رمضانيات عراقية (الحلقة الرابعة)
د . رافد علاء الخزاعي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إن الصوم في العالم العربي والإسلامي اخذ بعدا جديدا في منتصف القرن الماضي وبداية القرن الحالي لما للإعلام المرئي من تأثير كبير على المتلقي العربي في تقريب صورة الليالي الرمضانية الممتعة وقد أخذت الصورة تتضح في نهاية القرن الماضي بعد ان كانت الدراما المصرية تنقلنا الى أجواء رمضان عبر المسلسلات المليئة بالإحداث الكثيرة لنعيش معها ونتداخل مع الممثلين في وسط عائلتنا فكانت تتناول صعوبة المدخن في ترك التدخين في رمضان وعصبيته والبذخ الرمضاني وصلة الأرحام ومشاكل الزوجية وهكذا تنقلنا الى مشاكل الزواج وأزمة السكن والرغيف والأكلات المصرية التي عشقنها عبر الممثلين مثل الملوخية بالبط والأرانب او الرز المصري والفول المدمس والكشري وكان رمضان سنة 1974 م الذي يصادف عام 1394 ه بداية دخول العمالة المصرية الوافدة للعراق بعد حصول وفرة مالية لدى العراق بعد قانون تأميم النفط وارتفاع أسعار النفط بعد حرب اكتوبر1973 كان العراق في بداية النهضة التنموية في استيراد الأجهزة التلفزيونية عبر الشركة الإفريقية وهي شركة تابعة لوزارة التجارة كانت تستورد ارقي الأجهزة ومن ارقي الماركات الصناعية فليبس ناشينول وغيرها من الأجهزة وقتها دخل منزلنا مع بداية رمضان تلفزيون فليبس ابيض واسود هولندي المنشئ حجم 26 بوصة وأتذكر ذبحت أمي دجاجة لهذه المناسبة ليديم عمر الجهاز وخوفا من الحسد وقد تأهبنا لمساعدة ابي في نصب الاريل (الهوائي) على السطح وننتظر الساعة الرابعة مساء ليظهر لنا شارة الافتتاح لتلفزيون العراق التي كانت تبدءا بالنشيد الوطني وأية من الذكر الحكيم وأفلام كارتون وكان اليوم ثلاثاء مميزا ببرنامج الرياضة في أسبوع بموسيقاه المميزة وإخباره المتنوعة وكان المسلسل ام العروسة والقضبان والبوسطجي وايام الدموع التي عرفتنا على المجتمع المصري وعلى القاهرة التي لا تنام وعلى حي الحسين والسيدة والاهرام والزمالك وغيرها من الضواحي ومن الدراما العراقية القديمة التي لأتمل ابدا تحت موسى الحلاق ومن المسلسلات العراقية الجميلة هي جرف الملح الذي استطاع إلى نقلنا بين الصراع بين غافل وفزع ببراعة لتنقسم العائلة بين مشجع لغافل وآخرين مشجعين لفزع والذي كتبه ببراعة المبدع صباح عطوان وأخرجه ببراعة ابراهيم عبد الجليل ومثل فيه طالب الفراتي وعبد المطلب السنيد وغازي الكناني وقاسم الملاك بدور عذافة العاشق البسيط الذي جعلنا نتعاطف معه بفطرته وسذاجته الريفية وكانت الدراما السورية حاضرة في غوار الطوشي وحسني افندي وابوعنتر في مسلسل صح النوم عبر الكوميديا الساخرة والمنتقدة الواقع عبر الانتقادات اللطيفة البناءة وكانت مسلسل انتقام الزباء التاريخي ليعطينا صورة عن تدمر وملكتها وحجم المؤامرة على الأمة ولكن بصيغ اخرى وكانت إعلانات التلفزيون عن أفلام السينما في بغداد عن أميرة حبي انا وامرأة حائرة وهي تبث اعلاناتها وعن حفلات السينما وصالاتها الزاخرة في بغداد انذاك وغيرها من المسلسلات والأفلام كانت العائلة متوحدة وليس كما ألان في فرض السيطرة على الريموت كنترول في التسابق بين الفضائيات المتعددة بين دراما متعددة مصرية وسورية وخليجية وتركية مدبلجة وإيرانية تطرح نفس المشاكل ولكن بأطر أخرى مع مسلسلات تاريخية تحاول نشر الشقاق والنفاق في تاريخ مزيف ان مصر مازالت نابضة بتاريخها الرمضاني التي توارثته عبر الفاطميين الذي عاشت خلاله مصر العصر الذهبي وما زاده من تقادم الثقافات الانكليزية والفرنسية لتكون مصر منصهر حضاري ممتد اثره منذ الفراعنة الذين عرفوا الصوم مبكرا.وقد تعلم الفراعنة وسكان مصر القدامى الصوم من الصابئة وقد كان المصريون القدماء يصومون،وان كلمة صوم من صاو الهيروغليفية أى امتنع أو كبح «قاموس د. بدوى وكيس: 198» أما حرف الميم فمعناه من أو عن... فتكون صاوم أو صوم معناهما امتنع عن! طعام أو شراب أو كلام! فكلمة صوم كلمة مصرية قديمة! كان المصريون يصومون شهر رمضان ثلاثين يوماً! يذكر ابن حزم «والصابئة يصومون شهر رمضان» والصابئة هم حكماء مصر أتباع النبى إدريس المصرى، بل جاء فى الحديث الشريف: صيام «رمضان» كتبه: الله على الأمم قبلكم(ابن كثير)
أما عن توقيتات الصوم فى مصر الفرعونية وما قبلها، فقد كانت من الفجر حتى غروب الشمس، وكانوا يمتنعون عن الطعام والشراب ومباشرة النساء (جيراردى- د. أحمد شلبى- د. نديم السيار)
وحتى ليلة القدر كانت معروفة لدى المصريين القدماء و كانت هذه الليلة معروفة قبل الإسلام فى الأمم الماضية «دائرة المعارف الإسلامية 14/399»، وكان عند الصابئة «حكماء مصر» عيد يسمى (يشيشلام ربه) وهذه الكلمات المصرية معناها عيد السلام الكبير، وكان هذا العيد، وهو من أعياد الصابئة، مدته يومان، والليلة التى بينهما هى ليلة القدر، وكلمة (شى) بالمصرى معناها القدر، أى ما يناله كل إنسان من رزق وعمر، وفى قاموس بدوى وكيس نجد «شى» معناها حظ.. قسمة.. نصيب..! فتكون شى شلام ربه معناها: عيد السلام الكبير الذى به ليلة القدر! هذه الليلة التى تحدد فيها أرزاق الناس فى العام المقبل، ونجد فى تفسير ابن كثير: ليلة القدر وتقدر فيها الآجال والأرزاق (ابن كثير)4/531.
ومن الأغاني الجميلة التي يغينها الأطفال المصريين في استقبال رمضان وحوي يا وحوي.. إياحا أو إيوحا أنها أغنية تنتشر فى رمضان ينشدونها بعد الفَطُور وهم يمسكون فى أيديهم بالفوانيس الملونة ، وكلما قال المنشد عبارة أجابوه فى نفس واحد: إياحة) كقوله: (بنت السلطان) فيردون: (إياحة، (لابسة فستان) ( إياحة)و كان يرددها الأطفال منذ زمن و هم يطوفون في شوارع مصر القديمة بالفوانيس المصنعة من الصفيح و التي توقد بالشمع التي كانت تصنع في مصر وألان تستورد من الصين وبإشكال مختلفة وناطقة وملونة انها التكنولوجيا في خدمة التراث...
إنها كلمات مصرية قديمة، فالتقويم المصرى كان قمرياً قبل أن يكون شمسياً سنة 4241 ق.م، ولكنه ظل قمرياً فى الاحتفالات والأعياد الدينية.
كان الملاك المسؤول عن حركة القمر اسمه ياحا، فأخذ القمر اسمه ياحا، وفى العصر الرومانى أصبح اسمه يوحا «د. نديم السيار- د.لويس عوض»، أما كلمة إى.. فهى كلمة مصرية معناها جاء، فتكون كلمتا إى ياحا أو إى يوحا.. معناهما جاء القمر!
أما وحوي فهي واح + وى، وواح كلمة مصرية معناها الظهور رويدا رويدا، ومنها لاح أى ظهر، وكلمة وى.. معناها نداء، فهو نداء يستحث القمر أو الهلال للظهور، ونقول للغائب عند العودة واح شتنى، أو لك «واح شه» أى وحشة! «قاموس د. بدوى وكيس، 46» فيكون معنى الجملة: وحوى يا وحوى.. إياحا، اظهر أيها الهلال فلك وحشة! وحوي يا وحوي كلمة فرعونية بمعني ذهب او رحل تقال عن وداع شعبان/ شعبان واستقبال رمضان أي وحوي يا وحوي أي رحل شعبان وجاء رمضان .أيضا قيل ان وحوي يا وحوي أصلها فرعوني فكلمة (أيوح) معناها القمر، وكانت الأغنية تحية للقمر، وأصبحت منذ العصر الفاطمي تحية خاصة بهلال رمضان .بينما فسر عمار الشريعي معنى وحوي يا وحوي بردها الى أصولها فى اللغة العربية و هو ( احوى او امتلك ) ... و في الأغنية : _ احوي يا أحوى إياها .... بمعنى امتلكها ...يقصد بنت السلطان.
وحوي يا حوي إيوحه" هي من أغاني الاحتفاء بالقمر والليالي القمرية، وكان القمر عند الفراعنة يطلق عليه اسم "إحع"، .وبعد دخول الفاطميين إلى مصر وانتشار ظاهرة الفوانيس أصبحت الأغنية مرتبطة بشهر رمضان فقط بعد أن ظلت أزمنة مديدة مرتبطة بكل الشهور القمرية".
وكذلك نرى المسحراتي ودلالته اللغوية والشعرية ومن خلاله مراقب للحال العام للمحلة وقضايا الأمة. التي استغلتها بعض القنوات الإعلامية في سحور سياسي وذلك لاستنهاض الأمة من غفلتها . ما زال يحمل «الطبلة» يقرعها بحماس شديد وهو ينادي على أهل الحي كل باسمه، يهلل الأطفال وهم يرمقونه من خلف الشرفات، بعضهم يخرج مبتهجاً مردداً خلفه كلماته الشهيرة.. اصحي يا نايم وحد الدايم. إنه المسحراتي أشهر شخصية رمضانية ومن أهم ملامحها في الحارات والشوارع بأحياء مصر الشعبية، وكل المدن والضواحي العربية والاسلامية رغم مئات السنين ما زال متمسكاً بمكانته المتميزة في اللوحة الرمضانية. بدأت مهنة المسحراتي أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي أصدر أمراً بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور، أما أول مسحراتي فعلى في مصر فكان «عتبة بن اسحق» والي مصر أيام الفتح الإسلامي وكان يخرج بنفسه في مدينة الفسطاط لتسحير الناس وهو يردد «يا عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة»، وإن كان «السحار» ظهر بسرعة في المجتمع الإسلامي فإن «التسحير» لم يصبح حرفة إلا في بغداد زمن الدولة العباسية حيث ابتكر البغداديون فن الحجازي وفن «القومة» وهما من فنون الأدب الشعبي والقومة بالتحديد كان مختصاً بالغناء في سحور رمضان وإن كان التاريخ لم يحفظ لنا منه إلا نماذج قليلة معظمها منسوب لصفي الدين الحلي وموضوعها التسبيح والابتهال، وكان سحار بغداد يستعين بمختلف الآلات الموسيقية في عمله، كما اختص بعض السحارين بمنزل الخليفة وأهل بيته وفي زمن الملك «الناصر» ظهر في مصر أول سحار محترف وهو «ابن نقظة» الذي اختص بتسحير الملك الناصر ثم خلفه ابنه في مهمته وحتى عهد قريب كان المؤذن في الريف يصعد المئذنة لتنبيه الناس إلى موعد السحور بالإضافة إلى المسحراتي التقليدي الذي يقرع «البازة» ـ وهي عبارة عن طبلة صغيرة ـ بقطعة من الجلد، مع نداء منغم على سكان الحي أو الشارع وذكر ألقابهم وأسماء أولادهم بكثير من المبالغة والمجاملة أملا في مكافأة يحصل عليها مع أول أيام عيد الفطر المبارك.
صحيح أن الأحوال تبدلت واختفى المسحراتي في كثير من الأحياء إلا أن بعض المناطق الشعبية والريفية ما زالت تحتفظ بمسحراتي يورث المهنة لأبنائه، وبعد أن كانت مكافأة المسحراتي عبارة عن «كعك العيد» أضيفت إليها النقود أيضاً. ومهنة المسحراتي اتخذت بعداً فنياً على يد الشاعر فؤاد حداد والموسيقار سيد مكاوي وفي عام 1964 انطلق مسحراتي الإذاعة وانتظره الساهرون بعد أن اعتادوا سماعه ومع انتشار التلفزيون أبدع «مكاوي» في مزج فن التسحير بالوعظ والإنشاد في حب الوطن وأضاف «حداد» بعداً سياسياً اجتماعياً إلى «التسحير» حينما قال )وكل حتة من بلدي حتة من كبدي.. حتة من موال.. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال.(
وفي عام1964م التفت الراديو والتليفزيون إلى المسحراتي،فالتقطه الراديو في البداية وقدمه بصوت سيد مكاوي وكلمات الشاعر فِؤاد حداد فأضاف بعدا اجتماعيا وسياسيا الى فن التسحير من بينها على سبيل المثال:
حيوا الوطن في الغيط ابوا الفدادين
وفي حصة العربي ودرس الدين
حيوا الوطن في الجبهة والميادين
يوم الجهاد الكل مجتهدين
وتعملوا مثل ما تقولوا
حبوا الوطن اشقوا له
لولا العرق ما كنش نور الجبين
وبدأ المسحراتي الجوال فعلا في ترديد الأدعية في مهمة التسحير خلال الشهر الكريم.
ان المسحراتي ينشد القصائد التي يذكر بها النائم على أربع مرات في الأولى يقول «أيها النوام قوموا للفلاح واذكروا الله الذي أجرى الرياح.. إن جيش الليل قد ولى وراح وتدانى عسكر الصبح ولاح.. اشربوا عجلى فقد جاء الصباح»، وفي التذكير الثاني يقول (تسحروا رضي الله عنكم.. كلوا غفر الله لكم.. كلوا من الطيبات واعملوا الصالحات).
أما في التذكير الثالث فيقول: «يا مدبر الليالي والأيام يا خالق النور والظلام.. يا ملجأ الأنام ذا الجود والإكرام»، وفي المرة الرابعة ينادي (كلوا واشربوا وعجلوا فقد قرب الصباح واذكروا الله في القعود والقيام وارغبوا إليه تعالى بالدعاء والثناء).
أما الآن فيكتفي المسحراتي بدق الطبلة قائلا: (يا عباد الله وحدوا الله) ويفرح الأطفال في الشارع وأغلبهم يحرص على السهر لمشاهدته وترديد كلماته.
إذا كانت الظروف الأمنية والسياسية أدت الى غياب الكثير من رموز وشخصيات رمضان، لاسيما المسحراتي، الذي هو أهم أشهر شخصية رمضانية في الحارات والأحياء الشعبية، منذ مئات السنين، فإن العراقيين يتوقعون عودة الكثير من العادات والتقاليد الرمضانية من جديد في ظل استتباب الوضع الامني وتحسن الوضع الاقتصادي.
ويمكن ان يكون للمسحراتي دورا اكبر في التوعية الاجتماعية والانسانية في التخلص من العادات الضارة ولكن مع تقدم التكنولوجيا والفضائيات ووسائل الاتصال افل نجم المسحراتي الرمضاني ولكن يبقى شهر رمضان متجدد في عاداته وفضائله حفظكم الله لرمضان القادم وجعلكم من عواده وعتقائه من النيران.
الدكتور رافد علاء الخزاعي