتلقي ، لاسيما والقارئ دائما ما يتلقى النص وكأنه عامر ومسلم به ، او انه خالص من شوائبه ، ولكن الكاتب هنا يحيلنا الى امر راهن، هو ان الكاتب الام يعتمد الصدق، ويحث على الخير في نصه، ولكنه مداح وعاظ يستجدي عطف الأمير ، ويخطب ود الحاكم، وهذا الفعل الازدواجي لا بأس هنا ان يصنع نصا معجونا بالاستقامة والفعل الحقيقي الذي يتحراه القارئ . لذا يحرص الحريري على ان يكون بطله منزها لا يقف على ابواب الملوك ،ولا يستجدي فعل الذلة منهم ، ولكنه ترك الامر في دائرة المتلقي كيما يوغل بتأيداته التي تحقق اهداف النص . وهو هنا لا يريد للثقافة ان تكون مساومة منافقة، تدمج القبح بالجمال، والخطيئة بالخير، والأبيض بالأسود ! وفعل خيرا (السعد) عندما استشهد وساق القول المأثور للإمام علي ( عليه السلام) في هذا الشأن : ( لأن ابيتن على حَسِكِ السعدان مُسهّداً،وأجرّ بالأغلال مقيداً ، على ان القى الله ظالما لبعض العباد ، لما فعلت ) . ويعرج المرحوم (السعد) هنا الى خطاب اهل البيت (عليهم السلام) وعدم اذعانهم ومجاراتهم لأسس الباطل ولو كان حاكما ، املا بتلازم القول والفعل وهنا يقول : ( ان خطاب العترة الطاهرة الذين يحرصون على توصيله الى الناس ،هو خطاب الدين الذي ورثوا رسالته بأمر السماء ،فهم احقّ الخلق به بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وسيبقى هذا الخطاب مرتبطا بهم الى يوم القيامة . ويربط الامر بموقف الامام الحسين (عليه السلام) وقوله الشهير : ( انما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي ... ) . وهكذا انتصر الدم على السيف .
القراءة الرابعة :
وهنا يوجز صنفين من المعاصي:
الأول : يمارس في العلن مقربا المعنى بالاستشهاد بقول المتنبي :
(وما انتفاع اخي الدنيا بناظره اذا استوت عنده الانوار والظلم )
وكأن العمى قد هيمن على بصيرته فاضل الطريق .
والثاني : ممارسة المعصية والاثم في الخفاء ، والويل لمن مارس هذا الامر الشائن، وحظي بدراية الناس وانكشاف امره ، وهنا يخالط الاثم السلوك وقد يمارسه الآثم مغلوبا على امره ،ولا يقوى على ردع نفسه، او تأخذه العزة بالإثم ! بل تجده منوها الى الصراع بين الشخصية واهواء النفس ، واثر ذلك الصراع الذي يقترن بالجهاد الأكبر كما نبه اليه النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله) .
وهنا يعرض الى عودة السروجي بعد هذه المقامة الى مدينته البصرة، بعد غربة مديدة ، وترحال طويل ، وكيف انه اشهر عن توبته التي أضحت امرا محتوما لا مناص منه . وان لا مكان للمعصية في حياته اليوم ، وكشعور بالاطمئنان والوفاء والانتماء الى المكان الام ليعلن عن توبته في دائرة حضنه الأولى ، وكيف لا وهي : ( اوفى البلادِ طُهرةً، وأقومُها قبلةً ) . ويذكر معالم هذا المصر (ذو المعالم المشهورة ، والآثار المحمودة) . ثم يعرج بالقول ( عالمكم علامة كل زمان ، والحجة البالغة في كل أوان ، ومنكم من استنبط علم النحو ووضعه ، والذي ابتدع ميزان الشعر واخترعه ، وما من فخر الا ولكم فيه اليد الطولى ) .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat