صفحة الكاتب : د . عبد الحسين العطواني

نجاح الاعتصامات وفشل المراهنات
د . عبد الحسين العطواني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يُفهم الإصلاح بأنه ينم عن حركة تغيير في الواقع نحو الأفضل ويفترض أن يكون مسيرة مستمرة , وهو يعني ردم الثغرات وتقويم الاعوجاج في أداء فعاليات خاطئة مصاحبة لعمل ما, وغالبا ما تلازم مسيرة الإصلاح شؤون الحياة العامة في البلدان التي تعتمد الأنظمة الديمقراطية , من منطلق أن البعض يعدها أفضل أنواع الحكم , وان رفضها قد يوقع الشعوب في أسوأ أنواع الحكومات الاستبدادية والشمولية . لان رفاهية الشعب واستقراره تتم عبر المؤسسات التي تحدد ألاتجاه العام للمجتمع , وإعداد الأرضية لقيمه الإنسانية , لذلك يجب أن تكون الحكومة متناغمة مع مختلف ظروف الحياة ومقتضياتها , حتى يمكن تلبية المتطلبات الاجتماعية العامة في جميع الوجوه , وتكون مرنه كي تتناسب مع متغيرات كل عصر , والاهم من ذلك ألا تبتلى بالآفات واللوازم المدمرة لسائر الأنظمة الأخرى , وان ترتقي إلى بلوغ المقاصد والأهداف السامية , وتوفير الدوافع العامة لاقتدار واستقلال الشعب على جميع الجهات والمستويات .
وعليه نستطيع القول أن الدخول إلى الحياة الحزبية والتنظيمية لم يكن سهلا بأفكارها وتطوراتها ومفاهيمها الحديثة , لذلك فان المشروع السياسي الوطني الديمقراطي الذي تبلور ونضج بعد عام 2003 لم يكن معبرا عن إرادة الجماهير وتطلعاتهم , ولا لمشاريعهم الإصلاحية المستقبلية , بسبب تخبط مسار بعض القيادات السياسية التي قامت وتأسست على قاعدة السلب والنهب , فقد هيأ التعدد السياسي مناخا سلبيا ويئسا من حدوث عملية إصلاح في العراق في ظل النظام الحالي .
وفي مسار الأزمة الحالية وتداعيات الإصلاح , الذي أطلقته الجماهير المعتصمة أمام المنطقة الخضراء بقيادة السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري , أو بمعنى أدق أسبقية المسارات والإبعاد المختلفة للإصلاح الذي يعد حالة من التعامل الايجابي مع مخرجات الحراك الشعبي السلمي الذي راهن عليه بعض السياسيين عندما التقى بهم السيد مقتدى الصدر , بأن هذا الحراك يشكل عنصر ضعف إضافي للانهيار الأمني , ويزيد من منسوب التوتر والعنف في الشارع العراقي ويؤدي إلى تسارع مؤشرات التدهور بدواع كثيرة , لاسيما ان البلد يخوض حربا على زمر داعش الارهابية , وهذا قد يشغل جزء من القوات الأمنية ويسبب خرقا للجبهتين الخارجية والداخلية , إلا أن الواقع على الأرض اثبت العكس تماما , فقد فرض الحراك الجماهيري أجندة سياسية جديدة تقوم على مفهوم التغيير الشامل والبناء , وليس على الإصلاح الذي يجري في ظل الأطر التقليدية , والقضية المهمة في هذا الجانب هو التلازم والترابط بين المسار السياسي والمسارات الأخرى كالاقتصادية والخدمية والأمنية .
لذلك يمكن توصيف حالة العراق في هذه المرحلة بأنه تتنازعه مقاربتان مختلفتان بما يكيف أسس الإصلاح الجديد : 
المقاربة الأولى: وهي ما تسعى لتطبيقها الحكومة وتحظى بتأييد البرلمان : ترى أن التحدي الاقتصادي هو الأهم , وان دعم التنمية عن طريق المبادرات الدولية بتقديم المساعدات المالية للعراق , والتي تكللت بزيارة السيد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون , والسيد رئيس البنك الدولي , إلى العراق وحضورهما جلسة مجلس النواب يوم السبت 26 / 3 / 2016 وتثمينهما لجهود العراق في حربه على الإرهاب , وخطة الإصلاح المقترحة , موضحا بان الدعم سيكون فاعلا في القضاء على الأزمة الاقتصادية , مما شجع الحكومة بالتركيز على هذا الجانب , ومحاولة تأجيل المسار السياسي , أو الاكتفاء ببعض الصور الشكلية , وهذا ما رفضه المعتصمين .
إما المقاربة الثانية : وهي ما تصبو أليه الجماهير المعتصمة وتركز على البعد السياسي للإصلاح , بوصفه قائدا للإبعاد الأخرى الاقتصادية , والإدارية , والمؤسسية , والفساد , أي أن الرؤية الثانية كانت تتجه نحو مقاربة للتحديات التي يواجهها العراق , وتنذر بانهيار الدولة إذا لم يتم التعامل معها كونها منظومة متكاملة .
آيا كان الأمر , أظهرت تطورات الأحداث السياسية والأمنية في العراق في الآونة الأخيرة أهمية المقاربة الشاملة لمواجهة التحديات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا , بل ورفعت سقف المطالب إلى تغيير الحكومة وإصلاحات فعلية , على الرغم من أن اغلب القوى الشعبية أدركت أن اجتماع الرئاسات الثلاث مؤخرا الذي كرس لدراسة مطالب المعتصمين, استخدمت العديد من المراوغات المختلفة لمواجهة العمل ألتصعيدي, إلا أن ذلك كشف بشكل ضمني عدم الجدية في اتخاذ القرارات السياسية والتنظيمية لمجموعة الإصلاحات المقترحة, ويبدو أن أي خيارات تبلور استكمال مسار الإصلاح على قاعدة التغيير الجذري تشكل تحايلا وانحرافا عن أهداف المتظاهرين ومطالبهم لكون بدأت مفاهيم وأفكار جديدة تدخل الفضاء السياسي .
الأمر الذي عزز من حراك التظاهرات والاعتصامات في الحشود الجماهيرية المؤيدة لمبادرة الإصلاح التي أعلنها السيد الصدر كعنصر ضاغط للإصلاح السياسي والحكومي لكل القوى , والذي يفترض بها أن تستجيب بشكل كلي للأصوات الداعية إلى هذا المسار لكونها تشكل مفتاحا عبر ذلك لحل المشكلات نتيجة لشعور المواطنين بأن الإصلاحات بشكلها الراهن لم تحقق لهم أي مصلحة ملحوظة مادية كانت , أو معنوية مقابل حزمة الإصلاحات السابقة التي أطلقها السيد رئيس الوزراء للمصالح المتمثلة في الخدمات العامة وفرص الحصول على العمل , ومحاسبة المفسدين , نتج عنه غضب الجماهير من الوضع القائم , والتعامل معهم على هذا أساس نظرية المؤامرة, دون الالتفات إلى أن الضمانة التطبيقية وقوة واقتدار الحكومة وأساس استقلالها تكمن في إدارة الجماهير وحضورهم الواعي في تأييد المؤسسات السياسية والحكومية التي تقع على عاتقها رسم الخطوط السياسية وتطبيقها من قبل السلطات الثلاث , والمؤسسات السياسية غير الحكومية مثل الأحزاب السياسية , وجماعات الضغط في الحكومة الواقعة في إطار الدولة والبلاد وتسمى بالنظام السياسي .
لذلك لا نستطيع اليوم أن نقرأ حدث الاعتصامات بعيدا عن الأثر السلبي التاريخي الذي أحدثته الأحزاب العراقية في بنية المجتمع السياسة والثقافة والفكر , كما إننا لايمكننا نقرأ أو نفهم الاعتصامات الجماهيرية أمام المنطقة الخضراء إلا بوصفها إضافة ثورية تقدمية إبداعية شعبية تجاوزية للواقع القائم , ووصفها كذلك إضافة تقدمية موضوعية تجاوزية للمسار السياسي الذي قامت به الأحزاب السياسية الحكومية طيلة المرحلة الماضية منذ تغيير النظام السابق ولحد الآن .
إن بقاء الجماهير وإصرارهم على الوقوف وقدرتهم على الصمود باعتصامات على درجة عالية من الضبط والاحترام بينها وبين القوات الأمنية , والاتزان والتنظيم غير المسبوق لا في العراق ولا في اغلب دول العالم المتقدمة , أثبتت فشل المراهنات التي حاولت بعض الكتل السياسية إطلاقها جزافا في أثناء اللقاء الذي جمع بينها وبين السيد مقتدى الصدر بعدم سلمية الاعتصامات , بل شكلت عنصر قوة إضافي لرئيس الوزراء ليعلن كابينته الوزارية الجديدة بشكل كامل ووضعها أمام مجلس النواب , وفي هذا عمل السيد الصدر على تجاوز المراهنات إلى دور اكبر يسهم في إبقاء العراق موحدا مستقرا في ظل تغيير وزاري شامل في النظام الحالي.
لذلك يمكن القول أن المصداقية في الإصلاح هي مطلب جماهيري يحتاج إلى جهد متواصل , وتحديد آليات لتطبيقه بموازاة نضوج الرؤية , مع ملاحظة أن أسس النجاح في هذا المضمار ليس التفريط بالثوابت , وان الشعب تعلم درسا ومر بتجربة فاشلة في قضية الإصلاح , واتضح بان السياسيين لم يدركوا هذا الواقع بشكله الحقيقي أو الكامل , مع بقاء الشعب صامدا , لكنه قد يضطر إلى الحراك اللاسلمي عندما يقع تحت ضغط الدفع المستمر والمتصاعد الذي يهدف إلى تسويف المطالب وتجاهل الضروريات .
وبالتالي فان حل الإشكالية بين السلطة والجماهير في مسار الإصلاح الجذري , لايمكن تحقيقه إلا ضمن إطار فكري يجسد العلاقة الوثيقة في السعي لتحقيق الأهداف الوطنية التي تعكس المصالح العليا للوطن , فالاختلاف في الرأي حول أي مسألة تتعلق بكيفية تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية أمر مشروع , إلا أن هذا لايمكن أن يجرِ في فراغ مطلق , بل على مجلس النواب السعي بالالتزام بواجب تنفيذ المطالب الشعبية ضمن جهود الإصلاح المشروعة والتصويت على الكابينة الوزارية المقدمة لحكومة التكنوقراط , بعيدا عن التسويف والذاتية والأنانية , إما الاكتفاء بالتصريحات المضللة بأسم الديمقراطية, أو اتفاق الكتل النيابية , أو أسس الشراكة السياسية , فلا هدف لها إلا البقاء على ممارسات الهيمنة التي تصب خارج المصلحة الوطنية , بل لمصالحهم الخاصة , ولا تعود بأي فائدة على تطور الإصلاحات الحقيقية , وقد تنتهي بالبلاد إلى منزلق سياسي واقتصادي وامني لا يحمد عقباه .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبد الحسين العطواني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/04/07



كتابة تعليق لموضوع : نجاح الاعتصامات وفشل المراهنات
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net