صفحة الكاتب : السيد يوسف البيومي

أهمية التاريخ: وأسس دراسته..
السيد يوسف البيومي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

من المعلوم في علم الاجتماع أن معظم حياة المجتمعات بأحداثها ليست متباينة ومنفصلة عن بعضها البعض، وإنما هناك استمرار وتلاقي، بين الماضي والحاضر، فيضع الماضي كل فيه  من أحداث  في قلب هذا الحاضر الذي نعيش فيه، كي يستمد الحاضر من الماضي العديد من عناصر القوة والحركة، ومن الوسائل الذي تعمل على تطوير الحاضر نحو مستقبل مشرق وأفضل.

فيصبح من البديهي أن نلاحظ الكثير من الأحداث التاريخية، حتى تلك التي في الماضي السحيق، والتي قد اندثرت آثارها ولم يبقى منها إلا القليل ومع هذا كله نجد لها آثاراً واضحة وبارزة، حتى في حاضرة أيامنا التي نعيشها، بل إنها تبرز لمساتها في حياة الشعوب، وفي تصرفاتها، وفي مفاهيمها وعواطفها، إضف إلى ذلك التأثيرات على الحالة الدينية، والأدبية، والعلمية، والسياسية والاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، وغير ذلك..

إلا إن تأثير هذه الأحداث قد يختلف شمولاً وعمقاً من حضارة لأخرى، ومن شعب لآخر أيضاً، وبين أمة وأمة أخرى..

من هنا يتبين لنا أن هناك مهمة لتاريخ، ومهمة واضحة و ظاهرة،  فهو ـ أي التاريخ ـ يعكس بدقة وأمانة حياة الأمة في الماضي، وما مر فيه من أوضاع وأحوال، وما تعرضت له هذه الأمة من هزات فكرية، ويحكي عن تلك الأزمات اقتصادية واجتماعية وغيرها..

 فيظهر لنا السبب الذي دفع بالشعوب على مختلف مشاربها إلى تدوينه، ودرسه، والبحث في دقائقه، والتمحيص، والتعليل والتحليل لما مرَّ فيه من أحداث. فإن هذه الأمم والشعوب تريد من وراء ذلك التعرف والاطلاع على بعض الملامح الخفية للواقع الذي تحياه ولكي تستفيد منه كأساس للمستقبل الذي تقدم عليه، ولتكتشف من خبايا التاريخ البعض من عوامل الرقي والابتعاد عن عوامل الانحطاط، وليكون ذلك المعين لها على بناء نفسها بناء قوياً وسليماً، والإعداد للمستقبل على أسس متينة وقوية وراسخة..

ويأتي السؤال الجد مهم هنا: نحن كأمة ماذا عن تاريخنا؟! هل نملك تاريخاً؟! وهل يستفاد منه؟!

فنحن أمة تريد أن تعيش في هذه الحياة بكل ما تمتلك من قوة وبحيوية، وفاعلية، ومع أن أمتنا تعتبر بتاريخها أغنى الأمم، لا نمتلك من كتب التاريخ والتراث ما نستطيع الاعتماد عليه في إعطاء صورة صحيحة وكاملة ودقيقة عن كل ما سلف من أحداث، وسبب في ذلك يعود إلى ما قد كُتب من هذا التاريخ والذي تتحكم فيه النظرة الضيقة، ويهيمن عليه التعصب الأعمى والهوى المذهبي البغيض، وهو واضح أنه وضع في اتجاه التزلف للحكام..

وقد يسأل البعض أين هي هذه «النظرة الضيقة» في كتابة التاريخ، فأقول أنها واضحة من خلال عملية ملاحظة الحدث منفصلاً عن جذوره وأسبابه، ثم عن نتائجه وآثاره فهذا هو دأب معظم المؤرخين، ومن كات لهم أثر في كتابة المصنفات التاريخية..

ونسأل ما هو واقع الحال في المصنفات وكتب التاريخ المعتمدة في مكتباتنا والتي تعتبر المصادر لتلك الأحداث الماضية، ومن خلال نظرة متأنية وموضوعية فإننا نجد ـ في المعظم ـ هو تاريخ الحكام والسلاطين، وحتى هذا النوع من التاريخ الذي يروي تاريخ هؤلاء الحكام، فإنه قد جاء مشوَّهاً وممسوخاً، ولا يمكن أن يعتمد عليه في عكس الصورة الحاصلة آنذاك بأمانة حقيقية لحياتهم ولتصرفاتهم ومواقفهم، لأن المؤرخ كان لا يسجل إلا ما يتوافق مع هوى هؤلاء الحكام، وما ينسجم مع ميولهم، ويخدم مصالحهم الخاصة، مهما كانت هذه الصورة مشوهة وقد تكون مخالفة للواقع، ولما يعتقده المؤرخ نفسه ويميل إليه، ولكن صدق المثل الذي يقول:"مكره أخاك لا بطل"(1)..

ولهذا، قد لا يتفاجأ القارئ لهذه الكتب والمصنفات التاريخية لو لاحظ أن المؤرخ يهتم بأمور تافهة وحقيرة، فيسهب القول ويطيل في وصف مجلس شراب، أو منادمة لأمير أو حاكم، أو يختلق أحداثاً، أو شخصيات لا وجود لها، ثم يُهمل أحداثاً خطيرة، أو يتجاهل شخصيات لها مكانتها وأثرها العميق في التاريخ، وفي الأمة، أو يشوه أموراً صدرت من الحاكم نفسه، أو من غيره، أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بالكتمان، ويثير حولها هالة من الإبهام والغموض.

أسس دراسة التاريخ:

إذن، فلا بد لمن يريد دراسة التاريخ والاستفادة من الكتب التاريخية والتراثية، من أن يقرأها بحذر ووعي تام، وبدقة وتأمل، حتى لا يقع في فخ التضليل والتجهيل ولبس الحق بالباطل.

فلا بد له من أن يفتح عينيه وقلبه على كل كلمة تمر به، ويحاول قدر المستطاع أن يستنطقها، ويستخلص منها ما ينسجم مع الواقع، مما تؤيده الدلائل والشواهد المتضافرة، ويرفض أو يتوقف في كل ما تلاعبت به الأهواء، وأثرت عليه الميول والعصبيات.

وليس ذلك بالأمر اليسير والسهل، ولاسيما فيما يرتبط بتاريخ ككل وعلى وجه الخصوص بتاريخ أمتنا الإسلامية الذي هبت عليها رياح الأهواء الرخيصة والعصبيات الظالمة، وعبثت بها أيدي الحاقدين، وألبست الحق بلبوس الباطل، وأظهرت الظالم على أنه محق، والمظلوم على أنه أرعن متهور..

وأنقل لكم في نهاية هذا البحث المتواضع ما ذكره سماحة السيد محمد باقر الصدر (قدس سره الشريف) عن هذا الموضوع حيث قال:" إذا كان التجرد عن المرتكزات، والأناة في الحكم، والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها، ومهما يكن موضوعها، فهي أهم الشروط الأساسية لأقامة بناء تاريخي محكم لقضايا أسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكا للتاريخ، ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامة، أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث، وتكون مدارا لبحثه، كالحياة الدينية، والأخلاقية، والسياسية إلى غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الأنساني على شرط أن تستمد هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات، وينشئه التعبد والتقليد، ولا من خيال مجنج يرتفع بالتوافه والسفاسف إلى الذروة، ويبني عليها ما شاء من تحقيق ونتائج، ولا من قيود لم يستطع الكاتب أن يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له أساليب البحث العلمي النزيه"(2).

 

 

 

 

.______________________

(1): هذا المثل يضرب لمن فعل شيئا أو قال قولاً ألزمته الضرورة أن يفعله وهو في الحقيقة لا يريد هذا، أو لمن وُضِع في موضع لايريده لكنه مُجبر. يعني إن فعل سيئاً صعباً يوحي بشيء خلاف ما يعتقد به صاحب القول أو الفعل ولكنه في الحقيقية فعله أو قوله إنما أقدم عليه لأن لا خيار  آخر أمامه.

وهذا المثل في الحقيقة قِصته في معركة بين جيش الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وجيش معاويه.. 

حيث خرج الإمام علي (عليه السلام) وخلع درعه من على جنبه وقال: "من يبارز".

 ـ وهذه علامة الشجاعة أقصى الشجاعة إذا خلع البطل من العرب درعه وقال من يبارز ـ والمبارزة هي المصارعة بالسيف قبل المعركة.

 فلما قال هذا هابه الناس وكان أهل الشام ثمانون ألف فما خرج منهم أحد، فقال الناس لمعاوية: "قم بارزه".

 فقال: "لا".

فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص وقال: "أخرج له".

 فقال عمرو: "أُبارز أبا الحسن؟!".

 قالها متعجباً ومعظماً لشجاعة  الإمام علي (عليه السلام)، ويعني أنه لو كان غير علي كان من ممكن أما أبا الحسن فمن يبارزه.

 فقال معاوية: "عزمت عليك أن تبارزه".

 فخرج عمرو بن العاص ولما جاء عند علي(عليه السلام) ألقى سيفه على الأرض وقال:"مكره أخاك لا بطل"..  يعني أنه ما جاء هنا نداً وقِرناً للأمير المؤمنين (عليه السلام)، وينقل أن عمرو بن العاص لما قال هذه المقولة كشف عن عورته فغض الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بصره فهرب عمرو بن العاص من المبارزة، فالمقصود أن عمرو بن العاص: هو أول من قال هذه العبارة فصارت مثلاً يضرب..

(2): كتاب فدك في التاريخ، ص45.

29/3/2013

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد يوسف البيومي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/03/30



كتابة تعليق لموضوع : أهمية التاريخ: وأسس دراسته..
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net