مشكلة كل السجانين مع هذا السجين الثمين ..الفريد من نوعه هو انه يبدوا لهم وكانه (محض الخير ) لذلك هم غير مرتاحين لوجوده في السجن ..ما ان يدخل سجنا حتى يستميل قلوب السجانين وكلما احس اعوان السلطان ببوادر تعاطف السجانين مع السجين بادروا الى نقله الى سجن اخر حتى افضى به الامر الى سجن (ابن شاهك ) وهو رجل ذو قسوة على غير الموالين لنظام الحكم ..لكن حتى ابن شاهك هذا كاد ان يتفطر قلبه لأمر هذا السجين العابد الساجد ..وهو لا يجهل مكانة هذا السجين وجلالة قدره ولكنه يعلم مدى خطورة اي نوع من انواع التعاطف معه .ولم يكن الرجل سعيدا بوجود الامام موسى ابن جعفر في سجنه بل تمنى ان يكون في سجن اخر .. لكن الاوامر الاتية من قصر الخلافة لا يمكن ردها وهو شديد الحرص على تطبيق تلك الاوامر ومهما كان مضمونها..وحين اتاه رسول الخليفة من بغداد قرأ في عينيه بوادر امر خطير ...
_ لدي امر بانهاء حياة هذا السجين !!
_ من اية جهة هذا الامر ؟
_ من الخليفة نفسه ...
_ والله لا ادري ..هل انا فرح لهذا الامر الذي جئتني به ام حزين !
_ ولماذا لا تفرح ..؟..عدو للخليفة يغادر الحياة .
_ كنت اتمنى ان لا يكون تنفيذ هذا الامر بيدي ...
_ سوف لن يشق الامر عليك كثيرا ..لا يطالبك الخليفة بقطع رأسه وارساله اليه .. بل يدعوك ان تعطيه عنقود عنب ليأكله وحين يصل معدته .. ينتهي كل شيء ..لتفتح الباب على سجينك صباحا لتجده ميتا ..هكذا بكل بساطة ...
_ معنى ذلك انهم حددوا لك وسيلة انهاء حياة هذا السجين الخطير .
_ نعم ..عنقود عنب ..ولعل الذي اختار الوسيلة يعرف ان المودع عندك يحب هكذا نوع من الفاكهة !!
_ من حسن حظ هذا السجين ان الخليفة مهتم بشانه الى هذا الحد .. الى حد ان يوفر له الفاكهة التي يشتهيها قبل ان يغادر الحياة..!!
_ هل حددوا لك وقت التنفيذ ؟
_ ان لا تشرق شمس الغد الا وهذا السجين قد فارق الحياة ...
في هذه الاثناء دخل الحارس وهو يقول لابن شاهك :
_ ان الرجل ما زال مصرا على مقابلتك مرة اخرى يا سيدي !
التفت ابن شاهك الى رسول الخليفة قائلا :
_ هل تدري ماذا يريد هذا الرجل مني ؟
_ ماذا يريد ؟
_ يريد ان يرى هذا السجين المحكوم عليه بالموت ولو للحظة واحدة ...
_ ولم لا تلبي له طلبه ؟
_ البي طلب من يحب من سخط عليه الخليفة واودعه السجن ؟!
_ ارى من المصلحة ان تأذن له بذلك ..لا بد انه من محبي الامام وشيعته وحينما يرى امامه وهو حي يرزق سيشيع ذلك بين الناس حتى اذا ما تسرب اليهم خبر موته سوف لن يصدقوه وليس من مصلحتنا ان يعلم الناس خبر مقتله ...
_ كدت اطرده او اسجنه لولا رأيك هذا فيه ...لكن ما دامت مصلحة الدولة تقتضي غير ذلك فاني سوف ائذن له برؤية صاحبه .
كاد الرجل ان يطير فرحا حين اذن له السجان برؤية امامه وهو في سجنه .
كانت الرقابة شديدة والوقت محدد بالقاء نظرة على الامام فقط .
سال الموالي الامام موسى ابن جعفر قائلا له :
_ متى الفرج يا سيدي ؟
نظر اليه الامام مشفقا وقال :
_ الفرج قريب انشاء الله تعالى ...
_ متى ياسيدي ؟
_ غدا
_ واين ؟
_ عند الجسر ببغداد ...
لم يكن ثمة مزيد من الكلام ليستوضح من الامام اكثر من ذلك ..اذ نهره السجانون بشدة وسحبوه الى خارج السجن .
تقدم السجان من الامام وهو يحمل اناء فيه عنقود من العنب وهو يقول :
_ هذا عنقود من العنب مهدى لك من رجل لا يوجد احد في هذه الدنيا لا يفرح بهديته ..!
نظر الامام الى عنقود العنب وقال :
_ لا رغبة لي في الفاكهة ..اريد ان اكمل صلاتي .
قال السجان :
_ الامر لا يتعلق برغبتك بل برغبة الخليفة !!
_ هل هو امر من الخليفة ان اكل من عنقود العنب هذا ؟
_ نعم لا مفر من ذلك ولا مهرب !
_ وان امتنعت عن ذلك ؟!
_ الخليفة يعاملك معاملة خاصة من دون بقية السجناء في مملكته ..ولذلك ارسل اليك عنقود من العنب !!
_ ان فيه نهاية لحياتي ...
_ نعم ...ولكنها نهاية مريحة قد يتمناها الكثير من السجناء المحكوم عليهم بالموت ..لانك تعلم ياسيدي بوجود وسائل كثيرة لانهاء الحياة ..وطريقة عنقود العنب هي من افضل الوسائل لمغادرة الحياة ..من الممكن ان يتركونك ان تموت جوعا او عطشا ..او يطعمون جسدك للاسود الجائعة او يبنون عليك اسطوانة فتموت مختنقا فيها ..او غير ذلك من الوسائل الاخرى التي قد لا تخطر في بالك ...
قال الامام :
_ نعم ممكن ذلك ان يحدث ...
قال السجان :
_ اذن تناول عنقود العنب هذا ..فانه افضل وسيلة للخلاص من هذا العذاب .
تناول الامام عنقود العنب المسموم ليأكل منه بضع حبات ..ولعل حبة واحدة تكفي لكي يغادر الحياة الدنيا ويفتح عينيه على الحياة الاخرة مستبشرا بلقاء جده الرسول محمد (ص) ليشكوا اليه ما لقي من مرارة السجون وضنك الحياة التي سيطر عليها الظالمون .
لم يذق الرجل (المحب لاهل البيت) طعم النوم بعد ان بشره الامام باللقاء غدا عند الجسر ...
ظل يترقب طلوع الشمس ..وحين طلعت مضى مسرعا مع رفيق له الى حيث مكان اللقاء..
صدى كلام الامام لا يفارق سمعه (غدا ..عند الجسر ببغداد )...
كانت الشمس تنشر اشعتها الذهبية في ذلك الصباح الحزين ..لكنها بدت عاجزة عن تبديد الضباب المتكاثف فوق الجسر فبدى الجسر غامضا ...
ليت السجان امهله قليلا لكي يعرف مكان وزمان اللقاء بصورة دقيقة...
(غدا على الجسر ببغداد ) ...
ها هي شمس الغد قد اشرقت ...
وهذا هو الجسر الذي ممكن ان يتم فيه اللقاء ...
قال الرجل لزميله الذي معه :
_ لنجلس هنا نراقب طرفي الجسر ..وننتظر مجيء الامام ...
لم ينتظروا طويلا حتى سمعوا لغطا ورأوا شيئا لم يتبينوا معالمه .
في بداية الامر كان ذلك عند طرف الجسر من جهة الرصافة ..وبعد التمعن والانتظار تبين لهم بان هناك جنازة في طريقها لاجتياز الجسر الى طرفه الاخر حيث مقابر قريش ..جنازة عادية يمشي ورائها نفر قليل ...
_ اليس لهذا الميت اهل او عشيرة يمشون وراء جنازته ؟!
_ لعله من بلاد بعيدة ومات في ارض الغربة ...؟!
ومشى الرجلان وراء جنازة الرجل الذي ظنوه غريبا وهم لا يدرون انها جنازة امامهم الموعودين بلقائه فوق الجسر ...
ولو علم الناس بان هذه الجنازة التي تلفها وحشة غريبة , ويمشي ورائها نفر قليل هي لسليل النبوة ووريث الامامة موسى ابن جعفر الكاظم لاضحت الجنازة تمشي على بحر من البشر وتطفوا على بحر من الدموع ...
لكن القائمين على امور الحكم يعرفون جيدا عاقبة ان يشيع بين الناس خبر موت الامام في داخل السجن ..هم يخشون من زلزال جماهيري قد يطيح بكراسي حكمهم ويغوض سلطانهم ..لكن روح صاحب هذه الجنازة قهرت الظالمين واقضت مضاجع السجانيين وبقية خالدة ومشرقة على مدار الزمن تهب الدنيا نورا ساطعا والى الابد ...
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat