صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

الحُسن والقبح مقارنة بين اتجاهي السيّد المرتضى والعلامة الحلّي وتأثيرهما على مدرسة كربلاء الأصوليّة (3)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

المحور الثاني: تطبيقات العقل العملي فـي نصوص الرجلين

عرفنا في المحور الأوّل أن السيّد المرتضى والعلامة الحلّي قد تابعا بإخلاص موقف العدلية في قضية الحسن والقبح (العقل العملي). وفي هذا المحور نريد أن نتابع تطبيقات هذه المسألة في نصوص الرجلين, وما نريد ملاحظته تطبيقها في باب العدل أحد الأصول الاعتقادية لدى العدليّة (الإمامية - المعتزلة). أمّا المسائل التي سوف نتوقّف عندها فهي:

1) أن الله لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب.

2) قاعدة اللطف ومعطياتها.

3) الآلام والأعواض.

4) الوعد والوعيد.

وسوف نلاحظ في هذه العناوين الأربعة أن الرجلين هل بقيا أسيرين لما أسّسا له من الحسن والقبح العقليّين أم أنهما تأثّرا بانتمائهما للشريعة وما فيها من قوانين وأحكام.

1) إنّ الله لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب:

قرّر السيد المرتضى والعلامة الحلّي هاتين المسألتين بوضوح اعتماداً منهما على ما أسّسا له من الحسن والقبح العقليين. فإذا كان القبيح والحسن واحداً عند القديم والمحدث فإن القديم يتحدد سلوكه العملي وفق هذه القاعدة كما يتحدد سلوك المحدث.

يقول السيّد المرتضى: (يجب أن يكون تعالى قادراً على القبيح... ولا يجوز أن يفعل القبيح لعلمه بقبحه ولأنه غني عنه)(1). وقال في الذخيرة: (يجب أن يكون تعالى حكيماً مأموناً منه فعل القبيح أو الأخلال بالواجب, ليعلم انتفاء القبيح من هذا التكليف)(2).

وقال العلامة: (أقول: اختلف الناس هنا؛ فقالت المعتزلة أنه تعالى لا يفعل قبيحاً ولا يخل بواجب, ونازع الأشعرية... والدليل على ما اختاره المعتزلة أن له داعياً إلى فعل الحسن وليس له صارف عنه.. وهو عالم بحسن الحسن وقبح القبيح... ومن المعلوم بالضرورة أن العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر منه.. وأيضاً لو جاز منه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب لارتفع الوثوق بوعده ووعيده لإمكان تطرّق الكذب عليه)(3).

وقد ذكر العلامة في الرسالة السعديّة نفس المطلب بتمامه, ورتّب على قول الأشاعرة عدّةً من المحالات واللوازم الباطلة؛ كامتناع الجزم بصدق الأنبياء عليهم السلام, واسناد القبائح إليه تعالى, وعدم الجزم بصدقه تعالى, وانتفاء فائدة التكليف وبالتالي انتفاء فائدة البعثة(4).

وواضح جداً من هذه النصوص أن الرجلين قد وافقا الاتجاه المعتزلي في تنزيه الله تعالى عن فعل القبيح والاخلال بالواجب من خلال الربط بين علم الواجب تعالى بالقبيح واستغنائه عنه وعدم فعله, ومن ثم المصير إلى قاعدة: (أن كلّ عالم بالقبيح مستغن عنه لا يفعله), وحيث أن الواجب تعالى عالم بالقبيح وهو غني عنه فهو لا يفعله.

ونحن لو قمنا بمراجعة نصوص شيوخ الإعتزال فإنّا سوف نجد هذا المطلب بعينه, فعلى سبيل المثال هذا القاضي عبد الجبار الهمداني رئيس تيار الإعتزال في وقته يقرّر التالي: (إن الله عالم بقبح القبيح وأنه مستغن عنه, وعالم باستغنائه عنه, وأن من هذه حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه)(5). وكذا قرّر غيره من رجال الإعتزال.

إن المتأمل في نصوص الرجلين هذه يرى أنهما قد استندا لقاعدة قياس الغائب على الشاهد كقاعدة في التنزيه الأخلاقي في أفعال الواجب تعالى, هذا القياس الذي يركن إلى عقلية الحسن والقبح. فالحسن والقبح على هذا تعتبر المصفاة التي تُغَربل بها الآراء الأخلاقيّة والسلوكيّات العمليّة.

ولكن من حقّنا أن نسائل الرجلين عن صحّة هذا القياس, ونحن نعلم أن الأخلاقيات عند الأنسان ليست على وتيرة واحدة ومستوى واحد من الوضوح, فلو سلّمنا مع مذهب هؤلاء الأعلام في أن قضايا الحسن والقبح قضايا عقلية يدركها العقل دون أن يكون للاجتماع الإنساني دور في تكوينها, ولكن كون هذا مصداق للظلم أو للعدل لا يخضع لنفس ذلك الإدراك, وإنما هو تابع لملابسات وظروف, ومن ثم فهما أمران مكتسبان وليسا ضروريّين, وبالتالي فكيف نقيس الغائب (القديم) على الشاهد (المحدَث) في أخلاقياته الخاضعة لظروفه وملابسات حياته؟.

أياً كان الأمر فقد جعل الرجلان تبعاً للمدرسة العدلية الأفعال الإلهية في عدم فعل القبيح والإخلال بالواجب خاضعة للمعيار الأخلاقي الذي تخضع له أفعال الإنسان على أساس من وحدة ذلك الميزان, وجوهر هذا المعيار يتكئ على ركيزتين:

الأولى: إن العقل يدرك الحسن والقبح بالضرورة, وهذا ما تم الاستدلال عليه في المحور الأول من هذا البحث. وتقدم ذكر نصوص الرجلين في ذلك.

الثانية: إن الحسن والقبح وإن ارتبطا لدى الإنسان بالنفع والضرر إلا أنهما يطلبان لذاتهما.

والملاحظ أن نمط استدلال السيّد المرتضى في المسألة مركّب من أمرين:

الأول: إن الواجب تعالى يعلم بقبح القبيح. وهذا العلم لا شك في استناده إلى تلك الإحاطة التفصيلية للواجب سبحانه بالنسبة لمخلوقاته. فهو يعلم ذوات الأفعال وما فيها من حسن وقبح, كما يعلمها الإنسان حسبما قرّر المرتضى ذلك في نصّ له(6).

الثاني: هو أنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه غني عنه. فالواجب تعالى غني مطلق, والغني المطلق لا يفعل القبيح, لأن القبيح أنما يفعل لأجل التوصّل به لغاية معينة لا يتوصل إليها إلا من خلاله. وهذا إنما يتصوّر في حقّ الفقير العاجز دون الغني القادر.

أمّا في الذخيرة فقد اتجه المرتضى نحو هذا المطلب من خلال الاستعانة بدليل الحكمة. فالواجب حكيم, والحكيم لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب لأنهما ينافيان غرضه وهو عبث, والحكيم لا ينقض غرضه ولا يعبث.

أما نصّ العلامة الذي نقلناه عن شرحه للتجريد وجاء بعينه في الرسالة السعديّة, فهو يتوافق فيه مع المرتضى في الاتجاه نحو تحليل عقلي لإثبات أن الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب العملي. ولعلّه من المستحسن أن نرجع لنصّ العلامة حيث يقول: (أن له داعياً الى الفعل الحسن وليس له صارف عنه, وله صارف عن الفعل القبيح وليس له داع اليه, وهو قادر على كل مقدور, ومع وجود القدرة والداعي يجب الفعل. وانّما قلنا ذلك لأنه تعالى غني يستحيل عليه الحاجة, وهو عالم بحسن الحسن وقبح القبيح, ومن المعلوم بالضرورة أن العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر عنه, وأن العالم بالحسن القادر عليه اذا خلا من جهات المفسدة فإنه يوجده. وتحريره أن الفعل بالنظر إلى ذاته ممكن وبالنظر الى علته واجب, وكل ممكن مستند الى قادر فإن علته انما تتم بواسطة القدرة والداعي, فاذا وجد فقد تم السبب, وعند تمام السبب يجب وجود الفعل)(7).

ومن الجليّ أنه عند تفكيك هذا النص نجده يرجع إلى دعوى أن الذات الإلهية المقدسة لديها العلّة التامة لترك القبيح وفعل الحسن. إذ العلّة التامة لفعل القبيح ما هي إلا وجود المقتضي (العلم والداعي والقدرة), وارتفاع المانع والصارف(8).

ثم أن الرجلين تبعاً للعدليّة وإن قالا بأن الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب, إلا أنهما أثبتا قدرته تعالى على فعله. وحقيقة الأمر أنه يوجد خلاف بين رجال الإعتزال بشأن ربط القدرة الإلهية بفعل القبيح, فهناك من ذهب بأن الواجب تعالى لا يوصف بالقدرة على القبيح كما هو عند النظّام, وكذا نسب هذا الاتجاه إلى الجاحظ والإسكافي وجمهور معتزلة بغداد(9).

وهناك من أثبت قدرة الواجب تعالى على فعل القبيح وإن لم يفعله لما تقدم, وهو اتجاه القاضي عبد الجبار المعتزلي والجبائيين والرجلين وسائر الإماميّة. قال السيّد المرتضى: (يجب أن يكون تعالى قادراً على القبيح لأنه قادر لنفسه)(10).

وقال العلامة: (ذهب العلماء كافة الى أنه تعالى قادر على القبيح إلا النظام, والدليل على ذلك أنا قد بينا عموم نسبة قدرته الى الممكنات, والقبيح منها فيكون مندرجاً تحت قدرته)(11).

فنصوص الرجلين تؤكد تبعاً للأغلب أن عدم فعل الواجب للقبيح لا يلازمه عدم قدرته عليه, كما أن وجود قدرته على القبيح لا يلزم منه فعله, إذ الامكان هنا امكان ذاتي بالنسبة الى ذات الفعل القبيح, أما امتناع صدوره منه تعالى فهو امتناع لاحق ناشئ من حكمته تعالى.

على أن لا يفوتنا تسجيل ملاحظة على نص العلامة, حيث أنه نسب القول بقدرة الواجب على فعل القبيح لـ(كافة) العلماء, وأخرج النظّام من ذلك فحسب. إن هذا القول من العلامة على عمومه لا يساعد عليه الواقع التاريخي للمسألة كما يتضح بمراجعة نصوص رجال العدلية.

2) قاعدة اللطف ومعطياتها:

تعتبر قاعدة اللطف من القواعد الكلامية المهمة, وهي قاعدة متفرّعة ومبنية على أساس العدل الإلهي القائم على الحسن والقبح العقليّين. إذ يراد بهذه القاعدة إدراك العقل ما يكون واجباً على الله تعالى بحكم كونه عادلاً لا يفعل الظلم, وإنّما سميت باللطف تأدّباً(12). 

ولقاعدة اللطف تطبيقات متعدّدة في مجالات مختلفة كمبحث النبوة العامّة في علم الكلام وكذا لها تطبيقات في علم أصول الفقه كما هو الحال في بحث الإجماع وحجيّة خبر الواحد وغيرهما.

لا تعنينا هنا كلّ هذه البحوث, وإنما نحن معنيّون بعرض وجهتي نظر الرجلين (المرتضى- الحلّي) بشأن هذه القاعدة والتأسيس النظري لها وتلمّس معطياتها وفق ما جاء في كلماتهما.

عرّف السيّد المرتضى اللطف بأنه: (ما دعى إلى فعل الطاعة)(13). وقال في جمل العلم والعمل: (وما يعلم الله تعالى أن المكلف يختار عنده الطاعة ويكون إلى اختيارها أقرب, ولولاه لم يكن من ذلك, يجب أن يفعله... وهذا هو المسمّى لطفاً)(14).

وجاء في رسالة الحدود والحقايق: (اللطف ما عنده يختار المكلف الطاعة, أو يكون أقرب إلى اختيارها, ولولاه لما كان أقرب إلى اختيارها مع تمكنّه في الحالين)(15).

أما العلامة الحلي فيعرّف اللطف بقوله: (ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية, ولم يكن له حظ في التمكين ولم يبلغ حدَّ الإلجاء)(16).

والذي يلاحظ أن العلامة قد تابع المرتضى في تعريف اللطف. كما يلاحظ أن هذا التعريف للّطف الذي ذكره الرجلان, قد جاء في كلمات أعلام المعتزلة, فهذا القاضي عبد الجبار يقرّر: (ما يكون عنده أقرب إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح مع تمكنه من الفعل في الحالين)(17).

أما لماذا يجب اللطف على الله تعالى؟ فيقرّر الرجلان لذلك الدليل التالي: إن اللطف إنّما يجب لأن غرض المشرِّع إنما يحصل من خلاله, وبما أن حصول الغرض متوقف على هذا اللطف فيكون واجباً على ذلك المشرِّع, وإن لم يفعله أدى ذلك إلى نقض غرضه.

وقد مثَّل الرجلان لذلك بمثال الدعوة إلى الطعام. فلو دعى شخصٌ آخرَ إلى طعام وهو يعلم أن المدعو لا يجيب إلا إذا فعل صاحب الدعوة نوعاً من التأدّب مع المدعو, فإذا لم يفعل صاحب الدعوة ذلك النحو من التأدّب كان ذلك نقضاً لغرضه, وبالتالي وجوب تحصيل غرضه يدعوه إلى فعل ذلك التأدّب... وكذا في حقّه تعالى, فإذا علم تعالى أن المكلَّف لا يطيع إلا باللطف وجب عليه وإلا إذا لم يفعله كان نقضاً لغرضه(18).

لا شك أن القول بوجوب اللطف هو نتيجة طبيعيّة للحسن والقبح العقليّين, والملاحظ كذلك أنه يوجد خلاف بين رجال الإعتزال حول وجوب اللطف حيث اختار القاضي عبد الجبار القول بوجوبه. يقول الدكتور عبد الكريم عثمان:

(ذهب جمهور معتزلة بغداد إلى أن اللطف واجب على المكلّف كوجوب التمكين. ومن القائلين بهذا الرأي بشر بن المعتمر وجعفر بن حرب, فقد حكى الخيّاط عن بشر أنه قال: إن عند الله ألطافاً لو فعلها للكافر لآمن, إلا أنّه ليس يجب عليه فعلها لأنه يجب على الله فعلُ الأصلح. وأنكر جمهور معتزلة البصرة قول بشر هذا لأن مثل هذا اللطف يعتبر خرقاً لقوانين العدالة الإلهيّة, فإذا كان الله يعلم أن فعله بالمكلف أصلح له فإن عليه أن يفعله. وقد انتقد القاضي رأي بشر هذا وسمّاه وأصحابه من البغداديّة باسم أصحاب اللطف, لأثباتهم في مقدور الله ما ينفيه الآخرون)(19).

على أنه يلزم التنبيه على أمر مهم, وهو أنه ليس المراد من وجوب اللطف على الله سبحانه ما يتبادر إلى أذهان السطحيّين من الناس من حاكمية العباد على الله تعالى, مع أنّه سبحانه هو الحاكم الفاصل, بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى, فإن أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى, كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى.

يقول الفاضل المقداد السّيوري (ت 826 هـ) في إشارة منه للأشاعرة وانكارهم للوجوبات العقلية العملية بناءً على إنكارهم للحسن والقبح العقليّين: (..وتوهمهم أنّه لا حاكم على أحكم الحاكمين, ولم يعلموا أنّه سبحانه بإعطائنا العقول السليمة الحاكمة بذلك, هو الحاكم في الحقيقة..)(20).

ثم أنهم قسّموا اللطف إلى قسمين رئيسين:

الأول: اللطف المحصّل وهو الذي يكون مقرّباً للمكلَّف من فعل الطاعة بنحو لا يختار معه فعل القبيح.

الثاني: اللطف المقرّب وهو الذي يكون معه المكلَّف أقرب إلى فعل الطاعة من المعصية وإن كان قادراً على الإثنين معاً.

والقسم الأول هو العصمة التي يفعلها الله تعالى في الأنبياء والأوصياء^, والثاني هو ما يعرف بالتوفيق(21).

قال العلامة الحلّي في بيان القيود التي ذكرها في تعريف اللطف: (واحترزنا بقولنا: ولم يكن له حظ في التمكين عن الآلة، فإن لها حظا في التمكين وليست لطفاً. وقولنا: ولم يبلغ حدّ الإلجاء، لأنّ الإلجاء ينافي التكليف واللطف لا ينافيه. هذا اللطف المقرّب.

وقد يكون اللطف محصّلاً وهو ما يحصل عنده الطاعة من المكلَّف على سبيل الاختيار، ولولاه لم يطع مع تمكنّه في الحالين)(22).

وقال السيّد المرتضى: (وينقسم إلى: ما يختار المكلَّف عنده فعل الطاعة ولولاه لم يختره, وإلى ما يكون أقرب إلى اختيارها. وكلُّ القسمين يشمله كونه داعياً)(23).

وهذا اللطف الذي يجب على الله تعالى بناءً على الحسن والقبح العقليّين, لا يكون على كلّ حال وإنما له شروط وأحكام لا بدَّ من توفّرها. وهي خمسة على ما جاء في كلمات الرجلين وغيرهما من الأعلام:

1) أن تكون هناك مناسبة بين اللطف والملطوف به.

2) أن لا يبلغ اللطف إلى حدِّ الإلجاء.

3) أن يكون المكلَّف عالماً باللطف وتحققه. سواء كان علمه هذا تفصيلاً أو اجمالاً حسب حالة المكلَّف.

4) أن يكون الفعل الملطوف فيه مشتملاً على صفة زائدة على حسنه الذاتي. والمراد من الصفة الزائدة هي صفات الوجوب والندب في الفرائض والنوافل.

5) أن اللطف لا يجب فيه أن يكون متعيّناً بفرد مشخّص من الفعل, بل يجوز فيه أن يكون مخّيراً بين فعلين يشتمل كلُّ واحد منهما على جهة المصلحة المطلوبة الموجودة في الفعل الآخر, فيقوم مقامه ويسدَّ مسدّه(24).

ولكن يلاحظ أن كون اللطف مشتملاً على صفة زائدة على حسنة هذا هل هو مأخوذ من العقل المدرك للحسن والقبح بناءً على رأي متكلّمي العدليّة, أو هو مأخوذ من الشرع؟.

من الواضح جداً تأثّر ذلك بالأحكام الفقهيّة, حيث أن هذا التقسيم للفعل إلى الوجوب والندب وغيرها تقسيم شرعي مصدره السمع وليس للعقل الحاكم بالحسن والقبح دور فيه. بل العقل العملي إما أن يحكم بلزوم الفعل أو بلزوم الترك, وليس في أحكامه شيء اسمه الندب.

من جملة القضايا التي ترتبط بقاعدة اللطف هي مسألة وجوب فعل الأصلح على الله تعالى, حيث ترتبط ببحث اللطف ارتباطاً وثيقاً. وقد تنوّعت مواقف المتكلّمين منها على آراء مختلفة بين أشاعرة وعدليّة وبين العدليّة أنفسهم, وقد أطنب السيّد المرتضى فيها ما يمكن ملاحظته في الذخيرة(25).

وفي بحث اللطف أثيرت مجموعة من الإشكاليات حاول الرجلان الإجابة عنها وفق ما بنيا عليه من منهج, ومن هذه الإشكاليات:

- هل يجوز على الله أن يخلق من يعلم أنه يكفر؟.

- هل يجوز على الله أن يبقي من يعلم أن حاله أنه يكفر؟.

- هل تجوز إماتة من يعلم الله تعالى أنه سوف يؤمن؟.

- هل يجوز أن يزيد الله تعالى في قوّة الشهوة لدى المكلَّفين؟.

وترتبط هذه الإشكاليات بالواجبات الأخلاقية العملية على الله تعالى وفق المعيار في الحسن والقبح عند العدليّة.

ثم أنه توجد تطبيقات متعددة لقاعدة اللطف المتقدمة, وأهم هذه التطبيقات:

أولاً: وجوب بعثة الرسل لهداية الناس.

ثانياً: وجوب عصمة الرسل المبعوثين.

فبعثة الرسل لطف من الله تعالى, وكذا عصمتهم عن الوقوع في الخطأ والفواحش ما ظهر منها وما بطن من اللطف الواجب عليه تعالى. وسوف نتابع كلمات الرجلين في هاتين المسألتين من تطبيقات قاعدة اللطف.

يتبع..

الهوامش:

(1) رسائل المرتضى- جمل العلم والعمل 3: 12. 

(2) الذخيرة في علم الكلام, الشريف المرتضى: 107, تحقيق: السيد أحمد الحسيني, مؤسسة النشر الإسلامي- قم, الطبعة الثالثة 1431هـ.

(3) كشف المراد: 421. 

(4) الرسالة السعدية, العلامة الحلّي 56- 58.

(5) شرح الأصول الخمسة, القاضي عبد الجبار الهمداني 302. 

(6) الرسائل- مسألة في الحسن والقبح: 179. 

(7) كشف المراد: 421. 

(8) الحكمة العملية: 73. 

(9) الأسس العقلية.. دراسة في المنطلقات العقلية للبحث في علم أصول الفقه, السيد عمار أبو رغيف 2: 339, دار الفقه للطباعة والنشر, الطبعة الثانية 1426هـ

(10) رسائل المرتضى- جمل العلم والعمل: 12. 

(11) كشف المراد: 420. 

(12) بحوث في علم الأصول.. تقريرات بحث الشهيد الصدر, بقلم: السيد محمود الهاشمي 4: 305, مركز الغدير للدراسات الإسلامية, الطبعة الثانية 1417هـ.

(13) الذخيرة: 186. 

(14) رسائل المرتضى- جمل العلم والعمل: 13. 

(15) رسائل المرتضى- الحدود والحقايق 2: 280.

(16) كشف المراد: 444. 

(17) نظرية التكليف.. آراء القاضي عبد الجبار الكلامية, د. عبد الكريم عثمان: 389, مؤسسة الرسالة. 

(18) رسائل المرتضى- جمل العلم والعمل: 13 ؛ كشف المراد: 444- 445. 

(19) نظرية التكليف: 395- 396. 

(20) اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية, المقدار السيوري الحلّي: 226, تعليق: الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي, مجمع الفكر الإسلامي- قم, الطبعة الأولى 1424هـ.

(21) الذخيرة: 186. 

(22) كشف المراد: 444. 

(23) الذخيرة: 186. 

(24) الذخيرة: 187 فما بعدها ؛ كشف المراد: 447- 448.

(25) الذخيرة: 199- 210. وانظر كذلك العلامة في كشف المراد: 465- 466. 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/10/06



كتابة تعليق لموضوع : الحُسن والقبح مقارنة بين اتجاهي السيّد المرتضى والعلامة الحلّي وتأثيرهما على مدرسة كربلاء الأصوليّة (3)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net