التبتل والباتولية والرهبانية
السيد يوسف البيومي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
من النظرة الأولى لعنوان البحث قد لا يفرق القارئ الكريم فيما بين هذه العناوين الثلاثة ولربما يظن أنها جميعها لها نفس المعنى.. إلا أن هناك فرق بين هذه التعبيرات..
التبتل: هو من البَتْل، والبَتْلُ هو القطع، والتبتل هو الانقطاع. تقول: بَتَلَ الرجل الحبل. أي: قطعه. والمرأة البتول: المرأة الصالحة العفيفة الطاهرة، المنقطعة إلى ذكر الله. ووُصفت كلٌّ من السيدة مريم بنت عمران والسيدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام) بوصف البتول..
وفي الاصطلاح: يقال التبتل هو الانقطاع لله عز وجل، والمتبتل المنقطع إليه تعالى المعرض عما سواه يناسب حاله ذلك للإشعار بأنه ليس به سواء ولا مرجع إلاّ إيّاه. وقيل التَبَتَّلَ: في العبادة هو الانقطاع إلى الله سبحانه وحده. فالمؤمن المتبتل إلى ربه هو الذي انقطع عن هوى نفسه تماماً، وانفصل عن متاع الدنيا كلها، فلم يعد يمس قلبه أبداً، حتى لو ملكته يده فهو لا يشعر به ولا يجد له لذة ولا حلاوة.
ويجب الإشارة في جذر كلمة التبتل وهي [البَتْلِ] يمكن تقسيمها إلى ثلاث صيغ:
الصيغة الأولى: وهي الثلاثية: حيث تقول: بَتَلَ بَتْلاً. أي: قطع الشيء.
الصيغة الثانية: هي الرباعية مُضَعَّف العين. تقول: بتَّلَ، ومصدره: تبتيل. تقول: بَتَّلَ الشيء تبتيلاً. أي: قطعه تقطيعاً، فالصيغة تدل على الإكثار من القطع؛ لأن المصدر "تفعيل" يدل على ذلك، مثل: التكسير والتحطيم والتقطيع..
الصيغة الثالثة: وهي الخماسية، تقول: تَبَتَّلَ. ومصدره: تَبَتُّلٌ؛ لأن أيّ فعل خماسي على وزن "تَفَعَّلَ" فإن مصدره على وزن "تَفَعُّلٌ". نقول: تكسَّر تكسُّراً، وتحطَّم تحطُّماً، وتعلَّم تعلُّماً، وتكلَّم تكلُّماً.. وهكذا.
وهذه الصيغة تدل على التدرّج والتكلّف والتأنّي والتمهّل، وهذا واضح في اشتقاقات هذه الصيغة، مثل: التعلُّم والتكلُّم والتفهُّم..
ونجد أن التبتل ليس له علاقة بالامتناع عن الزواج أو شيء من هذا القبيل..
الباتولية: وهي مصدر مشتق من التبتل أو الانقطاع وقد أُريد منه هو الامتناع عن مخالطة الناس بالشكل الطبيعي، والسكن في أماكن بعيدة عن المجتمع بقصد الانقطاع عن البشر والتواصل مع الخالق..
وقد رأى البعض أن الحياة البتولية تعني عدم الزواج، وهذا ليس له علاقة بحياة العفة.. فحياة العفة والطهارة لا تقتصر على عدم الزواج.. وقهر النفس..
أما الرهبانية: فهي مشتقة من الرهبة: ويقال رهب رهباً من باب تعب: خاف، والأسم الرهبة، فهو راهب من اللَّه، واللَّه مرهوب. والأصل مرهوب عقابه. والراهب هو المنقطع عن الناس للعبادة رهباً من الله، والجمع رهبان، وربّما قيل رهابين، وترهّب الراهب: انقطع للعبادة، والرهبانيّة من ذلك.
والرهبنة في الاصطلاح: جمع من الرهبان يعيشون في مجتمع منفصل أو في دير حياة الفقر ويتركون الزواج وهذا عند الطوائف المسيحية ومنها الوثنية كالبوذية والغنصوية سابقاً..
ونصل إلى نتيجة أن الرهبانية أيضاً تعني الخوف من الله وليس لها علاقة بترك الزواج.. وإنما هي فقط الخوف من الله..
ونأتي إلى تفصيل البحث: أن التبتل والباتولية ليس لها علاقة بترك الزواج، كذلك الرهبانية، ولكن وكما بينا سابقاً أن المعنى اللغوي ليس له علاقة بترك الزواج ولكن هذه المصطلحات هي مصطلحات دخيلة من الديانات غير السماوية..
وقد وضعت الرهبنة لها أسس ثلاثة ومنها: ترك الزواج واحتقار الجسد.
إذاً احتقار الجسد، أساس الرهبنة، كذلك الغنوصية(1)، التي تشرح السبب من احتقار الجسد، حيث يري الغنوصيون والرواقيون أن المادة شر محض ليس فيها أي خير، لذلك لا يتعامل الله معها، حتى الكون قد ترفع الخالق عن خلقه بنفسه ولكن خلقه بالواسطة..
أما الروح وروح الإنسان بالذات، فإنها سماوية الأصل حسب زعمهم، ولكن السبب اقتران الروح بالجسد أي اتحاد السماوي مع ما هو مادي يعود لأن الأرواح ارتكبت خطيئة في السماء عوقبت بالسجن في الجسد..
ويعتقد الغنوصيين، أن الإله أرسل منقذاً يدلها على أصلها السماوي، فمن عرف ذلك نال الخلاص، وهذا المخلص أو المنقذ ذاته ليس جسداً، بل اتخذ جسداً وهمياً، فمن نال منه المعرفة نال الخلاص ويرجع إلي أصله السماوي..
ويشير القديس إيريناوس إلي مشاركة تبني الغنوضية فكر احتقار الزواج، حيث يقول في كتابه ضد الهرطقات ج1 ص24: "إنهم يؤكدون ـ أي الغنوصيون ـ أن الزواج هو التوالد من الشيطان، وكثير منهم يمتنعون من الأطعمة الحيوانية أي اللحوم".
ويمكن للقارئ المنصف الملاحظة بأن الغنوصيون يستدلون بنفس النصوص التي يستدل بها المسيحيون على احتقار شأن الزواج واعتباره نجاسة، وهذا الاحتقار مجمع عليه، ونقصد منع المعاشرة الزوجية في الآخرة، ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا طائفة المارمون والبروتستانت، وهذه الطائفتان أحدها لا يعترف بها المسيحيون ويعتبرونهم مارقون عن الدين والثانية هي على خلاف مع الكنيسة الكاثولكية الأم...
أما الديانة البوذية:فإنها ترى الأصل في منشأ المعاناة وعدم وجود السعادة وإنما هو ناجم عن التمسك بالحياة المادية، وفي مقولة لبوذا:"إن منشأ هذه المعاناة الحتمية يرجع إلى الرغبات التي تمتلئ بها نفوسنا للحصول على أشياء خاصة لنا أننا نرغب دائما في شيء ما مثل: السعادة أو الأمان أو القوة أوالجمال أو الثراء".أي أن سبب الشقاء وعدم السعادة هو الحياة المرتبطة بالمادة وحب الشهوات والرغبات.
ويجب التخلص من المعاناة المادية لذلك الجسد، ولا يتم إلا بالكف عن التعلق بالحياة والتخلص من الأنانية وحب الشهوات في نفوسنا وإذلال الجسد المادي بمنعه عن ما يحب ويرغب فيه وتسمى هذه الحالة عند رهبان البوذية بـ (النيرفانا) أو الصفاء الروحي..
وإن من يعتقدون بالحياة الرهبانية بمصطلحها النسكي وهي الامتناع عن الزواج، فإنهم يسقون لهذا المعتقد بعض الأدلة ومن أهمها:
أولاً: جاء في سفر الحكمة 4/1: "إن البتولية مع الفضيلة أجمل، فإن معها ذِكراً خالداً، لأنها تبقى معلومة عند الله والناس".
ولنرى هل هذه الآية من سفر الحكمة تعني الامتناع عن الزواج فإن الآيات التي أتت فيما بعد تنفي ذلك، فإنها تتكلم عن المضجع الفاسد أو أولاد الزنى..
وإليكم تلك الآيات: "ان البتولية مع الفضيلة أجمل فإن معها ذكراً خالداً لأنها تبقى معلومة عند الله والناس، إذا حضرت يقتدى بها واذا غابت يشتاق إليها ومدى الدهور تفتخر بأكليل الظفر بعد انتصارها في ساحة المعارك الطاهرة، أما لفيف المنافقين الكثير التوالد فلا ينجح وفراخهم النغلة لا تتعمق أصولها ولا تقوم على ساق راسخة، وإن أخرجت فروعاً إلى حين فإنها لعدم رسوخها تزعزعها الريح وتقتلعها الزوبعة، فتنقصف فروعها قبل أناها وتكون ثمرتها خبيثة غير ناضجة للأكل ولا تصلح لشيء، والمولودون من المضجع الاثيم يشهدون بفاحشة والديهم عند استنطاق حالهم"..
فيكون أقصى ما يمكن الاستدلال من تلك الآيات الواردة في سفر الحكمة هو حفظ الفرج عن الزنى وارتكاب المعصية ولا يمكن أن نحملها أكثر من ذلك من الامتناع عن الزواج وغيره من الأمور..
ثانياً: جاء في رسالة بولس إلى أهل كورنثوس ما يلي:" بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضاً".
من خلال التمحيص فإن رسائل بولس ليست من الكتاب المقدس ولكن ضمت إليه، ولا هيا من الأنجيل ولا من كلام المسيح (عليه السلام) بل هي كلام بولس الذي آمن مؤخراً بعد أنه كان من أكثر اليهود المعاندين، ولكن بولس هذا أراد أن يجذب أكبر عدد من الناس إلى المسيحية يهوداً أو من عبدة الأوثان وهذا ما خطته يده في نفس الرسالة لحظوا معي:" فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ للهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ".
فإنه سوف يستغل أي طريقة لكي يجذبهم للمسيحية التي يريد أن يدخلهم فيها وحتى بالتنازل عن بعض قوانين الشريعة، فإن الشريعة التي يدعي بولس أنه تحتها وأنه تحت ناموس المسيح (عليه السلام) ليس فيها شيء من الرهبانية وانقطاع عن الزواج بل هذه هي عقيدة أهل الأوثان الذين أسلفنا عن عقائدهم بالروح والجسد والتي تبناها بولس فدعى إلى الانقطاع عن الزواج..
ثالثاً: يعتمد هؤلاء على أن السيدة مريم (عليها السلام) لم تتزوج بل إنها عذراء وبقيت عذراء، وقد حبلت من دون دنس..
هذا صحيح أنها كانت عذراء وأنها حبلت دون أن يمسها أي رجل، ولكن هذه السيدة كانت مخطوبة ليوسف النجار وهذا يعني أنها كانت تنوي أن تتزوج حسب الشريعة ولكن الإرادة الإلهية أرادت أن يكون حملها إعجازياً وتحضيراً لولادة السيد المسيح (عليه السلام)..
ولكن حتى نبين أن السيدة مريم البتول (عليها السلام) لم تكن في وارد أن تمتنع عن الزواج أنها قد قبلت بالزواج من يوسف النجار، إضافة إلى ذلك فإن السيدة الثانية التي لقبت بالبتول هي فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي كانت متبتلة لله عز وجل ولكن مع ذلك فإنها تزوجت من أمير المؤمنين (عليه السلام).
ونسوق لذلك تلك الرواية لكي نستأنس بها ونستدل على أن التبتل ليس ترك الزواج والتزويج، روي: "أن امرأة دخلت على الإمام الصادق (عليه السلام) فقالت: أصلحك الله اني امرأة متبتلة. فقال لها: وما التبتل عندك؟!
قالت: لا أتزوج.
قال لها: ولما؟!.
قالت: ألتمس بذلك الفضل.
فقال لها: انصرفي فلو كان ذلك فضلاً لكانت فاطمة (عليها السلام) أحق به منك، إنه ليس أحد
يسبقها إلى الفضل".
فترك الزواج ليس من الفضل بشيء وإنما الفضيلة والعفة وحفظ الفرج إلا عن ما حلل الله هو الحق وما فيه خير للبشرية وإلا لكانت البشرية قد أفنيت لو تركت هذه السنن الإلهية التي زرعها الله عز وجل في النفس البشرية..
ومن هنا، فإن البشر مهما حاولوا أن يسيروا بعكس ما جبلهم الله عليه فإنهم سوف يعانون الكثير من المشاكل، ولا نريد أن نتكلم عن تلك الفضائح التي حصلت ضمن الكنيسة مئات الحالات تم تسجيلها والضحايا رفعوا شكاوى في هذا الصدد. وقد قام البابا بنديكتوس السادس عشر بنفسه بزيارة ميدانية إلى كل من سويسرا و إيطاليا و مالطا. وهذه الزيارات مكنته من الالتقاء بضحايا التحرش الجنسي وسبب ذلك كله هو الإمعان في السير عكس الخليقة والهدف من وجودها..
ونصل إلى نتيجة من خلال هذا البحث المقتضب، أن التبتل والباتولية والرهبانية هي شيء وليس لها أي علاقة بالأديان السماوية، وبين ما هو مطبق والتشويه لأصل ما خلق له البشر وهي أعمار هذه الأرض..
السيد يوسف البيومي
4/4/2013
_________________________
(1): الغنوصية (أو العارفية أو العرفانية) هي مدرسة عقائدية أو فلسفية حلولية نشأت حول القرن الأول الميلادي، ويعتقد البعض أن لها جذور وبدايات تعود إلى القرون الثلاث الأخيرة قبل الميلاد في المجتمع السكندري لتبرير انتشار الديانة المصرية القديمة الوثنية في الإمبراطورية الرومانية بجانب الديانات المحلية. أخذت الغنوصية طورا جديدا لدى ظهور المسيحية لإثبات تواؤم المعتقدين. وكانت لا تتعارض مباشرة مع الديانات التوحيدية كالمسيحية واليهودية ولكنها تم مقاومتها وقمعها من قبل الكنيسة منذ فترة مبكرة.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
السيد يوسف البيومي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat