صفحة الكاتب : الشيخ يحيى رسلان العاملي

تقدير الغيب لعالم الشهادة: بين ليلة القدر وإمام الزمان.
الشيخ يحيى رسلان العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم 
 بما أن الذات المقدّسة لله تعالى هي غيب الغيوب، وهي المؤثر الأساسي في عالم الوجود .
فإن المؤثر الأساس في عالم الشهادة هو عالم الغيب ، وفما يُقَرَّر في عالم الغيب يُسيِّر أسباب عالم الشهادة ، وهذا معنى :"أبى الله أن تجري الأمور الا بأسبابها".
فالأمور جارية بأسبابها الطبيعية، بعد أن أبى الله لها غير ذلك، أي بعد التفعيل الغيبي الإلهي لها.
فمن استجاب الله له طلبه للرزق سبَّبَ له سبباً ليصل إليه رزقه ، ومن لم يقدّر له الرزق مهما سعى لتحصِيل الرزق المطلوب لا يحصل عليه.
وهنا يظهر دور الدعاء في تحصيل الرزق و حصول الشفاء وطول العمر وغيرها.
 فالطلب من الله لتحصيل الاستجابة، التي تحصل غالباً عبر الأسباب الخارجية كما هو واضح، فيسيّر له تجارته بحيثيّات العمل ،أو يشفيه بدواء ، فعالم الأسباب الخارجية تابع لعالم الغيب. 
وتحصل الاستجابة أحياناً بسبب غيبي، ومن هنا جاء الحثّ على الدعاء لتغيير القضاء ، فالدعاء يردُّ القضاء . 
ويتجلّى هذا الأمر في ليلة القدر ، فهي الليلة التي تُقَدَّر الأمور فيها  من الرب القدير،و تتنزَّل على صاحب الأمر -أي المسؤول عن الأمر-.
فقد روى دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: "سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) .
قَالَ: نَزَلَ فِيهَا مَا يَكُونُ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ مَوْلُودٍ .
قُلْتُ لَهُ: إِلَى مَنْ ؟
فَقَالَ : إِلَى مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ إِنَّ النَّاسَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي صَلَاةٍ وَ دُعَاءٍ وَ مَسْأَلَةٍ وَ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ فِي شُغُلٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ إِلَيْهِ بِأُمُورِ السَّنَةِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ لَهُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ" .( بصائر الدرجات في ج‏1، ص: 220) 
هذا التنزّل والعرض والتأثير في الأمور والمقادير غير مختص بزمن الحضور، بل هو مستمرّ في الغيبة ومتجدد كل ليلة قدر ، بما يتناسب مع معنى المضارعة وصيغة ( تفعَّلَ) في الفعل ( تنزّل).
وروى الْكُلَيْنِيُّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ رِجَالِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْجَرِيشِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام  قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : "إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَإِنَّهُ يُنْزَلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَمْرُ السَّنَةِ وَ مَا قُضِيَ فِيهَا وَ لِذَلِكَ الْأَمْرِ وُلَاةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ  صلّى الله عليه وآله.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ هُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟
فَقَالَ : أَنَا وَ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ صُلْبِي أَئِمَّةٌ مُحَدَّثُونَ ". (الغيبة للنعماني، ص: 60)    
فالأئمّة عليهم السلام- وخاتمهم قائمهم- ولاة هذا الأمر، وهو ما قضي في السنة ، في كل سنة.
وكل سنة تشمل سنين الغيبة.
فالغَيبة تحجب مباشرته الظاهرة للأدوار الظاهريّة للإمامة من حكم وإدارة وتصدٍّ للتعليم والإرشاد وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون الوظائف الغيبيّة المؤثّرة في جميع شؤون عالم الوجود، والمعنيّة بقوله تعالى : ( بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْر).
وهي تشمل حتى الأدوار الظاهرية بشكل غير مباشر بتسخير بعض الأدوات بحسب ما تقتضيه الحكمة.
وضمن هذا الكل شؤون عالم الشهادة، من رفع داء ، ودفع بلاء، وفتّ عزيمة العدو على الإفناء، وبسط رزق وغيرها.
رورى أَبو الْهُذَيْلِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "يَا أَبَا الْهُذَيْلِ ، إِنَّا لَا يَخْفَى عَلَيْنَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَطُوفُونَ  بِنَا فِيهَا" .( بصائر الدرجات ؛ج‏1، ص221) .
فالملائكة تطوف بهم في هذه الليلة العظيمة ، فهم حَجُّها  .

ويظهر معنى هذا التقدير في تحكُّم المشيئة بالأمور ؛
فقد ورد عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:" سألته عن ليلة القدر.
 فقال: ينزل فيها الملائكة و الكَتَبة إلى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون من أمر السنة و ما يصيب العباد، و أمر عنده موقوف له فيه المشيّة، فيقدم منه ما يشاء و يؤخِّر ما يشاء ،و يمحو وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ" (تفسير العياشي، ج‏2، ص: 215) 
وفي معنى المحو والإثبات :
روى جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: «يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» قال: "هل يُثبِت إلا ما لم يكن، و هل يمحو إلا ما كان؟!"
(تفسير العياشي، ج‏2،ص215) 
فالتقدير في هذه الليلة العظيمة هو تبديل  وإثبات ما لم يكن ومحو ما كان موجوداً، وهنا تبرز أهمّيّة  التوسل بصاحب الأمر عليه السلام في هذه الليلة ، فهو باب الله لتبديل الأمور، فهو الذي تتنزل عليه التقادير، والذي له حقّ الشفاعة في تبديلها قبل إبرامها.   
 ومن هنا نجد في نصوص الأدعية الواردة لشهر رمضان، عبارات طلب للتغيير والجعل في المحتوم .        
فقد روى ابْنُ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام :" فِي الدُّعَاءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تَقُولُ:اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِيمَا تَقْضِي وَ تُقَدِّرُ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْتُومِ فِي الْأَمْرِ الْحَكِيمِ مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَ لَا يُبَدَّلُ أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الْحَرَامِ الْمَبْرُورِ حَجُّهُمْ الْمُكَفَّرِ عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ الْمَغْفُورِ ذُنُوبُهُمْ الْمَشْكُورِ سَعْيُهُمْ وَ أَنْ تَجْعَلَ فِي مَا تَقْضِي وَ تُقَدِّرُ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْتُومِ فِي الْأَمْرِ الْحَكِيمِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يُرَدُّ   وَ لَا يُبَدَّلُ أَنْ تُطِيلَ عُمُرِي وَ أَنْ تُوَسِّعَ عَلَيَّ فِي رِزْقِي وَ أَنْ تَجْعَلَنِي مِمَّنْ تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِينِكَ وَ لَا تَسْتَبْدِلْ بِي غَيْرِي".
( الكافي ج‏٤ ص ١٦١/١٦٢)  .
فمَن هو هذا العظيم الذي تتنزّل عليه التقادير في هذه الليلة قبل إبرامها، أنّه الموصوف في دعاء ليلة ولادته المباركة:          
 "اللَّهُمَّ بِحَقِّ لَيْلَتِنا هذِهِ وَ مَوْلُودِها، وَ حُجَّتِكَ وَ مَوْعُودِهَا، الَّتِي قَرَنْتَ الى‏ فَضْلِها فَضْلًا، فَتَمَّتْ كَلِمَتُكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِكَ وَ لا مُعَقِّبَ لآياتِكَ، نُورُكَ الْمُتَأَلِّقُ وَ ضِياؤُكَ الْمُشْرِقُ، وَ الْعَلَمُ النُّورُ فِي طَخْياءِ الدَّيْجُورِ، الْغائِبُ الْمَسْتُورُ، جَلَّ مَوْلِدُهُ وَ كَرُمَ مَحْتَدُهُ ، وَ الْمَلائِكَةُ شُهَّدُهُ، وَ اللَّهُ ناصِرُهُ وَ مُؤَيِّدُهُ إِذا آنَ مِيعادُهُ وَ الْمَلائِكَةُ أَمْدادُهُ. 
سَيْفُ اللَّهِ الَّذِي لا يَنْبُو ، وَ نُورُهُ الَّذِي لا يَخْبُو ، وَ ذُو الْحِلْمِ الَّذِي لا يَصْبُو ، مَدارُ الدَّهْرِ وَ نَوامِيسُ الْعَصْرِ وَ وُلاةُ الامْرِ وَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ ما يَنْزِلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَ أَصْحابُ الْحَشْرِ وَ النَّشْرِ، تَراجِمَةُ وَحْيِهِ وَ وُلاةُ امْرِهِ وَ نَهْيِهِ."
(الإقبال بالأعمال الحسنة (ط - الحديثة)، ج‏3، ص: 330) 
فمن يريد أن يبدِّل حياته بجوانبها المتعددة - دنيويّة وأخرويّة- فعليه بصاحب الزمان عليه السلام. فهو وإن غاب عن الأنظار، لكنّه حاضر في ليلة القدر، التي فيها يُقدَّر الأمر ، وتُسيَّر شؤون عالم الشهادة، تراه البصائر الموقنة بما نزل في مُحكَم التنزيل.
 وأما العيون التي ترى الأسباب ولا ترى مسبًّبها، فما أشبهها بما ورد في قوله تعالى: ( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) ( الأعراف: ١٩٨) .
أمّا أهل البصائر فيرون مسبّبها ، فشؤون عالم الشهادة تُقدَّر في ليلة القدر ، وصاحب ليلة القدر هو صاحب الزمان عليه السلام ، فمن يرى غيابه مانعاً عن التأثير فهو جاهل بحقائق التنزيل .
وأعجب من ذلك أن يدّعي أنه يؤمن بتأثير الله في وجوده مع عدم إدراكه له بالحواس، ثم يستدلّ على عدم تأثير حجة الله بغيابه عن الحواس.
فليس إنكاره لتأثير الحجة بهذا الدليل، إلا لعدم يقينه بتأثير الله تعالى، وركونه المطلق إلى الأسباب الظاهريّة.
" شغلتهم رؤية القدرة عن رؤية القادر".
فالمأموم الحقيقي يرى صاحب الزمان مؤثراً في أحداث حياته أكثر من الأسباب الظاهريّة، ولذا يتعلَّق قلبه بخليفة الله في أرضه أكثر من سائر الأسباب، فيزداد اطمئناناً كلما اشتدّ البلاء وتقطّعت الأسباب الظاهريّة، لثقته بوجود السبب المتّصل بين الأرض والسماء.
(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب :٢٢ )

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ يحيى رسلان العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/05/15



كتابة تعليق لموضوع : تقدير الغيب لعالم الشهادة: بين ليلة القدر وإمام الزمان.
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net