الفشـل المجتمعي ، بين (العقائديـّـة) ... و (التبريريـّـة)
راسم المرواني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
راسم المرواني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قد يبدو للوهلة الأولى من قراءة هذا المقال ، إن بدايته لا علاقة لها بالعنوان ، ولكن ، سيتضح من خلال (ما بعد المقدمات) مدى أهمية البداية كمثال له مدخلية مهمة في أصل الموضوع .
إن من أسوأ الصفات التي يمكن للفرد أن يتصف بها هي صفة البخل ، لأنها يمكن أن تجر ورائها كثيراً من الصفات السلبية الأخرى ، أمثال (الجُبن) و (الدياثة) والتردد والنفاق والخذلان والخيانة والضعة وانعدام الاحساس وضعف الشخصية ، وغيرها من الصفات التي يمكن أن تورَّث للأبناء عبر الزمن ، والتي يرفضها ويستهجنها الشرع والعقل والمجتمع والأخلاق والفطرة السليمة .
وإن أسوأ أنواع البخل هو ما يتحول من (الفردية) إلى (المجتمعية) بحيث يصبح المجتمع برمته (بخيلاً) ، وتنتشر فيه أغلال اليد كانتشار الفايروس ، وبذلك تصبح صفة (البخل) صفة غالبة ، وتسمية تطلق على عائلة معينة ، أو مجتمع معين ، أو قومية معينة ، أو منطقة سكنية معينة ، بدءاً من القرية ، وانتهاءً بشعب كامل .
إن صفة البخل قد تنشأ عن أسباب مجتمعية أو نفسية أو تربوية ، ولكنها تبقى حالة لا علاقة لها بالتكوين الفسلجي للانسان ، ولا تورّث عبر الجينات ، لأن أي توريث عبر الخارطة الجينية فهو يخلي مسؤولية الانسان ، أي بمعنى أنه يدخل ضمن (المعذرية) ، ويصبح امتيازاً للعبد على المولى ، ولا يحق للمولى معاتبة أو محاسبة العبد لوجود خلل وراثي لديه ، ولا يحق للفقهاء أو مبسوطي اليد أقامة الحدود على الذين يعانون من خلل (وراثي) أو نقص في التكوين ، كما هو الحاصل مع (المثليين) الذين يعانون اضطراباً في إنتاج الهورمونات ، أو يعانون نقصاً في إفراز هورمون (التيستوستيرون) .
القرآن الكريم يخبرنا عن صفة البخل لدى اليهود ، دون الالتفات أو تسليط الضوء على البخل لدى كثير من الأفراد من غير اليهود ، والسبب في ذلك ، أن صفة البخل لدى اليهود كانت صفة (عقائدية) وليست صفة نفسية ، وكانت نابعة من موروثهم الديني ، وهذا أخطر أنواع الصفات ، حين تنشأ الصفة السيئة من معتقد ديني ، وتتحول شيئاً فشيئاً إلى موروث فكري ، وتصبح جزءاً من أخلاق وسلوك مجتمع كامل .
اليهود قالوا بأن (يد الله مغلولة) ، وهذا أحد المتبنيات العقدية الذي تحول إلى (سلوك) بحكم النتائج التي ترتبت عليه ، إذ نراه قد تطور وأصبح ذريعة لعدم الاحسان ، وامتناع عن مساعدة الفقراء ، وعدم الالتفات إلى حاجات الآخرين ، والاغماض عن متطلبات المحتاجين ، فقالوا :- (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟) .
إن عقيدتهم بأن (يد الله مغلولة) هي التي أنتجت قولهم (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) ، وبالتالي ، فقد تحولت هذه العقيدة إلى سلوك مجتمعي ، تاركة وراءها آلاف المتسولين والمحرومين المهيئين نفسياً لأن يتحولوا إلى مجرمين وسراق وقطاع طرق ، وأنتجت بصفة (تسلسلية) انهياراً في المنظومة القيمية لدى المجتمع .
إن من الخطورة بمكان أن تنتشر هذه الثقافة (القديمة) لدى أتباع (الشريعة المحمدية) ، تحت ذريعة جديدة (باطلة) ، مفادها يكمن في التساؤل التالي :- (أ نطعم من لو شائت الحكومة أطعمته ؟) ، وبالتالي ، فإن إلقاء الكرة بملعب (الحكومات الفاسدة) سينتج أفواجاً من الفقراء في المجتمع ، وبنفس التسلسل ستشيع الجريمة والانحلال والانحطاط المجتمعي ، وستتحول القيم الأخلاقية إلى منظومة جرائم تحت ذريعة العوز والجوع والحاجة .
إن البخل بمعناه الاصطلاحي لا ينحصر في (المال) ، بل يمتد ليشمل كل (منع) لما يحتاجه الانسان في حياته ، ابتداءً من (قرص الرغيف) مروراً بالتحية والابتسامة بوجه الأخوة ، وصعوداً إلى توفير (الخدمات) للفرد أو للمجتمع عموماً .
إن وجود حكومة (فاسدة أو صالحة) لا يخلي مسؤولية الفرد من واجبه تجاه بقية نظراءه في الدين والانسانية ، وإن (تقصير أو قصور) أو فشل الحكومة - كما هو حاصل في العراق - في تأدية واجباتها ، لن تصبح ذريعة للفرد في أن ينتهج منهج الاصفاح عن تحسس آلام وأوجاع وحاجات الآخرين ، بل على العكس من ذلك ، يجب أن تكون العلاقة (عكسية) بين جهد الحكومة ، وجهد الفرد .
فكلما ازداد فشل الحكومة أو السلطة في تحقيق المصالح العامة ، ينبغي أن يزداد جهد الفرد ونجاحه في تحقيق المصلحة العامة ، وأن يصب كامل جهده ووقته في خدمة الانسان ، بينما يحق له الركون إلى المثابة والاستراحة والتفرغ حين يرى إزدياد جهد الحكومة ونجاحها في تحقيق مصالح المجتمع ، رغم أن هذا لا يلغي مسؤولية الفرد بشكل منقطع .
إن الجهود (الانسانية) التي تبذلها بعض المؤسسات الانسانية والأفراد ، والتي تصب في بودقة (خدمة) المجتمع ، بشكل (تطوعي) ، وبمعزل عن سلطة أو توجيهات أو دعم (الحكومة) ، إنما يمكن وضعه في لائحة (الانتماء الانساني) ، الذي ينتقل بالفرد (المتطوع) إلى حالة متطورة من الحضارية المعززة بالسلوك المسؤول ، وهذا ما أراده الله سبحانه وتعالى حين قال لملائكته (إني جاعل في الأرض خليفة) .
إن من أهم ما يميز الانسان ويضعه في المرتية العليا من المملكة الحيوانية هو فقدان الحيوان لملكة الاحساس والشعور بحزن وجوع وحاجات بقية أفراد مجموعته أو فصيلته ، بيد أن المفترض بالانسان أن يمتلك هذا الشعور والاحساس بالآخر ، لاستمرار وجوده ، وكبح جماح (الانقراض) والتلاشي الذي يمكن أن تنتجه الجريمة المجتمعية ، كما حصل مع (الهنود الحمر) تحت ذريعة (رأس المال) الأمريكي .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat