ثورات الشعوب تبدا غالبا في المدن النائية المسحوقة و المغيبة بعيدا عن المركز المرفه او المطوق بالنظام واجهزته القمعية وتكاد تشترك بهذه الصفة جميع الثورات قديما وحديثا اذ إنها تبدأ في المدن البعيدة عن العاصمة حيث الحرمان والبؤس واللامساواة والتهميش بصوره المجسمة والكبيرة ولكن سرعان ما يمتد لسان البركان الى العاصمة ليدك عروش الظالمين الثورة الرومانية مثلا والتي انطلقت ضد حكم تشاوشيسكو الاستبدادي بدأت في مدينة نائية على الحدود الهنغارية تدعى تيميشوارا ونفس الشئ حصل مع الثورة الفرنسية اذ ان شرارتها الاولى كانت في باريس (قبل ان تصبح عاصمة) حيث كانت فرساي هي العاصمة السياسية, اما في الثورات العربية الحالية فان ثورة تونس بدأت في مدينة سيدي بوزيد والمصرية بدات في السويس والليبية في بنغازي والسورية في درعا واليمنية في تعز وكلها مدن اطراف بعيدة عن العاصمة مما يشير الى اهمية الانصات الى معاناة الجماهير في المدن البعيدة لان لسان النار لايدخر شيئا اذا ثارت الشعوب وانطلقت من عقال خوفها, ولكن المفارقة تحصل عندما تنتصر الصورة و يصار الى بناء نظام جديد ويتفاجئ الثوار الفقراء بعدم حصول تحول فعلي في واقع مدنهم الفقيرة والمحرومة وتحت ذريعة الكفاءة والاستحقاق العلمي تذهب المناصب الى ابناء الطبقات المرفهة ليتواصل وبنسق وحلة جديدة مسلسل افقار الفقير واغناء الغني والامر دواليك , فالفقر يورث فقرا وجهلا والغنى يورث اموالا وعلاقات مشبوهة وفساد وشهادات عليا من ارقى الجامعات فمناصب فمصالح فامتيازات وهكذا , ولقد حاول الكثير من منظري الثورات الوقوف على الحل الاكثر انصافا للمحرومين ومحاولة تقليل حدة التفاوت في مستويات المعيشة والدخل او تعويضهم في مرحلة مابعد السلطة الاستبدادية الا انهم وقعوا في مشكلة تتلخص في ان مرحلة الدولة تختلف عن مرحلة الثورة فالثورة تحتاج الى مقاتلين وليس بالضرورة ان يكونوا اصحاب شهادات او خبرات ادارية بينما تحتاج الدولة الى الكفاءات العلمية وهنا يقع التقاطع بين اعادة بناء النظام الجديد والمغامرة باستخدام العناصر المشكوك بولائها او عائديتها الفكرية للحقبة السابقة او خوض المعترك بعناصر غير كفوءة ولاتملك مهارات ادارية اوعلمية اعتمادا فقط على مستوى ولائها ورصيدها الثوري وتحمل نتائج الاخفاقات بل وحتى الكوارث التي يمكن ان يتسبب فيها هؤلاء(الثوار) عند تسلمهم لمناصب حساسة تحتاج منهم الخبرة والجراة والقرار الواعي وهو الخطا الذي عانت منه مصر كثيرا بتولي احد صغار الضباط (عبدالحكيم عامر )منصب القائد العام للقوات المسلحة بعد ثورة 1952 وما تسبب به من هزيمة ثقيلة امام اسرائيل مازالت مصر تأن من جرائها حتى الان , هذه الاشكالية تناولها فيلم خيوط العنكبوت بطولة محمود ياسين و مجدي وهبة ورغدة عن قصة الكاتب نبيل راغب و اخراج عبداللطيف زكي حيث تم استحضار فكرة الثورة من خلال اجواء الاحتجاج داخل احدى المنشات الصناعية على الادارة الفاسدة حيث تصدى لقيادة الاحتجاج العمالي المهندسان (محمود ياسين ومجدي وهبة ) واضعين اهداف التحرك على اساس تطهير المؤسسة من العناصر الفاسدة وتحقيق مطالب العمال المتمثلة في تعديل الاجور والرعاية الصحية مع توفير التعليم لابنائهم وما تلبث الثورة ان تنجح حتى يتسلم احد قادة الجماهير العمالية (محمود ياسين ) ادارة المؤسسة ليواجه الفارق بين مرحلتي الثورة والقيادة الميدانية في استعارة ذكية من كاتب النص لوضع قادة الدول الخارجة للتو من الوضع الاستبدادي حيث تتجاذبهم قوتا اغراءات السلطة الغير مقيدة من جهة وضعف مؤهلات العناصر الثورية مايمنعها من تولي المهام القيادية بسبب افتقارهم للخبرة والكفاءة فضلا عن التحصيل العلمي , وهذا مايضطر محمود ياسين الى الاستعانة ب (رغدة) وهي عشيقة المدير السابق والتي تمثل عنصرا اساسيا من عناصر النظام القديم لما تتمتع به من مهارات في الترجمة والادارة واعمال السكرتارية بعد التخبط الذي عانى منه من جراء استخدام شخصية عمالية (نبيل السوقي) وشيئا فشيئا بين قوتي الفساد القديم وبريق السلطة يذوب القائد الثوري في عصيدة الفساد ليتحول الى طاغية جديد يضيف الى مجتمعه رقما جديدا في تسلسل الاستبداد , مما تقدم نخلص الى حقيقة مفادها ان الثورات التي يكون في الغالب ابناء الطبقات المحرومة وقودها ومادتها الاساس سرعان مايتم سرقتها لاحقا من قبل العناصر الانتهازية التي جبلت على مسح الاكتاف لما لهذه العناصر من امكانيات نفسية تؤهلهم لتقبل كل وضع جديد بقناع يتناسب معه فضلا عما اكتسبوه من خبرات بفضل تزلفهم المشبوه للسلطة في كل وقت مايجعلهم ( كفاءات مطلوبة) وتاريخنا الحالي والماضي يزخر بهذه العينات من الذين يمتلكون بالفطرة مؤهلات تبديل الجلد كل موسم على قاعدة المثل الشعبي العراقي( اللي ياخذ امي يصير عمي).
د.ميثم مرتضى الكناني
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat