هل سنستبق أمريكا إلى الجحيم؟
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قبل أشهر من ثورة 14 جانفي كنتُ بصدد مساعدة فريق من الشباب على تصوير مشهد لفائدة منظمة تربوية عالمية الغاية منه تحسيس سكان المعمورة لمشكلات البيئة. وكان من بين الفريق تلميذة لي كنتُ دعَوتها للغرض، أولا لأنها رصينة، ثانيا لأنها قضت سنة كاملة بالولايات المتحدة في إطار برنامج تعليمي فهي متمكنة من لغة شكسبير، ثالثا لأنها متضلعة ميدانيا أكثر من غيرها في فنون الكلام والتكليم باللسان السكسوني.
والذي لفت انتباهي، فضلا عن سرعة البديهة عند كامل الفريق في حفظ الكلمات التي ستتلى في المشهد، أنّ بطلة البلاغة والاتصال همّت، لحظات قبل أن يأتي دورها في المثول للتصوير، بحقيبتها ففتحتها وأخرجت منها قطعة من الثياب لترتديها، مُغطية بها كتفيها العاريين.
"لكل مقام مقال"، قلت في نفسي. "يالها من فتاة محافظة على الأصول، رغم أنها ليست محافظة في تفكيرها، ورغم أنها بعيدة كل البعد عن أشكال الإتباع والببغائية التي عادة ما تُحسب على المحافظة الأخلاقية". وكلما صورنا مشهدا إلاّ وانضافَ إلى ذهني تساؤل مستحدث حول الفتاة صاحبة القميص الساتر حتى أضحت المسألة من قبيل الهوس: "لماذا لا تفعل الفتيات الأخريات مثلما فعلت البنت الفاعلة، لمّا تظهرن في المحافل العمومية؟ هل تعلمت تلميذتي الاحتشام العربي الإسلامي لمّا كانت في أمريكا؟ هل صار هذا البلد الفاتح لأبواب الجحيم، بمقتضى اغتصابه لآبارنا النفطية وأسواقنا وجيوبنا، مرجعا لنا في الأخلاق التي تتكوّن بفضلها الأمم؟ هل أمريكا أكثر محافظة منّا على الأخلاق إذن لا بدّ أن نصدّق أنها أكثر محافظة منا على العالم وعلى البيئة وعلى السلم؟ هل صرنا أكثر انفتاحا على الدنيا من الأمريكان وبإيعاز من ولدينا ومربينا، لذا قررنا التنازل على الأخلاق لكي نحافظ على الكون والطبيعة بشكل أكثر طرافة من الشكل الأمريكي؟ هل الخلاعة انفتاح وحفاظ ومحافظة؟"
لقد انتظرتُ كثيرا لكي أحصل على إجابة مباشرة. بل خِلتُ أنّ الأمر موكول للثورة وأنها ستمكنني من الظفر بإجابة. هل صبرتُ ولم تذهب تضحياتي سدى؟ للأسف الشديد الذي جاءني ليس ما كنتُ أتمنى أن تجلبه الثورة للمجتمع بأكمله؛ لم يأتِ بديلٌ عن التلاشي الأخلاقي، بديلٌ نستعيد به الأخلاق لكي تستعيد الأمة إشعاعها الحضاري ("وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فأن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، أحمد شوقي)؛ الذي أتانا إنما هو تأكيدٌ للانحلال، ليس إلاّ: كان ذلك في قالب حدث رياضي شبابي و نسوي عالمي: فوزُ التونسية أنس جابر بلقب عالمي في دورة رولون قاروس لكرة المضرب. جاءنا التأكيد ولو أنه مقسم، مثل الشخصية العربية الإسلامية ما بعد الثورية، إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول لمّا صدمتني حملة شعواء على موقع فايسبوك شنتها ضدها بعض الأطراف الناشطة لفائدة حزب حركة النهضة الديني، مطالبة الفتاة بارتداء زيّ رياضي "إسلامي"؛ والجزء الثاني لمّا تحدّت البطلة ومعها مُخرج برنامج الأخبار التلفزيوني (في يوم الاثنين 6-6-2011) الملايين من المشاهدين والمشاهدات المتفائلين خيرا بالثورة وبإنجاز الثائرين والثائرات؛ تحدّيَا الملايين من الأمهات المربيات والملايين من الفتيات المتربصات لكل المستجدات في حقل النهوض والرفع من الكرامات: قُوبلت الفتاة البطلة في استديو الأخبار بكتفين عاريين، لكلأنها في ساحة الوغى، تضرب اليد باليد لدفع البلاء، لكأنها تتنافس على لقب آخر عدا اللقب العالمي الذي بسببه تمت دعوتها للمثول أمام الكاميرا (وقد تعزز المشهد بظهور والدتها معها في اليوم لموالي على الشاشة)، وكم تمنيت حينئذ لو قبلت التنافس مع تلميذتي؛ ثالثا وختامها مسك لمّا رأيتها بأمّ عيني، تتقبّل التهاني من عند أعلى هرم في السلطة وهي ترتدي "بروتال" لا يدع مجالا للشك بأننا استبقنا أمريكا، ولو بسبب مختلف، إلى الجحيم.
محمد الحمّار
باحث في أساليب الرقي بفضل اللغة والدين وتطوير العربية انطلاقا من الأجنبية
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat