من السذاجة بمكانٍ الاعتقادُ بأنّ النظم الدقيق الملحوظ في هندسة المرجعية العليا قائمٌ عفويّاً دون مقدّمات واستشارات وتنسيقات وتوافقات وقرارات ... ليس المطروح ادّعاءً يحمل بين طيّاته إثبات خصائص الكمال والتمام دون نقص أو عيب ، بقدر ما هي زاوية مراقب رام التذكير والتوقّف عند حقائق بعض المحطّات ، ثم التأمّل فيها قدر ماتستحقّه من التأمّلات ..فلا نزعم من خلالها إماطة اللثام عن أسرار خفيّة ، أو نسعى إلى سبقٍ خبري إعلامي ، فالأشياء واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار ، سوى أنّها تلتمس التدبّر والبصيرة النافذة .
لذا نقول مراجعةً وتذكيراً بهذه المحطّات : مدينة النجف الأشرف هي مركز القرار ؛ لوجود شخص المرجع الأعلى فيها ، ومن الطبيعي أن ترنوها الأنظار في شتّى القضايا والأحداث ترتقب الرأي والبيان والفتوى ... ولازالت هذه المرجعية منذ أكثر من عشر سنوات تضطلع بالدور المفصلي في رسم مستقبل العراق على وجه الخصوص والتشيّع المعتدل العقلاني على وجه العموم ، حتى اضطرّت مراكز القرار العالمي والإقليمي إلى الإذعان بحقيقة كون النجف تشكّل ثقلاً كبيراً في تحديد وحسم الملفّات الساخنة والمصيرية . ونظراً لعمق البحث الذي لاتفوت دقائقه على العاقل اللبيب وللترابط العضوي المشهود ، فإنّنا لايمكن أن نتغافل عن محطّةٍ خاصّة ، عن الدور الهامّ الذي يقوم به نَجْلا المرجع الأعلى وحجم الثقل الملقى على عاتقهما ؛ لِما يمتازان به من تقوى وإيمان وعلم ودراية وحصافة وإحاطة بمجريات الاُمور ، مازجها الإخلاص والضبط والأمانة وعالي الشعور .. نعم ، إنّ الكلمة الفصل والتفصيل القاطع للشركة لايصدر إلّا من شخص المرجع الأعلى لاغير ، الذي يرحّب دوماً بالمشورة وتلاقح الأنظار و بالآراء البنّاءة والأفكار الجادّة ، رغم كون الحسم بيده مدّ ظلّه بلا أدنى ريب .
ومن الشموخ في محطّات النظم المعهود أن تظهر الظرافة بجمالها وإناقتها حين تُصنع الفكرة ويصاغ القرار في مدينة النجف الأشرف ويعلن عنهما في مدينة كربلاء المقدّسة ، تؤسَّسان حيث عليّ بن أبي طالب ، ويزاح الستار عنهما حيث الحسين .. ياللروعة ، فهكذا يستمرّ الأب والابن ، عليّ والحسين ، في إبقاء راية الدين خفّاقةً عالية .. إنّها رسالة تواصل وتناغم وتضايف تحمل أكثر من قصد ومفهوم ومعنى ... رسالة صارت بها جمعة كربلاء مهوىً مضاعفاً لقلوب وعقول الملايين وهي تصغي للمرجعية العليا -عبر ممثّلَيْها الجليلَين الفاضلَين - لتدلي بدلوها وتقول كلمتها . ولأجل التركيز على الترابط الآنف الذكر ولأجل التدعيم المصداقي الذي لايقلّ رقيّاً عمّا سواه في مضمار الهندسة المذكورة ومحطّاتها المشهورة ، نشير إلى محطّةٍ هامّةٍ اُخرى ، إلى الحركة المحورية التي يديرها مكتب المرجع الأعلى في مدينة قم الإيرانية ، سواءً إبّان مرحلة التأسيس وماشابها من صعاب وحواجز وضغوطات قد اُزيحت كلّها بفعل الحنكة والفطنة والكياسة وحفظ التوازنات ، بل واستطاعت أن تمهّد السبيل للارتقاء بعلاقات النجف من جانب وقم وطهران من جانب آخر إلى أفضل مايكون .. أو سواءً بإنشاء المراكز الثقافية والاجتماعية والخيرية المفيدة.
وقد استطاع التواصل البنّاء بين مكتب قم والنجف من تذليل الصعاب وتقريب الآراء وتضييع الفرص على مروّجي الفتنة واصطناع الخلافات .
كما لاننسى في المضمار ذاته مكاتبَ مشهد وطهران وبيروت وموسكو وتفليس وجاكارتا وبرلين ومدريد وسائر البلدان بمؤسّساتها التابعة أو تلك المدعومة من المرجعية العليا ، ودورها في خدمة الدين والقيم الحقّة .. التي بإمكانها أن تلعب دوراً أكثر فاعلية من خلال توسيع رقعة العلاقات والنشاطات ، ثم بجهودٍ أرقى للتواصل الممكن مع مختلف المحاور والأركان .
نعود ثانيةً إلى محطّتنا المقصودة ، صلاة جمعة كربلاء المقدّسة ، مورد بحثنا ، فهي مصداق النظم الدقيق الذي لايمكن إنكاره وتجاوزه والتغاضي عنه ، إنّها تمثّل واحدة من الحسابات الدقيقة التي كانت ولازالت كفيلةً بالوقاية من خطر السقوط في فخّ الفجوات التي يصعب جسرها والهفوات التي يتعسّر تصحيحها، فالكلّ كما يبدو وكما ينبغي أن يكونوا -وهم بهذا الحجم وبهذه المسؤوليات الملقاة على عواتقهم من قبل المرجعية العليا - مترفّعون متسامون فوق المنافع الذاتية لأجل المصالح الجمعية ، فيتحرّزون عن الفعل والقول والتقرير اللائي تثير المشكلة وتوجد الفاصلة ، ولعلّ كلمة تُكتب أو همسة تقال - ناهيك عن محاضرة وخطبة ومقال وكتاب - قد تصنع ما لم يستطع صنعه إلّا وسواس الشيطان في القلوب والعقول والنفوس ، فتهوي أو تتصدّع بذلك صروحٌ شيدت بتعب السنين والأعمار ، ًصروحٌ من الحبّ والاُخوّة والوئام .
لذا يمكن القول بالضرس القاطع : إنّ الخطبة الثانية لصلاة جمعة كربلاء المقدّسة تمثّل رأي المرجعية العليا بلازيادةٍ ونقصان ، بل إنّ هندسة القرار والنظر المرجعي بهذا الشكل والمحتوى يعدّ ابتكاراً ناجحاً وطرحاً جديداً موفّقاً ، عمّت خيراته وبركاته على شتّى البقاع والأصقاع .
نعم ، صار الكلّ ، القريب والبعيد ، ينتظر بفارغ الصبر صلاة جمعة كربلاء المقدّسة ؛ لِما فيها من الروحانيّة والمعنويّة المشهودة ، ولاسيّما أنّها تنعقد إلى جوار ضريح أبي الأحرار وسيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السلام . ولانذيع سرّاً إن قلنا : إنّ الخطبة الثانية جمهورها أكثر وأدقّ استماعاً وانتباهاً ..
داعينه تبارك وتعالى أن لانُحرَم بركاتها ، خصوصاً بعد الجمعات الأخيرة التي تركت تلقّياً مفاده : إنّ المرجعية العليا حينما قرّرت أنّها ستبيّن مواقفها حسب الحاجة والظرف ، فهذا يعني زعلها الذي قد يستمرّ ويدوم .الأمر الذي أقلق الناس وأخافهم من مستقبلٍ أكثر اضطراباً.
نقول : حاشا أن يترك الأب أبناءه ، فهذه المرجعية التاريخية التي تمثّل مرحلةً من مراحل تطوّر العقل الشيعيّ الفاعل ، لايمكنها التخلّي عن دورها الدينيّ المقدّس في إدارة شؤون البلاد والعباد طبق المبنى الفقهيّ المعهود ..
فلايحقّ لنا إزاء مقامها الرفيع أن نطلق التحليلات العجولة أو الرؤى المغرضة أو نرسم لها المسار والتكليف عبر بعض الأبواق المأجورة والتصوّرات الفضفاضة الساذجة ، إنّما العكس هو الصحيح ، فهي التي ترسم لنا المسار وتعيّن التكليف ؛ انبعاثاً من واجبها السماوي الذي يعني النيابة الربّانيّة العامّة .. فحينما ارتأت أوترتئي أمراً ما ، فلاشكّ أنّها استفرغت الوسع حتى صاغت هذا القرار واتّخذت ذاك التصميم .
والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الغرر الميامين .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat